منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28405
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
كتاب - اللطائف - للإمام ابن الجوزي -الفصل من ( 41- 52) 1393418480781

كتاب - اللطائف - للإمام ابن الجوزي -الفصل من ( 41- 52) 140

كتاب - اللطائف - للإمام ابن الجوزي -الفصل من ( 41- 52) Empty كتاب - اللطائف - للإمام ابن الجوزي -الفصل من ( 41- 52)

الجمعة 14 أكتوبر 2011, 21:49
كتاب اللطائف







الفصل الحادي والأربعون
إحياء القلوب بالعبرات
[center]



يا جامد العين اليوم، غدا تدنو الشمس إلى الرؤوس، فتنفتح أفواه مسام العروق، فتبكي كل شعرة بعينس.
كأنك بالسماء قد نفضت أكمامها لسرعة فورانها، وانتثرت النجوم، و " يوسف " الهيبة قد برز، فقد قميص الكون.
نفحة فم الريح تحرك الشجر، ونفحة من في الصور تعمل في الصور، نفحة من الصور أماتت، والأخرى أعاشت، لا تعجبوا فإن نفحة نفخة الشتاء في صور البرد أماتت صور الأشجار، ونفس الربيع اعاد الروح.
ريح الدنيا بين مثير ولاقح، وريح الصور تثير الأبدان، وتلقح أشباح الأرواح لقراءة دفاتر الأعمال.
كان " الفضيل " ميتا بالجهل، و " ابن أدهم " مقتولا بالهوى، و " السبتي " هالكا بالمال، و " الشبلي " من جند " الجنيد " فنفخ في صور التوفيق، فانشقت عنهم قبور الغفلة، فصاح " إسرافيل " الاعتبار (كَذِلِكَ يُحيي اللَهُ المَوتى).
إنما سمع " الفضيل " آية فذلت بها نفسه واستكانت، وهي كانت، إنما زجر " ابن أدهم " بموعظة واحدة، هاتف عاتبه، ولائم لامه، أخرجه من " بلخ " إلى الشام.
كانت عقدة قلوبهم أنشوطة، ومشد قلبك كله عقد، أقبلت المواعظ إلى ندى قلب رياض القلوب، فالتقى الماءان. كانت الأعمال تعرض عليهم فيرون الخيانة نقض عهد الزهد.
حَلَفتُ بِدينِ الحُبِ لا خُنتُ عَهدَكُم ... وَتِلكَ يَمينٌ لَو عَرَفَت غَموسُ
كان " الفضيل بن عياض " قد تعود البكاء، فكان يبكي في نومه حتى ينتبه أهل داره.
وكان " ابن أدهم " من شدة خوفه يبول الدم، وكذلك " سري " .
إذا خرجت القلوب بالتوبة من حصر الهوى إلى بيداء التفكر جرت خيول الدموع في حلبات الوجد، كالمرسلات عرفا.
إذا استقام زرع الفكر قامت العبرات تسقي ونهضت الزفرات تحصد، ودارت رحى التحير تطحن، واضطرمت نيران القلق فحصلت للقلوب ملة تتقوتها في سفر الحب.
اسمحوا بحرمة الوفاء، فما كل وقت يطلع " سهيل " طالما أمتم قلوبكم بالهوى، فأحيوها اليوم بوابل العبرات، إذا خرجتم عن المجلس فلا تذهبوا إلى البيوت، واطلبوا هذه المساجد خراب، وضعوا وجوهكم على التراب، " واستغيثوا بألسنة الفاقة من قلوب قد أحرقها الأسف على ضياع العمر في الهوى والبطالة " فإنه إذا صعد نفس " يعقوب " الحزن لم ينتبه دون جمال " يوسف " .
وَإِن شِفائي عِبرةً مُهَراقَةٌ ... فَهَل عِندَ رَسمٍ دراسٍ مِن مُعَوَّلِ
الفصل الثاني والأربعون
الشيب علامة النهاية
يامن مطية عمره قد أنضاها الحرص، هلا كففتها قليلا بزمام القناعة؟ فرب جد أعطب، ورب أكلة تمنع أكلات، وكثرة الماء شرق أو عزق؟ أخل بنفسك في بيت العزلة، واستعن عليها بعدول اللوم، ونادها بلسان التوبيخ، إلى كم؟ وحتى ومتى؟ ألم يأن؟ ويحك!! سرق لص الشيب رأس مال الشباب.
فَأَصبَحتُ مُفلِسَ العُمرِ ... فَهَل ليَ اليَومَ إلا زَفرَةَ النَدَمِ
يا نفس: ذهب عرش " بلقيس، وبلى جمال " شيرين " وتمزق فرش " بوران " وبقي نسك " رابعة " .
كانت أيام الشباب كفصل الربيع، وساعاته كأيام التشريق، والعيش فيه كيوم العيد، فأقبل الشيب يعد بالفناء، ويوعد بصفر الإناء، فأرخى مشدود أطناب العمر، ونقض مشيد سرائر القوى.
أديل ضعف الشيب على الشباب فعمل معول الوهن وراء الجلد في الجلد، فصار مربع الحياة قفرا قد خلت بطاحه، ومربع اللهو هباء تذروه الرياح، وإن الهالك من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل، أبقي بعد الشيب منزل غير البلى؟ بلى أنت تدري أين تنزل.
مرحلة الشيب تحط على شفير القبر، وقد اتخذت من رأي الهوى حصنا، فما هذا الأمل؟.
اتطلب ربيع وأنت في ذي القعدة؟! اللذة سلاف ولكن مزاجها زعاف، الهوى عارف في العاجلة، ونار في الآجلة، ومن تبصر تصبر.
أيظن الخائض في الدنيا أن له فراغا عنها؟؟ هيهات، ما يفرغ منها إلا من اطرحها.
فَما قَضى أَحَدٌ مِنها لُبانَتَهُ ... وَلا اِنتَهى أَرَبٌ إِلا إِلى أَرَبِ
أيتوهم المسوف بالتوبة أن لمرحلة الهوى آخر؟ كلا؛ إن الذي يقطعه عن الإنابة اليوم معه في غد، وما يزيده مرور الأيام إلا رسوخا بدليل: " يشيب ابن آدم " وتشيب معه خصلتان.
يَطلُبُ المَرءُ أَن يَنالَ رِضاهُ ... وَرِضاهُ في حاجَةٍ لا تُنال




وإنما وجد الراحة في الدنيا من خلالها لا من خاللها، لاح لهم عيبها، فما ضيعوا الزمان في السوم، بلغتهم خطوات الرياضة إلى الرياض فاستوطنوا فردوس الأنس في قلة طور الطلب.
يا مؤثرا على بساتين القوم مقابر النوم: ليس في طريق الوصال تعب، إنما التعب ما دام في النفس بقية من الهوى، الظلمة ليل لا لليلى.
يا لَيلُ ما جِئتُكُم زائِراً ... إِلا وَجدَتُ الأَرضُ تُطوى لي
وَلا انثَني قَصدي عَن بابِكُم ... إِلا تَعَثَرتُ بِأَذيالي
المنحرف ضال عن الجادة، طر بجناح الخوف والرجاء من وكر الكسل على خط مستقيم الجد لا تعدل فيه عن العدل، فإذا أنت في مقعد صدق.
؟الفصل الثالث والأربعون صفات العابدين وقت العارف جد كله، لعلمه بشرف الزمان، والنهار مطالب بحق الملك، والليل يقتضي دين الحب، فلا وجه للراحة.
لما عاينت أبصار البصائر " يوسف " العواقب، قطعت أيدي الهوى بسكين الشوق، فولوج الجمل في سم الخياط، أسهل من دخول اللوم في تلك الأسماع، فإذا حان حين الحين فرح سائر الليل بقطع المنزل، وصاحت ألسنة الجد بالعاذلين (فَذَلِكُنّ الَّذي لُمتُنَني فيه).
قُلوبٌ أَبَت أَن تَعرِفَ الصَبرَ عَنهُمأَثمانُ المَعالي غالِيَةً فَكيفَ يَستامها مفلس
وَكَيف يُنالُ المَجدُ وَالجِسمُ وادِعُ ... وَكَيفَ يُحازُ الحَمدُ وَالوَفرُ وافِرُ
كلما تعاظمت الهمم تصاغرت الجثث.
وَلَستَ تَرى الأَجسامَ وَهي ضَيئلَةٌ ... نواحِلُ إِلا وَالنُفوسُ كِبارُ
قال " يحيى بن معاذ " : لتكن الخلوة بيتك، والمناجاة حديثك، فإما أن تموت بدائك، أو تصل إلى دوائك.
لا تَزل بي عَنِ العَقيقِ فَفَيهِ ... وَطَري إِن قَضيتُهُ أو نَحبي
لا رَعيتُ السُّوامَ إِن قُلتُ لِلصُحبَةِ خِفّي عَني وَلَلعينُ هُبّي
دخلوا على " أبي بكر النهشلي " وهو في السوق يركع ويسجد، ودخلوا على " الجنيد " وهو في النزع وهو يصلي، فسلموا عليه، فرد السلام وقال: هذا وقت يؤخذ منه: الله أكبر.
إذا اِشتَغَلَ اللاهونَ عَنكَ بِشُغلِهِم ... جَعلتُ اِشتِغالي فيكَ يا مُنتهى شُغُلي
فَمَن لي بِأَن أَلقاكَ في كُلِ ساعَةٍ ... وَمَن لي بِاَن أَلقاكَ وَالكُلُ بي مِن لي
دارت قلوبهم من الخوف دوران الكرة تحت الصولجان، فلعبت بها أكف الأشجان في فلوات المحبة، فمن بين سكران يبث، وبين منبسط يقول، وبين خائف يستجير.
إذا لَعِبَ الرِجالُ بِكُلِ فَنٍّ ... رَأَيتَ الحُبَّ يَلعَبُ بالرِجالِ
نجائب أبدانهم أنضاها سير الرياضة، تجوهرت أرواحهم في بوتقة الجسم، فترافقا في سفر الشوق، فاللسان مشغول بالذكر، والسر مغلوب بالوجد، والعين عبرى بالخوف، والنفس هاربة إلى دار الزهد.
إِنَما أَهرُبُ مِما ... حَلَّ بي مِنكَ إِليكَ
أَنتَ لَو تَطلُب رَوحي قُلتُ هاخُذها إٍليك
كان الحسن كأنه حديث عهد بمصيبة، وكان " مالك بن دينار " قد سوّد طريق الدمع في خده.
وَمَن لُبُّهُ مَعَ غَيرِهِ كَيفَ حالُهُ ... وَمَن سَرَّهُ في جَفنِهِ كَيفَ يُكتَمُ؟
كان " عطاء السّلمي " يبكي في غرفته حتى تجري دموعه في الميزاب إلى الطريق، فقطرت دموعه يوما فصاح رجل: يا أهل الدار: ماؤكم طاهر؟ فقال " عطاء " : اغسله فإنه دمع من عصى الله تعالى.
كان " داود " عليه السلام يؤتى بالإناء ناقصا فلا يشربه حتى يتمه بدموعه.
يا ساقي القَومِ إِن دارَت إِليَّ فَلا ... تَمزِج فَإِني بِدَمعي مازِجٌ كاسي
الفصل الرابع والأربعون
الغراب والعنكبوت
يا مستفتحا أبواب المعاش بغير مفتاح التقوى، كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق؟ لو اتقيت ما عسر عليك مطلوب، مفتاح التقوى يقع على كل باب، ما دام المتقي على صفاء التقى لا يلقى إذن أذى، فإذا انحرف عن التقى التقى بالكدر.
فلما توليتم عنا تولينا لا تزال بحار النعم على الخلق في الزيادة (حَتى يُغيروا ما بأَنفُسِهِم).
ويحك: إنما خلقت الدنيا لك، أفيبخل عليك بما هو ملكك؟ إنما في طبعك شره، والحمية أرفق.




يا أعز المخلوقات علينا: ارض بتدبيرنا، فالمحب لا يتهم، وإنعامنا على ما خلق لك لا يخفى عليك، فكيف ننساك وأنت الأصل؟.
ليس العجب تغذي المولود في حال الحمل بدم الحيض لاتصاله بالحي؛ إنما العجب أن البيضة إذا انفصلت من الدجاجة فمن البياض يخلق الفرخ، وبالمح يتغذى، قد أعطي المخلوق زاده قبل سفر الوجود.
إذا اِنفقأت بيضة الغراب خرج الفرخ أبيض، فتنفر عنه الأم لمباينته لونها، فيبقى مفنةح الفم، والقدر يسوق إلى فيه الذباب، فلا يزال يتغذى به حتى يسود لونه فتعود إليه الأم.
فانظروا إلى نائب اللطف، وتلمحوا شفقة طير الرحمة، ألهم النملة ادخار القوت، ثم ألهمها كسر الحب قبل ادخاره كيلا ينبت، والكسبرة، وإن كسرت قطعتين تنبت فهي تكسرها أربعا.
وَفي كُلِ شَيءٍ لَهُ آَيَةٌ ... تَدُلُ عَلى أَنّهُ واحِدُ
لو رأيت العنكبوت حين تبني بيتها لشاهدت صنعة تعجز المهندس، إنما تطلب موضعين متقاربين، بينهما فرجة يمكنها مد الخيط إليها، ثم تلقي لعابها على الجانبين، فإذا أحكمت المعاقد ورتبت القمط كالسداة اشتغلت باللحمة، فيظن الظان أن نسجها عبث، كلا، إنها شبكة للبق والذباب، وإنها إذا أتمت النسيج انزوت إلى زاوية ترصد رصد الصائد، فإذا وقع في الشبكة شيء قامت تجني ثمار كسبها، فإذا أعجزها الصيد طلبت لنفسها زاوية، ووصلت بين طرفيها بخيط آخر، وتنكست في الهواء تنتظر ذبابة تمر بها، فإذا دنت منها رمت نفسها إليها فأخذتها، واستعانت على قتلها بلف الخيط على رجليها!! افتراها علمت هذه الصنعة بنفسها؟ أو قرأتها على أبناء جنسها؟ أفلا تنظر إلى حكمة من علمها؟ وصنعة من فهمها؟.
لقد نادت عجائب المخلوقات على نفسها ترشد الغافلين إلى باب الصانع، غير أنهم عن السمع لمعزولون.
الفصل الخامس والأربعون
أسفار الحياة
خلقنا نتقلب في " ستة " أسفار إلى أن يتسقر بالقوم المنزل: السفر الأول: سفر السلالة من الطين، السفر الثاني: سفر النطفة من الظهر إلى البطن، السفر الثالث: من البطن إلى الدنيا، الرابع: من الدنيا إلى القبور، الخامس: من القبور إلى العرض، السادس: من العرض إلى منزل الإقامة.
فقد قطعنا نصف السفر، وما بعد أصعب.
إخواني: السنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤوس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والربح الجنة، والخسران النار، ولهذا الخطب شمر الصالحون عن سوق الجد في سوق المعاملة، وودعوا بالكلية ملاذ النفس.
كلما رأوا مركب الحياة يتخطف في بحر العمر، شغلهم ما هم فيه عن عجائب البحر، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر، فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل، وقد حازوا ربح الدهر.
يا جبان العزم: لو فتحت عين البصيرة فرأيت بإنسان الفكر ما نالوا، لصاح لسان التلهف: يا ليتني كنت معهم، وأين الأرض من صهوة السماء؟؟.
ألا أنت والله منهم ولا تدري من هم.
يا قَلبُ مِن نَجدٍ وَساكنِهِ ... خَلّفتَ نَجداً وَراءَ المُدلَجِ الساري
أَهفوا إِلى الرَملِ تَعلو لي رَكائِبُهُم ... مِنَ الحُمى في أُسَيحاقٍ وَأَطماري
تَفوحُ أَرواحُ نَجدٍ مِن ثِيابِهِمُ ... عِندَ القُدومِ لِقُربِ العَهدِ بِالدارِ
يارَاكِبان قِفالي فاقضِيا وَطَري ... وَخَبِّراني عَن نَجدٍ بِأَخبارِ
هَل رُوَّضَتَ قاعَةَ الوَعساءِ أَو مُطِرت ... خَميلةَ الطَلحِ ذاتُ البانِ وَالغارِ
أَم هَل أَبيتَ وَداري عِندَ كاظِمَة ... داري وَسُمَّارُ ذاكَ الحَي سَماري
فَلَم يَزالا إِلى أَن نَمَّ بي نَفَسي ... وَحَدَّثَ الرَكبُ عَني دَمعي الجاري
ويحك: في صناديق هذه الأيام أودعت بضائع القوم، في هذه المزرعة المحلاة بذروا حبَّ الحب، فإذا حصدوا نادي بك هاتف اللوم: في الصيف ضيعت اللبن.
كُشفت عن عيونهم حجب الفعلة، فنظروا بلا معاينة، وخاطبوا بلا مشافهة.
تراه بالشوق عيني وهو محجوب أنضوا رواحل الأبدان في سفر المحبة، حتى بلغوا منى المنى قبل فوات الوقفة (تِلكَ أُمَةٌ قَد خَلَت).




بانوا وَخُلِّفتُ أَبكي في ديارِهِمُ ... قُل لِلديارِ سَقاكَ الرائِحُ الغادي
وَقُل لأظعانِهِم حُييتِ مِن ظُعُنٍ ... وَقُل لِواديهُمُ حُيِيتَ مِن وادي
دخل رجل ناحل الجسم على " عمر بن عبد العزيز " فقال له: مالك هكذا؟ فقال: ذقت حلاوة الدنيا فرأيتها مرارة، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وذلك قليل في جنب ثواب الله وعقابه.
أَميرُ الهَوى مِن هَوا ... كَ في شُغلٍ شاغِلِ
تَسَربَلَ ثَوبُ الضَنا ... عَلى بُدنٍ ناحِلِ
ذابت قلوبهم بنيران الخوف، فأحرقت موطن الهوى، واضفرت الألوان لقوة الحذر فتنكست رؤوس الخجل، فإذا أردت أن تعرف أحوالهم فاسمع حديث النفس بين النفس.
خُذي حَديثَكَ في نَفسي مِنَ النَفَسِ ... وَجدُ المَشوقِ المعنّى غَيرُ مُلتَبِسِ
الماءُ في ناظري وَالنارُ في كبدي ... إِن شِئتَ فاغتَرِفي أَو شِئتَ فاقتَبِسي
الفصل السادس والأربعون
العجز والتواني
لما وقع الأولياء في ظلمات الدنيا قطعوا بالجهاد مفاوز الهوى، أضاءت لهم سبل السلامة فتعارف القوم في طريق الصحبة، إن أضاء لهم برق الرجاء مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم ليل الخوف قاموا، فالقوم لا يخرجون من حيز الحيرة، لو رأيتموهم لقلتم مجانين.
إِذا كُنتَ خَلواً فاعذُر في الهَوى ... فَما المُبتَلى وَالمُستَريحُ سَواءُ
أَلا إِنّ قَلبَ الصَبِّ في يَدِ غَيرِهِ ... يُصَرِّفُهُ وَسنَى وَالفُؤادُ هَباءُ
كَربُ المُحِب بالنهار يشتد بمزاحمة رقباء المخاطبة، فبلبل باله في قفص كتمان حاله، فإذا هبت نسائم الأسحار وجدت روحه روحا يصل من قصر مصر المنى، إلى أرض كنعان الأمل، فقام ركب الشوق يتحسس النسيم من فرج الفرج، وله وله.
تُزاوِرنَ عَ، أَذرُعاتٍ يَميناً ... نواشِزُ لَسنَ يَطِنَ البُرينا
كُلِفنَ بِنَجدٍ كَأَنّ الرِياضَ ... أَخَذنَ لِنَجدٍ عَلَيها يَمينا
إِذا جئتُما بانَةَ الواديين ... فأرخُوا النُّسوعَ وَحُلُّوا الوَضينا
فَثَمَّ عَلائِقُ مِن أَجلِها ... مِلءُ الدُجى وَالضُحى قَد طَوينا
وَقَد أَنبَأتهُم مِياهَ الجُفونِ ... بِأَنّ بِقَلبِكَ داءً دَفينا
إخواني: نهار الحزين كالليل، وليل المطرود كالنهار، يا أعمى عن طريق القوم، أنا مشغول بإصلاح عينك، فإذا استوت أرشدتك الطريق، هذا أمر لا ينكشف للقلوب المظلمة برين الهوى، حتى يجلوها صيقل المجاهدة، أرض مشحونة بشوك الذنوب فلو قد أسلمتها إلى الزارع رأيتها قد تغيرت (يَوم تُبَدَلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرض).
ويحك: بين العجز والتواني نتجت الفاقة.
كان القوم إذا سمعوا موعظة غرست نخل العزائم، ونبات قلبك عند المواعظ نبات الكشوثي.
واعجبا!! لمن أصف القوم؟ أراني أتلو سورة " يوسف " على " روبيل " كم بين ثالثة الأثافي وسادسة الأصابع. يا مطرودا ما يشعر بالطرد، إنما يجد وقع السياط من له حس، تالله لو أقلقك الهجر ما سكنت دار الراحة، أنت والكسل كندماني " جذيمة " وليت صوت هذا الهاتف وصل إلى سمع القلب.
يا له من عتاب لو كان للمعتاب فهم، لقد نفخت لو كان فحم، واأسفا مرعىً ولا أكولة، سور تقواك كثير الثلم، والأعداء قد أحاطوا بالبلد، صحح نقد عملك، فقد انقرضت أيام أسبوعك، جود قبل الحساب انتقادك، فلا مسامح قبل الوزن، ويك قبل الومن، ويك قبل الرمي، تراش السهام، وعند النطاح يغلب الأجم، ويحك: قد دنا رحيلك، وليس في مزود عملك ثمرات تطفىء نار جوعك، ولا في مزادتك قطرات تسكن وقد هجيرك، فالجد الجد في الإستظهار لطول الطريق، عش ولا تغتر.
يا منقطعا في بادية الهوى عن الرفقاء، إلحق الركب فالأمير يراعي الساقة، سر من غير توقف ولو تقطعت أقدام الطلب، فإذا أدركتك قافلة التعب - أيها المنقطع في ظل حائط منقطع - فصوت باستغاثة متحير.
يا راهب الدير هل مرت بك الإبل يا أسف من لا ينفعه إن تأسف، لعبت بوقته أيدي التواني فضاع، فصمت عرى عمره كف المشيب ففات.
يَعِزُّ عَليَّ فِراقي لَكُم ... وَإِن كانَ سَهلاً عَلَيكُم يَسيراً




يا قوام الليل اشفعوا في راقد، يا أحياء القلوب ترحموا على ميت، سا سفراء الطلب احملوا رسالة محصر.
خذوا نظرة مني فلاقوا بها الحمى
أَيا رفقة من أرض بصرى تحملت ... تؤم الحمى لقيت من رفقة رشدا
إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا
الفصل السابع والأربعون
في ذم إبليس
إخواني: العناية غنى الأبد، لما سبق الإختيار في القدم للطين المنهبط صعد على النار المرتفعة، فعلمت جهنم أن المخلوقات منها، لما قاوم التراب كانت الغلبة للتراب، وكفاها ما جرى عبرة، والسعيد من وعظ بغيره، فإذا مر المؤمن عليها أسلمت من غير جدال، وقالت: " جز فقد أطفأ نورك لهبي " .
مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة قبل الشرائع، كقلب " قس " (يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نار) لاح مصباح الهوى من سجف دار الخيزران، فإذا " عمر " على الباب.
ولما عميت بصيرة إبليس صار نهار الهدى عنده ليلا، كان في عين بصيرته سبل، فما نفعه اتضاح السبل، رجع الخفاش إلى عشه فقال لأهله: أوكروا، فقد جن الليل، فقالوا: الآن طلعت الشمس، وأنت تقول: جن الليل، فقال: ارحموا من طلوع الشمس عنده ليل.
لما أضاءت أنوار النبوة رأتها عين " بلال الحبشي " وعميت عنها عين " أبي طالب " القرشي. إخواني: احذروا نبال القدرة، وهيهات لا ينفع الحذر، فإن صلح شيء من باب الكسب فاللحاء أعوذ بك منك، أين القلق " والقلوب بين أصبعين " .
إن القضاة إذا ما خوصموا غلبوا كان إبليس كالبلدة العامرة بالعبادة، فوقعت فيها صاعقة الشتاء، فهلك أهلها (فَتِلكَ بُيوتُهُم خاوِيةٌ بِما كَسبوا).
وَمَن لَم يَكُن لِلوِصالِ أَهلُ ... فَكُلُّ إِحسانِهِ ذنوبُ
أخذ كساء ترهبه، فجعل جلال كلب أهل الكهف، فأخذ المسكين في عداوة الآدمي فكم بالغ واجتهد، وأبى الله إلا أن لا يقع في البئر إلا من حفر.
ويحك: ما ذنب الآدمي وأنت جنيت على نفسك؟ ولكنه غيظ الأسير على القد، إنما هلك إبليس بكبر (أَنا خَيرٌ مِنهُ) وسلم " آدم " بذل (ظَلَمنا أَنفُسَنا) ومقام العبودية لا يحتمل إلا الذل.
كُلَما رَاعَنَي بِعِزِّ المَوالي ... جِئتُهُ خاضِعاً بَذلِّ العَبيدِ
المسكين إبليس ظن أنه قد حاز بامتناعه عن السجود عزا، فوقع في ذل (وَأَنّ عَلَيهِ لَعنَتي) فكأنه فر من المطر إلى الميزاب، كانت خلعة العبادة لا تليق به فنزعت عنه.
إلا رُبَّ جِيدٍ لا يَليقُ بِهِ العِقُدُ
كان أعجمي الفهم فما لاقت به حلية التعبد، وكان " آدم " عربيا فما حسنت عليه قلنسوة الخلاف، أخرجهما قسر القدر لبيان ملك التصرف، ثم رد كل إلى معدنه.
إن الأُصولَ عَلَيها تَنبُتُ الشَجرُ
لقي إبليس " عمر بن الخطاب " فصرعه " عمر " فقال بلسان الحال: يا عمر أنا المقتول بسيف الخذلان قبلك.
بيَ الناسُ أَدواءُ الهِيامِ شَرِبتُهُ ... فَإِياكَ عَني لا يَكُنُ بِكَ ما بِيا
يا عمر: أنت الذي كنت في زمن الخطاب لا تعرف طريق الباب، وأنا الذي كنت في سدة السيادة، وأتباعي الملائكة، فوصل منشور (لا يُسأَل) فعزلني وولاك، فكن على حذر من تغير الحال، فإن الحسام الصقيل الذي قتلت به في يد القاتل، فلما لعبت أيدي القلق " بعمر " بادر طريق باب البريد بالعزل والولاية: يا حذيفة يا حذيفة.
؟الفصل الثامن والأربعون
؟في العزلة
المؤمن على طهارة التوحيد من يوم (أَلَستُ بِرَبِكُم) غير أنه لما خالط أوساخ الهوى تدنست ثياب معاملته، وليس لها تنظف إلا بماء العلم في بيت العزلة.
العزلة رأس الحمية من الدنيا، تخيط عين بازي الهوى فيألف الفطام على الطيران، والعزلة صحراء خالية عن بقاع يا سرعة إبصار الهلاك فيها لذي بصر، قل غرس خلوة إلا وعليها ثمرة الأنس.




أيها المبتدىء: عليك بالعزلة، فإنها أصل العمل، تضم شتات قلبك، وتحفظ ما لفقت من خصال يقظتك، فإن حالك كمرقعة بالية، إن تحركت فيها تمزقت. إذا جرى القدر باجتماع العقل واليقين في بيت الفكر أخذ في توبيخ الأمارة، فإن كان زمن المرض قد انقضى، أثر اللوم ثوران العزيمة إلى قطع القواطع، فحينئذ تكتب النفس بكف الهجر طلاق الهوى، وتتجلبب زرمانقة الزهد، وتترهبن في دير العزوف، فتستوحش من أهل الدنيا شغلا بصحبة " أنا جليس من ذكرني " .
يا من قد ضاع " يوسف " قلبه، جز بخيم القوم لعلك تجد ريح " يوسف " قف في السحر على أقدام الذل وقل (يا أَيُها العَزيزُ مَسَنا وَأَهلَنا الضُرُّ) يا مخذول التواني، يا مجدوع الأماني، غرق مركب عمرك في بحر الكسل، ويحك: من لازم المنام لم ير إلا الأحلام متى تفتح عين عزمك؟ فيا طوول هذا الكرى، أما تستنشق ريح السحر؟ أما تجد برد هواء الفجر؟ أما تعاين ضوء الشيب؟ أما يؤلمك عتاب الدهر؟.
تَنَبَهي يا عَذباتَ الرَندِ ... كَم ذا الكَرى هَبَّ نَسيمُ نَجدِ
أُعَلِلُ القَلبَ بِبانِ رامَة ... وَما يَنوبُ غُصنٌ عَنِ قَدِّ
وَاقتَضى النَوحُ حَماماتِِ اللَوى ... هَيهاتَ ما عِندَ اللَوى عِندي
رحل ركب المحبة على أكوار العزائم، فصبحوا منزل الوصل وأنت نائم بعد يا " عمر " العزم: إلى كم في دار الخيزران، يا " فضيل " المحبة متى تكسر سيف الفضول؟ يا " ابن أدهم " الجد: دخلت شهور الحج فما قعودك " ببلخ " .
هَل لَكَ بِالنازِلينَ أَرضَ مِنىً ... يا عِلمُ الشَوقِ بَعدَنا عِلمُ
؟الفصل التاسع والأربعون
الذين سبقت لهم منا الحسنى
إذا وقت عزيمة الإنابة في قلب من سبقت لهم الحسنى قلعت قواعد الهوى من مشتاة الأمل، ركب " إبراهيم " يوما للصيد، وقد نصب له فخ (يَهديهِم رَبُهُم) حوله حب (يُحِبُهُم) فصيد قبل أن يصيد.
عبر ترجمان الهوى عن لغة " سَبَقَت لَهُم) فقال: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، رماه الطبيب وقت انقضاء المرض، فسقاه دواء مفردا، فنفض به قولنج الهوى، رماه بسهم مواعظ ألقته عن قربوسه وبؤسه، لاحت له نار الهدى، فصاح في جنود الهوى: (إني آَنَستُ ناراً) فتجلى له انيس تجدني فاستحضره، فغاب عن وجوده، فلما أفاق من صعقة وجده، وقد دك طور نفسه، صاح لسان الإنابة بعبارة الإصابة (تُبتُ إِليكَ) فلما خرج عن ديار الغفلة أومأت اليقظة إلى الهوى:
سَلامٌ عَلى اللَذاتِ وَاللَهوِ وَالصِبا ... سَلامَ وَداعٍ لا سَلامُ قُدومِ
يا " ابن أدهم " : لو عدت إلى قصرك، فتعبدت فيه، قال العزم: كلا، ليس للمبتوتة نفقة ولا سكنى.
أَحَنُّ إِلى الرَملِ اليَماني صِبابَةٌ ... وَهَذا لَعَمري لَو رَضيتُ كَثيبِ
وَلَو أَنَّ ما بي بالحَصى فَلَقُ الحَصى ... وَبالرِيحِ لَم يُسمَع لَهُنّ هُبوبُ
هام في بيداء وجده، فاستراح من عذول أمرضته التخم، فاستلذ طعم طعام الجوع، وحمل جلده على ضعف جلده خشونة بالصوف.
ظَفِرتُم بِكِتمانِ اللِسانِ فَمَن لَكُم ... بِكِتمانِ عَينٍ دَمعُها يَذرِفُ
حَمَلتُم جِبالَ الحُبِّ فَوقي وَإِنَني ... لأَعجَزُ عَن حَملِ القَميصِ وَأَضعُفُ
لاح له جمال الآخرة من خلال سجف (لَنَهدِيَنّهُم) فتمكن الحب من حبة القلب، فقام يسعى في جمع المهر من كسب الفقر.
طال عليه انتظار اللقاء، فصار ناطور البساتين.
تقاضته المحبة بباقي دينها، فسلم الروح في الغربة، هذا ثمن الجنة، فتأخر يا مفلس.
الفصل الخمسون
الحزم مطية النجاح
إخواني: في الأعداء كثرة، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، قاتلوا بسلاح العزائم (حَتى لا تَكونَ فِتنَة) فمتى حمل عليهم فارس حد (غُلِبوا هُنالِكَ وَانقَلَبوا صاغِرين) إخواني: من تلمح حلاوة العواقب نسي مرارة الصبر.
الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول.




إخواني: عليكم بطلب الجنة، فإن النار وسط الكف، شهوات الدنيا مصائد تقطع عن الوصول، فإذا بطلت الشهوات بحلول الموت أحس الهالك بما لم يكن يدري، كما أن خوف المبارز يشغله عن ألم الجراح، فإذا عاد إلى المأمن زاد الألم، فإذا ماتوا انتبهوا.
كما شَيّعتُم قَريباً، وَرَميتُموهُ سَليباً، وتركتموه وأسمعكم من الوعظ عجيبا (ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم مِن بَعدِ ذَلِك).
تالله إن الزاد لطيف، وإن المزاد لخفيف، مع أن الأمر جد، والخطب إد، إن الحازم لا يترك الحذر حتى يصل المأمن.
لما اِعترض إبليس " لأحمد " قال: فتني، قال: لا بعد.
لا فرح بوصول الكوفة وما عبرت العقبة، الطمع مركب التلف، والحزم مطية النجع، والتواني أبو الفاقة، والبطالة أم الخسران، وما يحصل برد العيس إلا بحر التعب.
ما العز إلا تحت ثوب الكد
إخواني: ذهب والله في التفريط العمر، غفل الوصي فضيع مال الطفل، مصيبتنا في التفريط واحدة.
أَجارَتُنا إِنا غَريبان ها هُنا ... وَكُلُ غَريبٍ للِغَريبِ نَسيبُ
رحل ركب المحبة في ظلام الدجى، فصبح القوم المنزل ، ونحن على غير الطريق. واأسفا من قلة الأسف، واحزناه على عدم الحزن، قفوا على آثار السالكين فاندبوا المنقطع.
لَيسَت بِأَطلالي وَلِكِنَها ... رُسومُ أحبابي فَنُوحوا مَعِيَ
يا ساكِناً بِالبَلدِ البَلقَعِ ... وَيا دِيارَ الظاعِنينَ اِسمَعي
يا ديار الأحباب: أين سكانك؟ يا مرابع الأحباب: أين قطانك؟
ها إِنّها مَنازِلٌ تَعَوَّدَت ... مِني إِذا شارَفتُها التَسليما
يا نَفحَةَ الشِمالِ مَن تِلقائِها ... رُدَّي عَلي ذاك النَسيما
يا متخلفا ما جاء مع المعتذرين: رحل الركب في زمان رقادك، فإذا قمت من الكرى فأقم مأتم الندب، قف على الرسوم وابك على انقطاعك، لعلك تؤنس رفيق " تجدني " .
إذا جُزتَ بِالغَورِ عَرَّجَ يَميناً ... فَقَد أَخَذَ الشَوقُ مِنّا يَمينا
وَسلِّم عَلى بانَةِ الواديين ... فَإِن سَمِعَت أَوشَكتَ أَن تَبينا
فَصَح في مَغانِيهِم أَينَ هُم ... وَهَيهاتَ أَمَّوا طَريقاً شُطونا
وَرَوِّ ثُرى أَرضِهِم بِالدُموعِ ... وَخَلِّ الضُلوعَ عَلى ما طَوينا
أَراكَ يَشوقُكَ وادي الأَراكِ ... ألِلدارِ تَبكي أَم لِلساكِنينا
سَقى اللَهُ مُرَبَعَنا بِالحُمى ... وَإِن كانَ أَورثَ داءً دَفينا
الفصل الحادي والخمسون
عاقبة التفريط
إذا قمتم من المجلس فادخلوا دار الخلوة ساعة، وشاوروا نصيح الفكر، وحاسبوا شريك الخيانة، وتلمموا تفريط الكسل في بضاعة العمر، تأسفوا على كل ذنب كان، أو حظ من الله فات.
البدار البدار نحو البقية، فيلقى المفرط ما ضاع، وليحذر الأعور الحجر، لا تحتقر يسير الخير، فالذود إلى الذود إبل، ضلت قلوبكم في بوادي الهوى، فقوموا على أقدام الطلب، وألقوا أزمة السير إلى حادي الأسف و (تَحسَسوا مِن يُوسُفَ وَأَخيهِ).
جد في نشدان ضالتك ولا تيأس من روح الله، فكم شفي من أشفى على الهلاك.
عَرِّجوا بِالرِفاقِ نَحوَ الرَكبِ ... وَقَفوا وَقفَةً لأنشُدَ قَلَبي
وَخُذوا لي مِنَ النَقيبِ لِماظاً ... أَو رُدوا بي إِلى العُذيبَ وَحَسبي
فَهُبوبُ الرِياحِ مِن أَرضِ نَجدٍ ... قَوتُ قَلبي وَحَبَّذا مِن مَهَبِّ
يا نَسيمَ الصِبا تَرَنَم عَلى الدَّوَحِ بِصوتٍِ يَشجي وَإِن طارَ لُبِّي
مَن مُعيدٌ أَيامنا بَلوى الجَزِعِ وَهَيهاتَ أَينَ مِنّي صَحبي
واعجبا!! ما انظر الأجساد، لكن فقد نظر القلوب، إذا لم يحركك الربيع وَأزهاره، والسماع وأوتاره، فمن أنت؟ ويحك: نوح الحمام غزل، لو كان في قلبك محبة فابك بكاء " الجنيد " لعلك تقع بسر " سري " بع مال الهوى فيمن يزيد، إن شئت لحقا " أبي زيد " .
كم دعتك فرصة لو كنت أجبتها، إن جناب الحق لفسيح، غير أن الجهل مطرود.
ويحك: قد لاحت نار الهدى من زناد المواعظ، فقم على أقدام الجد لعلك تجد على النار هدى.




لأيِّ مَرمىً تَزجُرُ الأَيَانِقا ... إِن جاوَزت نَجداً فَلَستَ عاشِقا
وَإِنّما كانَ بُكائي حادِيا ... رَكبَ الغَرامِ وَزفيري سائِقا
واعجبا من الواقفين على مواقف: إن وفقنا!! ثم لا يتعرضون بجناب التوفيق (إِن يُريدونَ إِلاّ فِراراً).
ويحك: دنت عساغكر البطالة (فَانفِروا خِفافاً وَثِقالاً) خذوا من الدنيا قدر ما يعبر القنطرة، ولعمري: إن ضرورات المعاش تغير وجه المراد، فيتعثر السالك (وَمَن يَتِقِ اللَهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً) هذا إن جرى القدر بمحبوب أو بمكروه (فَلا يَكُن في صَدرِكَ حَرَجٌ مِنهُ).
دليل محبته لك في الأزل حراسة توحيده عندك، والتخويف سوط يسوق النفس عن ديار الكسل، وما تظنه تعذيب، ورب تقويم بالكسر، تخريق مكان الحبيب من القميص جعله قميصا، لو لم تذنبوا، صولة الوداد تحفظ أهل الأدب، وإن كان الحب في السويداء.
بكت العيون وأنت طارقها
وُدٌ تَقادَمَ عَهدُهُ فَصَفا ... وَجَديداً ودٍّ لَيسَ يَخلُقُهُ
لما ذاق آدم وحواء من الشجرة دار في دائرة التحير، فضربهما صولجان البعد فهبطا، وضارب الكرة يسعى بنفسه في طلبها، هل من سائل؟ هل من تائب؟
فَلَولا البَعدُ ما حُمِدَ التَداني ... وَلَولا البَينُ ما طابَ التَلاقي
يا قائما في سوق الأرباح: ماذا حصلت؟ يا منقطعا في طريق الوصال: هلا توصلت؟ أتراك اشتغلت بنا أو عنا؟ يا منكر، يا نكير: انزلا إلى الخارج من بساتين الأرباح في دار المعاملة، فانظر أهل استصحب شوكة من الشك، أووردة من اليقين اتنكهها فمه الذي قال ((بَلى) يوم (أَلَستُ) هَل غَيرَّ طيبه طول رقا الغفلة؟ هل أنجاس زلله مما يدخل قليلها تحت العفو؟ هل ثمد ماء توحيده يبلغ قلتين؟ أنا مقيم له على الوفاء بكل حال، فانظر هل حال؟
أَلا حَبَذا نَجدٌ وَطَيبُ تُرابِهِ ... وَأَرواحُهُ إِن كانَ نَجدٌ عَلى العَهدِ
أَلا لَيتَ شِعري عَن عَوارِضَتي قُبا ... بِطُولِ اللَيالي هَل تَغَيرَتا بَعدي
وَعَن عَلَوِيَّات الرِياحِ إِذا جَرَت ... بِريحِ الخُزامى هَل تَمُرُّ عَلى نَجدِ
الفصل الثاني والخمسون
التفكير في الرحيل
من تفكر في قرب رحيله تشاغل بالتزود، ولبئس ما صنع بائع نفسه النفسية بالأعراض الخسيسة.
إن الروح في ذاته جوهر لا يتجزأ أو لا يموت، وقدره جوهر لا قيمة له، وإنما آلات البدن خادمة له تعين على السفر له في زجاجة القلب.
نار كالسراج، الحياة ضؤوها، والدم دهنها، والحركة نورها، والشهوة حرارتها، والغضب دخانها، وقد اتخذ من مقدم الدماغ حارسا، ومن وسطه وزيرا، ومن مؤخره حافظا، وجعل العقل استاذا، والحس تلميذا، وفرق الأعضاء في خدمته رجالا وركبانا، وجعل الدنيا له ميدانا يجول فيه في صف حربه لمحاربة أعدائه، فإن غلب، قهر كسرى، وإن غلب فلا أحد.
لما تيقظ تيقظ الأولياء لهذا السفر، خاضوا في ظلمات الطبع يقطعونها بأقدام المجاهدة، فلاح لهم نور الغيب (كُلَما أَضاءَ لَهُم مَشَوا فيه) فإذا هم على باب الوصول، الفقر حليتهم، والليل لذتهم، والخشوع صفتهم.
طال حبسهم في الدنيا، فضجوا إلى الحبيب، فلو انتهبت بالليل سمعت أصوات أهل الحبوس.
يا وُقوفاً ما وَقَفنا ... في ظِلالِ السَلَماتِ
نَتَشاكى ما عِناناً ... بِكَلامِ العَبَرات
أطيار الأشجان في أقفاص الأسرار تصيح من وجدها في الأسحار، كلما هدلت حمائم الشجون هطلت عمائم العيون، فإذا كان حين تتوفاهم الملائكة فتح القفص عن روح تطلب الروح، فتتحير لقرعة (مَن راق) فيهتف به هاتف الوِدادَ (اِرجَعي إلى رَبِكَ) فتنسى مرارة الكأس بحلاوة الخطاب، فتهون شدائد الموت.
فما لجرح إذا أرضاهم ألم يا بعيدا عنهم: أين أنت منهم؟ لا تحسبن الأمر سهلا، نيل سهيل أسهل، أتصقل سيفا ليس في سنحه جوهرية؟ أتحمل صعبا مسنا على الرياضة؟ وهل ينهض البازي بغير جناح.
من لم يهتز بيسير الإشارة، لم ينفعه كثير العبارة، أترى من نبل مواعظي مقرطس؟ بلى ربما وقعت نبلة في قلب حزينن ولم يدر الرامي.
سهم أصاب وراميه بذي سلم




سر في السر على أقدام العزيمة، وليكن همك الظفر لا الغنيمة، فالعز لا يناله جبان، وإنّ أكتب الأقلام الأسنة.
انتبه من رقاد الغفلة، فقد طلع ضوء الشيب، وأسرع في سير الجد فقد رحلت الرفقة، وصوت في أودية الأسحار لعلها ترحمك الساقة، وتلمح آثار السالكين لعلك تقع على الجادة، فإذا لحقت أعراض الركب فقف نفسك على خدمة الإبل، فربما دخلت خيمة من أحببت.
فَقُلتَ دَعوني وَاتّباعي رِكابَكُم ... أَكن طَوعَ أَيديكُم كَما يَفعَل العَبدُ
وَما بالُ زَعمي لا يَهونُ عَلَيهِمُ ... وَقَد عَلِموا أَنّ لَيسَ لي مِنهُم بُدُّ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.



[/center]

________________________________________________
كتاب - اللطائف - للإمام ابن الجوزي -الفصل من ( 41- 52) 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى