- إيمان إبراهيم مساعد
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3902
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
لفهم الصحيح لمنهج السلف للعلامة العبيلان
الجمعة 12 أغسطس 2011, 22:08
بسم الله الرحمن الرحيم
الفهم الصحيح لمنهج السلف
للشيخ عبد الله العبيلان
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فأولاً أحيِّ من يسمع هذا الصَّوت بتحية الإسلام فأقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله-تبارك وتعالى- أن يُسدِّد لنا ولكم الأقوال والأعمال، وأن ينفعنا وإياكم، وأن يرزقنا العلم النَّافع والعمل الصَّالح، والرِّزق الطيِّب، وقد كان-عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في السُّنن يدعو عقب صلاة الصُّبح بهذا الدُّعاء ((اللهم إني أسألك عملاً صالحًا-وفي رواية: عملاً متقبَّلاً- ورزقًا طيِّبًا))
وينبغي على المسلم أن يُعنى بمثل هذا الدُّعاء ويهتمَّ به؛ سؤال الله -تبارك وتعالى- العلم النَّافع، والعلم النَّافع هو المقرِّب إلى الله-جلَّ وعلا-، وسؤال الله-تبارك وتعالى- العمل الصَّالح الموصل إلى الجنَّة، والعمل الصَّالح لا يكون صالحًا إلا إذا بُني على العلم النَّافع، كذلك سؤال الله-تبارك وتعالى- الرِّزق الطيِّب.
وهنا فائدة مهمَّةٌ في دعاء النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلَّم- بهذا الدُّعاء العظيم في بداية النَّهار بعد صلاة الصُّبح؛ لأنّ النَّهار هو موطن العمل والطَّلب والكسب والجِد، واللَّيل هو موطن السَّكن والرَّاحة، ففي مُفتتح النَّهار ونهايته يسأل الله-تبارك وتعالى- هذه الأمور الثَّلاثة، وهذا فيه تنبيه للمسلم أنَّ هذه الأمور الثَّلاثة ينبغي أن يهتم بها من بداية نهاره ومن أول يومه، يهتم بتحصيل العلم النَّافع والعمل الصَّالح المُتَقبَّل، وتحصيل الرِّزق الطيِّب الحلال، ويكون هذا همُّه وكدُّه ونصبه في نهاره كله، فإذا جاء اللَّيل حمد الله-تعالى- على توفيقه وشكر الله على إنعامه، ونام قرير العين أطاع الله-جلَّ وعلا- في يومه، فينبغي أن نهتمَّ بهذا.
موضوع الكلمة إخواني-حفظنا الله وإياكم- هو كما سمعتم: الفهم الصَّحيح لمنهج السَّلف، وهذا الموضوع موضوع في غاية الأهمية، وينبغي لكل مسلم يريد سعادة نفسه وفوزها وفلاحها في الدُّنيا والآخرة أن يهتمَّ بفهم هذا الموضوع الفهم الصَّحيح ويُعنى بذلك غاية العناية؛ لأنّ الأمر والعبرة ليس بمجرد الدعوى، من يدَّعي الإسلام ولا يُقيمه لا قيمة لدعواه، ومن يدَّعي السُّنَّة ولا يقيمها لا قيمة لدعواه، وإنَّما العبرة بالحقائق والأعمال، ليست العبرة بالدَّعاوى، كما جاء عن الحسن البصريِّ -رحمه الله- قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي، ولكنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدّقته الأعمال"، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123]، ويقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[آل عمران:31].
فالعبرة هي بالاتِّباع والاقتداء والعمل بطاعة الله -جلَّ وعلا- والتَّقرُّب إليه بما يحبه ويرضاه من صالح الأقوال والأعمال، وليست العبرة بالدَّعاوى.
ومن هنا ينبغي أن نفهم أنَّ السَّلفية أو الدعوة السَّلفية أو السَّلف أو نحو ذلك ليست دعوى يدَّعيها المرء لنفسه أو لطائفته أو لجماعته أو لفئة من الناس؛ وإنما هي منهج وطريقة وهدىً مستقيم يوصل إلى رضى الله -سبحانه وتعالى-، طريقةٌ صحيحةٌ هي أصحُّ الطُّرق وأسلمها وأعلمها وأحكمها، طريقة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه الكرام والتَّابعين له بإحسان.
ولهذا عندما يعرف المسلم السَّلف أو السَّلفية أو الدَّعوة السَّلفية ينبغي أن يعرفها المعرفة الصَّحيحة السَّليمة البعيدة عن التَّيَّارات الجارفة والفتن الكثيرة المطغية المُلهية المُبعدة عن طاعة الرَّب -تبارك وتعالى-، فينتسب إلى السَّلفية أو السَّلف قولًا وعملًا، واعتقادًا ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلنًا، ينتسب إليهم بهذه الطَّريقة، يستنَّ بسنتهم، والمرء كما أخبر النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع من أحب، كما يقول شيخ الإسلام: "من كان بهم أشبه كان لهم أقرب" أي السَّلف الصالح، ولهذا لابد من فهم منهج السَّلف والعلم بمعنى أو مفهوم السَّلفية، يتعرَّف على المنهج وعلى السَّلفية وعلى الطريقة السُّنيِّة، يتعرَّف عليها يعرف أماراتها يتعلَّم سماتها وعلاماتها، يترسَّم طريقها، ثم يسلك هذا الطَّريق، فيكون من أهل السُّنة ومن السَّلف إذا قام بهذا الأمر.
فليست العبرة بالدعوى، لابد من العلم النَّافع المؤدِّي للعمل الصَّالح المقرّب إلى الله -تبارك وتعالى-.
عندنا هنا قواعد سلفيّة أو سلف ويقابلها أو يضادها خَلَفِيّةٌ أو خَلَف، سلفٌ وخلف، هذان الاسمان ينبغي على المسلم أن يتعرَّف إليهما ويعرف معنى كل منهما، السَلفٌ والخَلَف، مَن السَلف ومن الحقيق بهذا الاسم؟ ومَن الخَلَف ومن الحقيق بهذا الاسم؟
ولعلِّي أنطلق في توضيح أو بيان ضابط كل منهما من خلال حديث عظيم يرويه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهو حديث عظيم جدًا ينبغي لنا أن نتدبَّره، قال ابن مسعود: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك في الإيمان حبَّة خردل)).
هذا حديث عظيم جدًّا، ومن خلاله نستطيع أن نستوضح ونتبيّن مَن السَّلف ومَن الخَلَف؟ أو ما علامة السلف وما علامة الخلف؟
فقوله: ((إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)) أنا أعتقد أنَّ هذا أحسن ضابط لتعريف السَّلف أو السَّلفيّ، أحسن ضابط لتعريف هؤلاء هو هذا: ((إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)) مَن كان كذلك فهو السَّلفيّ أو الذي على الدَّعوة السَّلفية أو المنهج السَّلفي (( إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)).
وأهل العلم قالوا في تعريف السَّلفيِّ أنَّه: "مَن كان على مِثل ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه"؛ كما ثبت في حديث الافتراق -ولعله يأتي معنا نص الحديث-.
بماذا وصفهم -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حديثنا هذا؟ قال: ((يأخذون بسنته ويقتدون بأمره))، هاتان صفتان رئيستان لكل سلفيٍّ ولكل منتمٍ للسَّلف؛ يأخذ بسنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويقتدي بأمر النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، صفتان عظيمتان جدًّا لكل سلفيّ، وهما أهم الصفات:
الأوَّل: الأخذ بالسُّنَّة.
والثَّاني: الاقتداء بالأمر.
الأخذ بالسُّنة هذا فيه إشارة إلى سلامة مصدر التَّلقي عند السَّلفيّ أو المُتّبِع للسَّلف، مصدر تلقيه منهجه في التَّلقي هو الأخذ بالسُّنة، يُنحِّي الآراء، يُنحِّي الأهواء، يُنحِّي الأذواق، يُنحِّي جميع المصادر التي هي مصادر التَّلقي عند أهل البدع، وهي متنوعة وكثيرة جدًّا، فهو مصدره في التَّلقي الأخذ بالسُّنة.
بينما عندما تنظر وتتأمل في الطَّوائف والفرق المختلفة تجد مصادرهم في التَّلقي متباينة، منهم من مصدره الذَّوق والوَجد، ومنهم من مصدره المنام أو الإلهام -فيما يدّعي-، ومنهم من مصدره الكشف، ومنهم من مصدره العقل؛ يعتمد على العقل وما يقوله العقل هو المقدَّم على ما يقوله الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وإذا تعارض أمران يدلُّ على أحدهما النَّقل ويدلُّ على الآخر عقله أخذ بما يدلُّ عليه عقله، ومن المعلوم أنَّ العقول متفاوتة وليست عقلًا واحدًا فالحق لمن؟ بهذا ردَّ السَّلف ضمن ردودٍ كثيرة على أهل هذا القول، بل قال بعض السَّلف: مِن لازِم قولِ هؤلاء أن يقول الواحد منهم: أشهد أنَّ عقلي رسول الله، بدل أنَّ يقول محمَّدًا رسول الله؛ لأنّ عقله مقدَّم على قول الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
ومن المصادر أيضًا الإسرائيليات والقصص والتَّجارب وأشياء كثيرة تجدها في كتب أهل البدع والأهواء.
فأهل السُّنة ليسوا في شيء من ذلك؛ بل سمتهم وسبيلهم وطريقتهم الأخذ بالسُّنة، ولهذا من أسماء السَّلفيين أو السَّلف: أهل السُّنة والجماعة، سُمُّوا بذلك لهذا؛ لأنهم يأخذون بسنَّته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، مصدرهم في التَّلقي سنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلِّم-.
وهذا منهم إنما كان عملًا بوصيته -عليه الصَّلاة والسَّلام، لأنه أخبر أنَّ الأمَّة ستفترق في الأهواء إلى فرق كثيرة قال: ((إلى ثلاث وسبعين فرقة)) فلمّا أخبر بأنها ستفترق أوصى للسَّلامة في هذه الشُّرور وللوقاية من هذه الآفات أوصى بلزوم السُّنة ومجانبة البدعة، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا))، ثم أجاب -عليه الصَّلاة والسَّلام- دون أن يُسأل مبيّنًا السَّبيل والمَخرَج من هذه الأمور فقال: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار)) فأرشد إلى هذا الأمر؛ إلى الأخذ بالسُّنة والتَّمسك بها، اقتفاء آثار الرَّسول الكريم -عليه الصَّلاة والسَّلام- والبعد عن البدع والأهواء أيًّا كان نوعها ومهما كانت صفتها، يبتعد عنها ويحذرها غاية الحذر، ويسأل الله –تبارك وتعالى- أن يُنجّيه من بوائقها وآفاتها ويسأل الله -جل وعلا- أن يُوفَّقه للزوم السُّنة.
فهذه إخواني -وفقنا الله وإياكم- هذه صفة بارزة، بل هي أبرز صفة لأهل السُّنة أو السَّلف هي أخذهم بسنَّة رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، يبحثون عنها ويسألون عنها ويقرؤون الكتب في البحث عنها وتتبعها ومعرفتها، ثم ينقادون ويستسلمون، ولا يُقدِّمون قول أحد على قول رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ولا يقدِّمون قول أحد على حديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولا يتعصّبون لقول أيِّ شخصٍ غيرِ قول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ويعتقدون أنَّ كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ويتتبعون السُّنن ويبحثون عنها ويطبِّقونها في أنفسهم، يجتهدون في ذلك، ويسألون الله -تبارك وتعالى- أن يعينهم على هذا الأمر. الأخذ بسنَّته هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني هو قوله: ((ويقتدون بأمره)) الاقتداء بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- هذه هي الصِّفة الثَّانية العظيمة البارزة لأهل السُّنة أو للسَّلف الصَّالح: الاقتداء بأمر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
الأمر الأوَّل الذي هو الأخذ بالسُّنة هذا يتعلق بالعلم، والأمر الثاني وهو الاقتداء بأمره يتعلَّق بالعمل.
فأهل السُّنة يقتدون بالرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-، هو أسوتهم وهو قدوتهم، كما قال الله -جلَّ وعلا-:﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21]، قدوتهم هو رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقتدون به، ينظرون في أعمال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويسألون عن عبادات النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، عن طاعاته، قيامه بأمر الله، صفة صلاته، صفة حجِّه، صفة ذكره لله -جلَّ وعلا-، ثم يقتدون به.
وهذا –ولا ريب- يتطلّب العلم بسنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- العلم الصَّحيح وتمييز الصَّحيح من الضَّعيف ومعرفة الثابت من غيره، ثم يقتدي بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
وعندما قال: ((بأمره)) أي بما ثبت عنه من أمره، فما لم يثبت أنَّه من أمر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- يَدَعُونه ويقتدون بأمره أي الثَّابت عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فهذا هدي أهل السُّنة في الأخلاق والأعمال والعبادات والسُّلوك؛ الاقتداء بأمر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ينظرون في أخلاق النَّبيِّ يتبعونها، في معاملاته، في شؤونه كلها فيقتدون به -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وقد مرَّ معنا قول الله -جلَّ وعلا-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَوَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21].
إخواني.. أدعو نفسي وإياكم إلى الاهتمام بهاتين الصِّفتين: الأخذ بالسُّنة والاقتداء بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-، لنكون ممن اجتباه الله واصطفاه واختاره ليكون من أنصار النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأتباعه ومن المؤتسين به صدقًا لا دعوى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[آل عمران:31].
ثم لمّا ذكر -عليه الصَّلاة والسَّلام- هاتين الصِّفتين للحواريين والأصحاب قال: ((ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ)) ومعنى قوله: ((تخلُف)) أي يَحدث، يحدث بعد هؤلاء الذين يأخذون بالسُّنة ويقتدون بالأمر يحدث ويوجَد خُلوف، والخُلوف جمع خَلْف ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾[الأعراف:169]، والخَلْف هو الخالِف بالشر.
مَن يخلف الصَّحابة في الشَّر بترك ما هم عليه بالإحداث والابتداع وابتكار الآراء والمناهج والطُّرق هو خَلْف.
والذي يتبع هدي هؤلاء الصَّحابة ويقتدي بهم ويستنّ بهم -وهم مستنُّون بسنَّة النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو من السَّلف.
((ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ)) بماذا وَصَفهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-؟ وصفهم بصفتين قال: ((يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون))، هاتان الصِّفتان بإزاء الصِّفتين السَّابقتين لأهل السُّنة وهي: الأخذ بالسُّنَّة والاقتداء بالأمر، أمَّا الخلف أو الخُلوف هم الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون.
((يقولون مالا يفعلون)) هذا فيه إشارة وتنبيه إلى أنَّ في طريقة هؤلاء الخَلَف كثرة القول وعدم الاهتمام بالعمل.
ومن الألقاب التي هي لقب لعدد من الطوائف لقب "أهل الكلام"، لأنَّ شغلهم الشَّاغل هو الكلام والجدل وكثرة القيل والقال كما قال أحدهم: "لم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال"، فيهتمون بالكلام والنَّظر ولا يهتمون بالعمل، مع أنَّ غاية العلم العمل، كما يقول عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، والله -عزَّ وجلَّ- يمقت ويبُغض من يقول ولا يعمل، قال -تعالى-: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[الصف:3]، فلابدَّ من العمل بالعلم، أمّا من يقول ويتكلم ولا يعمل فهذا ليس من هدي أهل السُّنة والجماعة، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- عن شعيب -عليه السَّلام-: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾[هود:88]، ويقول الله-تعالى-: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾[البقرة:44]، فلابدَّ من العمل.
ولهذا عندما يسمع المسلم السُّني السَّلفيّ الحديث عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أو الآثار المروية عن السَّلف الصَّالح فإنه يَجِدُّ في المتابعة والاقتداء والائتساء، يَجِدُّ في ذلك غاية الاجتهاد ليخرج من هذه الصِّفة وهي القول بلا عمل؛ بل يجدُّ في المحافظة على أركان الإسلام والتي من أهمها بعد الشَّهادتين الصَّلاة.
ولهذا تجد بعض الشَّباب مَن لا يقوم إلى صلاة الفجر ويشتغل في جدل ونقاش ويسهر اللَّيل في نقاش في رأيه أنه ينتصر به للدين ونحو ذلك، ثم ينام عن صلاة الفجر ويداوم على ذلك، وهذه مصيبة عظيمة جدًّا، المسلم يعتني بالعمل بطاعة الله، بعبادة الله، بامتثال أمر الله، بالاقتداء برسول الله، بأصحاب النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويديم النَّظر ويُكثر القراءة في سيرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسيرة أصحابه ويجتهد في التَّشبه بهم، أمّا أن يكون كذلك فهذا خطر عظيم.
ولهذا ينبغي للمسلم أن يستشعر خطر هذه الصِّفة صفة الخُلُوف، وهي أن يقول مالا يفعل ((يقولون مالا يفعلون))، بل ينبغي أن يكون قوله موافق لفعله، ومنطقه موافق لباطنه، وقالبه موافق لقلبه، يجتهد في ذلك، ولا يكون من أهل هذه الصِّفة ((يقولون مالا يفعلون)).
ذكرتُ أنّ أهل الكلام الباطل هذه من صفاتهم: القول والنَّظر والبحث، يعني على سبيل المثال تجده يتحدث في محاضرات وكتب ونحو ذلك عن الإسلام والانتصار للإسلام ومحاسن الدِّين ويدافع عنه ونحو ذلك؛ لكنه يُفرِّط، يُفرِّط في الأركان ربما، يُفرِّط في الواجبات، يُفرِّط في الطَّاعات، ربما لا يصلي، لا يقيم الصَّلاة أو يتهاون فيها، فإذا كان يبيّن محاسن الدِّين للنَّاس لابد أن يكون من أسبق النَّاس للدِّين ولطاعة الله، أمّا أن يكون قول بلا فعل فهذا يمقته الله -تبارك وتعالى-.
فينبغي لنا أن نهتم بهذا الأمر: أن يكون القول موافقاً للعمل، والقول ليس أيَّ قول، أن يكون القول هو ما ثبت عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لا بالبدع والأهواء والمحدثات.
فإذن من صفات الخُلُوف أنهم يقولون مالا يفعلون.
أما الصفة الثانية فهي قوله: ((ويفعلون مالا يؤمرون))، وهذا فيه إشارة إلى فساد مصدر التَّلقي عندهم؛ لأنّ صاحب السُّنة مصدر التَّلقي عنده هو الأخذ بالسُّنة، يفعل ما يؤمر به، أمّا هؤلاء يفعلون مالا يؤمرون، فمصدر التَّلقي عندهم فاسد، لم يؤمر بالأمر ولم يأت به لا في الكتاب ولا في السُّنة فيفعله ويتعبَّد لله -تبارك وتعالى- به، إمّا بناءً على رأيه أو على عقله أو على وَجْده أو على ذوقه أو على قصص وحكايات أو منامات أو ادِّعاءات كما يدّعي بعض المتصوِّفة أو نحو ذلك، فهؤلاء كلهم ينطبق عليهم قوله: ((ويفعلون مالا يؤمرون)).
ولا يسلم من هذه الصِّفة إلا من يتّبع الأمر ويفعل بما أُمر به ويكون من أهل الأخذ بالسُّنة والاقتداء بالأمر، لا يسلم من هذه الصِّفة إلا من كان كذلك، ومَن سواهم لم يسلم؛ بل يكون وصفًا لازمًا له فِعْلُ ما لم يؤمر حتى يدع الأهواء ويترك البدع والمحدثات، يدعها تمامًا اتِّباعًا للرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- واقتداءً به. فهذه الصفة الثانية.
هنا أودُّ أن أنبّه نفسي وإخواني إلى أمر مهم نأخذه من هذا الحديث العظيم، هو أنه ينبغي للمسلم أن يعرف السُّنة وصفاتها وعلاماتها ويدرس ذلك دراسة جيدة ليعمل بها، وينبغي عليه أيضًا في الوقت نفسه أن يعرف البدعة وأهلها وصفاتها حتى يحذرها، كما كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -كما ثبت كلامه في صحيح البخاري- أنه كان يقول: "كان الصحابة يسألون النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافته"، المسلم يعرف الشَّرَّ وسبله وطرقه حتى يحذرها ويتقها.
تعلَّمِ الشَّرَّ لا للشرِّ ولكنْ لتوقِّيه
فإنّ مَن لم يعرفِ الشَّرَّ مِن النَّاسِ يقعُ فيه
فهنا عرّف النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بصفات أهل الخير وعلاماتهم وعرّف بصفات أهل الشر وعلاماتهم، وهذا منه -عليه الصَّلاة والسَّلام- نصيحة للأمة وإعذارًا وإقامة للحجة والمعذرة.
فالمسلم ينظر في علامات أهل الخير ويتدبرها ويتأملها تأملًا جيدًا ويتبصّر فيها ثم يقتدي بهم، وأيضًا يعرف علامات أهل الشَّرِّ ويتفقَّد نفسه وينظر في حاله هل فيه شيء من ذلك؟ فإن كان فيه فليجتهد في إبعاده عن نفسه، وإن كان سالمًا فليحمد الله -تبارك وتعالى- ويسأله الثبات.
هذا من خلال الحديث العظيم الذي رواه مسلم في كتابه الصَّحيح في كتاب الإيمان.
وأنا أدعوكم إلى مزيد من النَّظر والتَّأمُّل في هذا الحديث ودراسته وحفظه ومراجعته في كتاب صحيح مسلم في كتاب الإيمان ومراجعة شروح أهل العلم لهذا الحديث فهو حديث عظيم للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفيه بيان لما سبق و هو مفهوم السَّلفية ولقد آثرتُ أن أنطلق في بيان هذا المفهوم من خلال الحديث.
وأسأل الله -جلّ وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا جميعًا للعمل بهذا الحديث العظيم، وأن يرزقنا جميعًا الائتساء بالنَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- والأخذ بسنته والاهتداء بهديه، وأن يعيذنا من أن نكون ممن وصفهم بأنهم يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون.
وأودّ أن أختم هذه الكلمة بقراءة كلام لابن القيم -رحمه الله- في مختصر الصَّواعق، وأنا أختصر كلامه لضيق الوقت، في مختصر الصَّواعق في صفحة خمسمائة وواحد وعشرين قال –رحمه الله-: "لهم علامات" أي لأهل السُّنة، لأنه قبل هذا نقل نقلاً مطوّلاً عظيمًا جدًا لو كان في الوقت سعة لقرأتُـه، لأبي المظفّر السمعاني، قال أبو المظفّر في ضمن كلامه قال: "قال قائل: أنتم سمَّيتم أنفسكم أهل السُّنة وما نراكم في ذلك إلا مدَّعين؛ لأنّا وجدنا كل فرقة تنتحل اتِّباع السُّنة وتنسِب من خالفها إلى البدعة، وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق وكلنا في انتحال هذا اللَّقب شركاء متكاثرون ولستم أولى بهذا اللَّقب إلاَّ أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسُّنة أو من الإجماع المعقول"، فقال: "الأمر كما زعمتم، لا يصحُّ لأحد دعوى إلا ببيّنة عاجلة أو بدلالة ظاهرة من الكتاب والسُّنة وهما لنا قائمتان بحمد الله".. إلى أن قال: "ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب -أي للسُّنة- وفيها أرغب ولأصحابها أتبع، فعلمنا يقينًا أنهم أهلها دون من عاداهم من جميع الفرق"، ثم ذكر مثالاً بديعًا قال: "فإنّ صاحب كل حرفةٍ أو صنعة إن لم يكن له دلالة وآلة من آلات تلك الحرفة ثمّ ادّعى تلك الصنعة كان في دعواه مبطلاً.."، إلى أن قال: "وأهل الحديث كذلك، لمّا ادّعوا الحديث عملوا به واشتهروا به و تمسكوا به و صاروا من أهله".
ابن القيم لمّـا ذكر هذا الكلام قال بعده: "ولهم علامات" يعني لأهل الحديث، وذكر علامات كثيرة ينبغي أن نرجع إليها في الكتاب وأن نتأملها، يقول:
منها: أنّ أهل السُّنة يتركون أقوال النَّاس لها، وأهل البدع يتركونها -أي السُّنة- لأقوال النَّاس.
ومنها: أنّ أهل السُّنة يعرضون أقوال النَّاس عليها -أي على السُّنة- فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه، وأهل البدع يعرضونها على آراء الرِّجال فما وافق آراءها منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأوّلوه.
ومنها: أنّ أهل السُّنة يَدْعون عند التنازع إلى التَّحاكم إليها دون آراء الرِّجال وعقولهم، وأهل البدع يَدْعون إلى التَّحاكم إلى آراء الرِّجال ومعقولاتهم.
ومنها: أنّ أهل السُّنة إذا صحّت لهم السُّنة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يتوقفوا عن العمل بها واعتقاد موجبها على أن يوافقها موافق، بل يبادرون على العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها.
ثم نَقَل عن الشافعيِّ في ذلك، ثم قال:
ومنها: -أي من علاماتهم- أنهم لا ينتسبون إلى أيّ مقالةٍ معيّنة ولا إلى شخصٍ معيّن غير الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فليس لهم لقب يُعرَفون به ولا نسبة ينتسبون إليها إذا انتسب سواهم إلى المقالات المُحدثَة وأربابها، كما قال بعض أئمة السُّنة وقد سًئل عنها فقال: "أهل السنة مالا اسم له سوى السنة"، وأهل البدعة ينتسبون إلى المقالات تارة كالقدرية أو المرجئة، أو إلى القائل تارة كالهاشمية والاضطرارية، أو إلى الفعل تارة كالخوارج والروافض، وأهل السُّنة بريئون من هذه النسب كلها، وإنما نسبتهم إلى الحديث والسُّنة.
ومنها: أنّ أهل السُّنة إنما ينصرون الحديث الصَّحيح والآثار السَّلفية، وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم..." إلى آخر كلامه، ولا يزال لكلامه بقية وهو كلام عظيم يحتاج إلى نظر أطول وتأمُّل وبحث، أسأل الله -عزَّ وجل- أن يوفقنا إلى إعادة النَّظر فيه وقراءته.
وأدعو الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يحب ويرضى، وأن يعيننا وإيَّاكم على البرِّ والتَّقوى، وأن يجعلنا وإيَّاكم هداة مهتدين، من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
والله أعلم. وصلَّى الله وسلَّم وبارك وأنعم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفهم الصحيح لمنهج السلف
للشيخ عبد الله العبيلان
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فأولاً أحيِّ من يسمع هذا الصَّوت بتحية الإسلام فأقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله-تبارك وتعالى- أن يُسدِّد لنا ولكم الأقوال والأعمال، وأن ينفعنا وإياكم، وأن يرزقنا العلم النَّافع والعمل الصَّالح، والرِّزق الطيِّب، وقد كان-عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في السُّنن يدعو عقب صلاة الصُّبح بهذا الدُّعاء ((اللهم إني أسألك عملاً صالحًا-وفي رواية: عملاً متقبَّلاً- ورزقًا طيِّبًا))
وينبغي على المسلم أن يُعنى بمثل هذا الدُّعاء ويهتمَّ به؛ سؤال الله -تبارك وتعالى- العلم النَّافع، والعلم النَّافع هو المقرِّب إلى الله-جلَّ وعلا-، وسؤال الله-تبارك وتعالى- العمل الصَّالح الموصل إلى الجنَّة، والعمل الصَّالح لا يكون صالحًا إلا إذا بُني على العلم النَّافع، كذلك سؤال الله-تبارك وتعالى- الرِّزق الطيِّب.
وهنا فائدة مهمَّةٌ في دعاء النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلَّم- بهذا الدُّعاء العظيم في بداية النَّهار بعد صلاة الصُّبح؛ لأنّ النَّهار هو موطن العمل والطَّلب والكسب والجِد، واللَّيل هو موطن السَّكن والرَّاحة، ففي مُفتتح النَّهار ونهايته يسأل الله-تبارك وتعالى- هذه الأمور الثَّلاثة، وهذا فيه تنبيه للمسلم أنَّ هذه الأمور الثَّلاثة ينبغي أن يهتم بها من بداية نهاره ومن أول يومه، يهتم بتحصيل العلم النَّافع والعمل الصَّالح المُتَقبَّل، وتحصيل الرِّزق الطيِّب الحلال، ويكون هذا همُّه وكدُّه ونصبه في نهاره كله، فإذا جاء اللَّيل حمد الله-تعالى- على توفيقه وشكر الله على إنعامه، ونام قرير العين أطاع الله-جلَّ وعلا- في يومه، فينبغي أن نهتمَّ بهذا.
موضوع الكلمة إخواني-حفظنا الله وإياكم- هو كما سمعتم: الفهم الصَّحيح لمنهج السَّلف، وهذا الموضوع موضوع في غاية الأهمية، وينبغي لكل مسلم يريد سعادة نفسه وفوزها وفلاحها في الدُّنيا والآخرة أن يهتمَّ بفهم هذا الموضوع الفهم الصَّحيح ويُعنى بذلك غاية العناية؛ لأنّ الأمر والعبرة ليس بمجرد الدعوى، من يدَّعي الإسلام ولا يُقيمه لا قيمة لدعواه، ومن يدَّعي السُّنَّة ولا يقيمها لا قيمة لدعواه، وإنَّما العبرة بالحقائق والأعمال، ليست العبرة بالدَّعاوى، كما جاء عن الحسن البصريِّ -رحمه الله- قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي، ولكنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدّقته الأعمال"، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123]، ويقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[آل عمران:31].
فالعبرة هي بالاتِّباع والاقتداء والعمل بطاعة الله -جلَّ وعلا- والتَّقرُّب إليه بما يحبه ويرضاه من صالح الأقوال والأعمال، وليست العبرة بالدَّعاوى.
ومن هنا ينبغي أن نفهم أنَّ السَّلفية أو الدعوة السَّلفية أو السَّلف أو نحو ذلك ليست دعوى يدَّعيها المرء لنفسه أو لطائفته أو لجماعته أو لفئة من الناس؛ وإنما هي منهج وطريقة وهدىً مستقيم يوصل إلى رضى الله -سبحانه وتعالى-، طريقةٌ صحيحةٌ هي أصحُّ الطُّرق وأسلمها وأعلمها وأحكمها، طريقة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه الكرام والتَّابعين له بإحسان.
ولهذا عندما يعرف المسلم السَّلف أو السَّلفية أو الدَّعوة السَّلفية ينبغي أن يعرفها المعرفة الصَّحيحة السَّليمة البعيدة عن التَّيَّارات الجارفة والفتن الكثيرة المطغية المُلهية المُبعدة عن طاعة الرَّب -تبارك وتعالى-، فينتسب إلى السَّلفية أو السَّلف قولًا وعملًا، واعتقادًا ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلنًا، ينتسب إليهم بهذه الطَّريقة، يستنَّ بسنتهم، والمرء كما أخبر النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع من أحب، كما يقول شيخ الإسلام: "من كان بهم أشبه كان لهم أقرب" أي السَّلف الصالح، ولهذا لابد من فهم منهج السَّلف والعلم بمعنى أو مفهوم السَّلفية، يتعرَّف على المنهج وعلى السَّلفية وعلى الطريقة السُّنيِّة، يتعرَّف عليها يعرف أماراتها يتعلَّم سماتها وعلاماتها، يترسَّم طريقها، ثم يسلك هذا الطَّريق، فيكون من أهل السُّنة ومن السَّلف إذا قام بهذا الأمر.
فليست العبرة بالدعوى، لابد من العلم النَّافع المؤدِّي للعمل الصَّالح المقرّب إلى الله -تبارك وتعالى-.
عندنا هنا قواعد سلفيّة أو سلف ويقابلها أو يضادها خَلَفِيّةٌ أو خَلَف، سلفٌ وخلف، هذان الاسمان ينبغي على المسلم أن يتعرَّف إليهما ويعرف معنى كل منهما، السَلفٌ والخَلَف، مَن السَلف ومن الحقيق بهذا الاسم؟ ومَن الخَلَف ومن الحقيق بهذا الاسم؟
ولعلِّي أنطلق في توضيح أو بيان ضابط كل منهما من خلال حديث عظيم يرويه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهو حديث عظيم جدًا ينبغي لنا أن نتدبَّره، قال ابن مسعود: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك في الإيمان حبَّة خردل)).
هذا حديث عظيم جدًّا، ومن خلاله نستطيع أن نستوضح ونتبيّن مَن السَّلف ومَن الخَلَف؟ أو ما علامة السلف وما علامة الخلف؟
فقوله: ((إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)) أنا أعتقد أنَّ هذا أحسن ضابط لتعريف السَّلف أو السَّلفيّ، أحسن ضابط لتعريف هؤلاء هو هذا: ((إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)) مَن كان كذلك فهو السَّلفيّ أو الذي على الدَّعوة السَّلفية أو المنهج السَّلفي (( إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره)).
وأهل العلم قالوا في تعريف السَّلفيِّ أنَّه: "مَن كان على مِثل ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه"؛ كما ثبت في حديث الافتراق -ولعله يأتي معنا نص الحديث-.
بماذا وصفهم -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حديثنا هذا؟ قال: ((يأخذون بسنته ويقتدون بأمره))، هاتان صفتان رئيستان لكل سلفيٍّ ولكل منتمٍ للسَّلف؛ يأخذ بسنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويقتدي بأمر النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، صفتان عظيمتان جدًّا لكل سلفيّ، وهما أهم الصفات:
الأوَّل: الأخذ بالسُّنَّة.
والثَّاني: الاقتداء بالأمر.
الأخذ بالسُّنة هذا فيه إشارة إلى سلامة مصدر التَّلقي عند السَّلفيّ أو المُتّبِع للسَّلف، مصدر تلقيه منهجه في التَّلقي هو الأخذ بالسُّنة، يُنحِّي الآراء، يُنحِّي الأهواء، يُنحِّي الأذواق، يُنحِّي جميع المصادر التي هي مصادر التَّلقي عند أهل البدع، وهي متنوعة وكثيرة جدًّا، فهو مصدره في التَّلقي الأخذ بالسُّنة.
بينما عندما تنظر وتتأمل في الطَّوائف والفرق المختلفة تجد مصادرهم في التَّلقي متباينة، منهم من مصدره الذَّوق والوَجد، ومنهم من مصدره المنام أو الإلهام -فيما يدّعي-، ومنهم من مصدره الكشف، ومنهم من مصدره العقل؛ يعتمد على العقل وما يقوله العقل هو المقدَّم على ما يقوله الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وإذا تعارض أمران يدلُّ على أحدهما النَّقل ويدلُّ على الآخر عقله أخذ بما يدلُّ عليه عقله، ومن المعلوم أنَّ العقول متفاوتة وليست عقلًا واحدًا فالحق لمن؟ بهذا ردَّ السَّلف ضمن ردودٍ كثيرة على أهل هذا القول، بل قال بعض السَّلف: مِن لازِم قولِ هؤلاء أن يقول الواحد منهم: أشهد أنَّ عقلي رسول الله، بدل أنَّ يقول محمَّدًا رسول الله؛ لأنّ عقله مقدَّم على قول الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
ومن المصادر أيضًا الإسرائيليات والقصص والتَّجارب وأشياء كثيرة تجدها في كتب أهل البدع والأهواء.
فأهل السُّنة ليسوا في شيء من ذلك؛ بل سمتهم وسبيلهم وطريقتهم الأخذ بالسُّنة، ولهذا من أسماء السَّلفيين أو السَّلف: أهل السُّنة والجماعة، سُمُّوا بذلك لهذا؛ لأنهم يأخذون بسنَّته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، مصدرهم في التَّلقي سنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلِّم-.
وهذا منهم إنما كان عملًا بوصيته -عليه الصَّلاة والسَّلام، لأنه أخبر أنَّ الأمَّة ستفترق في الأهواء إلى فرق كثيرة قال: ((إلى ثلاث وسبعين فرقة)) فلمّا أخبر بأنها ستفترق أوصى للسَّلامة في هذه الشُّرور وللوقاية من هذه الآفات أوصى بلزوم السُّنة ومجانبة البدعة، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا))، ثم أجاب -عليه الصَّلاة والسَّلام- دون أن يُسأل مبيّنًا السَّبيل والمَخرَج من هذه الأمور فقال: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار)) فأرشد إلى هذا الأمر؛ إلى الأخذ بالسُّنة والتَّمسك بها، اقتفاء آثار الرَّسول الكريم -عليه الصَّلاة والسَّلام- والبعد عن البدع والأهواء أيًّا كان نوعها ومهما كانت صفتها، يبتعد عنها ويحذرها غاية الحذر، ويسأل الله –تبارك وتعالى- أن يُنجّيه من بوائقها وآفاتها ويسأل الله -جل وعلا- أن يُوفَّقه للزوم السُّنة.
فهذه إخواني -وفقنا الله وإياكم- هذه صفة بارزة، بل هي أبرز صفة لأهل السُّنة أو السَّلف هي أخذهم بسنَّة رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، يبحثون عنها ويسألون عنها ويقرؤون الكتب في البحث عنها وتتبعها ومعرفتها، ثم ينقادون ويستسلمون، ولا يُقدِّمون قول أحد على قول رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ولا يقدِّمون قول أحد على حديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولا يتعصّبون لقول أيِّ شخصٍ غيرِ قول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ويعتقدون أنَّ كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ويتتبعون السُّنن ويبحثون عنها ويطبِّقونها في أنفسهم، يجتهدون في ذلك، ويسألون الله -تبارك وتعالى- أن يعينهم على هذا الأمر. الأخذ بسنَّته هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني هو قوله: ((ويقتدون بأمره)) الاقتداء بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- هذه هي الصِّفة الثَّانية العظيمة البارزة لأهل السُّنة أو للسَّلف الصَّالح: الاقتداء بأمر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
الأمر الأوَّل الذي هو الأخذ بالسُّنة هذا يتعلق بالعلم، والأمر الثاني وهو الاقتداء بأمره يتعلَّق بالعمل.
فأهل السُّنة يقتدون بالرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-، هو أسوتهم وهو قدوتهم، كما قال الله -جلَّ وعلا-:﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21]، قدوتهم هو رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقتدون به، ينظرون في أعمال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويسألون عن عبادات النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، عن طاعاته، قيامه بأمر الله، صفة صلاته، صفة حجِّه، صفة ذكره لله -جلَّ وعلا-، ثم يقتدون به.
وهذا –ولا ريب- يتطلّب العلم بسنَّة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- العلم الصَّحيح وتمييز الصَّحيح من الضَّعيف ومعرفة الثابت من غيره، ثم يقتدي بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
وعندما قال: ((بأمره)) أي بما ثبت عنه من أمره، فما لم يثبت أنَّه من أمر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- يَدَعُونه ويقتدون بأمره أي الثَّابت عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فهذا هدي أهل السُّنة في الأخلاق والأعمال والعبادات والسُّلوك؛ الاقتداء بأمر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ينظرون في أخلاق النَّبيِّ يتبعونها، في معاملاته، في شؤونه كلها فيقتدون به -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وقد مرَّ معنا قول الله -جلَّ وعلا-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَوَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21].
إخواني.. أدعو نفسي وإياكم إلى الاهتمام بهاتين الصِّفتين: الأخذ بالسُّنة والاقتداء بأمر الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام-، لنكون ممن اجتباه الله واصطفاه واختاره ليكون من أنصار النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأتباعه ومن المؤتسين به صدقًا لا دعوى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[آل عمران:31].
ثم لمّا ذكر -عليه الصَّلاة والسَّلام- هاتين الصِّفتين للحواريين والأصحاب قال: ((ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ)) ومعنى قوله: ((تخلُف)) أي يَحدث، يحدث بعد هؤلاء الذين يأخذون بالسُّنة ويقتدون بالأمر يحدث ويوجَد خُلوف، والخُلوف جمع خَلْف ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾[الأعراف:169]، والخَلْف هو الخالِف بالشر.
مَن يخلف الصَّحابة في الشَّر بترك ما هم عليه بالإحداث والابتداع وابتكار الآراء والمناهج والطُّرق هو خَلْف.
والذي يتبع هدي هؤلاء الصَّحابة ويقتدي بهم ويستنّ بهم -وهم مستنُّون بسنَّة النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو من السَّلف.
((ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلُوفٌ)) بماذا وَصَفهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-؟ وصفهم بصفتين قال: ((يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون))، هاتان الصِّفتان بإزاء الصِّفتين السَّابقتين لأهل السُّنة وهي: الأخذ بالسُّنَّة والاقتداء بالأمر، أمَّا الخلف أو الخُلوف هم الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون.
((يقولون مالا يفعلون)) هذا فيه إشارة وتنبيه إلى أنَّ في طريقة هؤلاء الخَلَف كثرة القول وعدم الاهتمام بالعمل.
ومن الألقاب التي هي لقب لعدد من الطوائف لقب "أهل الكلام"، لأنَّ شغلهم الشَّاغل هو الكلام والجدل وكثرة القيل والقال كما قال أحدهم: "لم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال"، فيهتمون بالكلام والنَّظر ولا يهتمون بالعمل، مع أنَّ غاية العلم العمل، كما يقول عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، والله -عزَّ وجلَّ- يمقت ويبُغض من يقول ولا يعمل، قال -تعالى-: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[الصف:3]، فلابدَّ من العمل بالعلم، أمّا من يقول ويتكلم ولا يعمل فهذا ليس من هدي أهل السُّنة والجماعة، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- عن شعيب -عليه السَّلام-: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾[هود:88]، ويقول الله-تعالى-: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾[البقرة:44]، فلابدَّ من العمل.
ولهذا عندما يسمع المسلم السُّني السَّلفيّ الحديث عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أو الآثار المروية عن السَّلف الصَّالح فإنه يَجِدُّ في المتابعة والاقتداء والائتساء، يَجِدُّ في ذلك غاية الاجتهاد ليخرج من هذه الصِّفة وهي القول بلا عمل؛ بل يجدُّ في المحافظة على أركان الإسلام والتي من أهمها بعد الشَّهادتين الصَّلاة.
ولهذا تجد بعض الشَّباب مَن لا يقوم إلى صلاة الفجر ويشتغل في جدل ونقاش ويسهر اللَّيل في نقاش في رأيه أنه ينتصر به للدين ونحو ذلك، ثم ينام عن صلاة الفجر ويداوم على ذلك، وهذه مصيبة عظيمة جدًّا، المسلم يعتني بالعمل بطاعة الله، بعبادة الله، بامتثال أمر الله، بالاقتداء برسول الله، بأصحاب النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويديم النَّظر ويُكثر القراءة في سيرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسيرة أصحابه ويجتهد في التَّشبه بهم، أمّا أن يكون كذلك فهذا خطر عظيم.
ولهذا ينبغي للمسلم أن يستشعر خطر هذه الصِّفة صفة الخُلُوف، وهي أن يقول مالا يفعل ((يقولون مالا يفعلون))، بل ينبغي أن يكون قوله موافق لفعله، ومنطقه موافق لباطنه، وقالبه موافق لقلبه، يجتهد في ذلك، ولا يكون من أهل هذه الصِّفة ((يقولون مالا يفعلون)).
ذكرتُ أنّ أهل الكلام الباطل هذه من صفاتهم: القول والنَّظر والبحث، يعني على سبيل المثال تجده يتحدث في محاضرات وكتب ونحو ذلك عن الإسلام والانتصار للإسلام ومحاسن الدِّين ويدافع عنه ونحو ذلك؛ لكنه يُفرِّط، يُفرِّط في الأركان ربما، يُفرِّط في الواجبات، يُفرِّط في الطَّاعات، ربما لا يصلي، لا يقيم الصَّلاة أو يتهاون فيها، فإذا كان يبيّن محاسن الدِّين للنَّاس لابد أن يكون من أسبق النَّاس للدِّين ولطاعة الله، أمّا أن يكون قول بلا فعل فهذا يمقته الله -تبارك وتعالى-.
فينبغي لنا أن نهتم بهذا الأمر: أن يكون القول موافقاً للعمل، والقول ليس أيَّ قول، أن يكون القول هو ما ثبت عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لا بالبدع والأهواء والمحدثات.
فإذن من صفات الخُلُوف أنهم يقولون مالا يفعلون.
أما الصفة الثانية فهي قوله: ((ويفعلون مالا يؤمرون))، وهذا فيه إشارة إلى فساد مصدر التَّلقي عندهم؛ لأنّ صاحب السُّنة مصدر التَّلقي عنده هو الأخذ بالسُّنة، يفعل ما يؤمر به، أمّا هؤلاء يفعلون مالا يؤمرون، فمصدر التَّلقي عندهم فاسد، لم يؤمر بالأمر ولم يأت به لا في الكتاب ولا في السُّنة فيفعله ويتعبَّد لله -تبارك وتعالى- به، إمّا بناءً على رأيه أو على عقله أو على وَجْده أو على ذوقه أو على قصص وحكايات أو منامات أو ادِّعاءات كما يدّعي بعض المتصوِّفة أو نحو ذلك، فهؤلاء كلهم ينطبق عليهم قوله: ((ويفعلون مالا يؤمرون)).
ولا يسلم من هذه الصِّفة إلا من يتّبع الأمر ويفعل بما أُمر به ويكون من أهل الأخذ بالسُّنة والاقتداء بالأمر، لا يسلم من هذه الصِّفة إلا من كان كذلك، ومَن سواهم لم يسلم؛ بل يكون وصفًا لازمًا له فِعْلُ ما لم يؤمر حتى يدع الأهواء ويترك البدع والمحدثات، يدعها تمامًا اتِّباعًا للرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- واقتداءً به. فهذه الصفة الثانية.
هنا أودُّ أن أنبّه نفسي وإخواني إلى أمر مهم نأخذه من هذا الحديث العظيم، هو أنه ينبغي للمسلم أن يعرف السُّنة وصفاتها وعلاماتها ويدرس ذلك دراسة جيدة ليعمل بها، وينبغي عليه أيضًا في الوقت نفسه أن يعرف البدعة وأهلها وصفاتها حتى يحذرها، كما كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -كما ثبت كلامه في صحيح البخاري- أنه كان يقول: "كان الصحابة يسألون النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافته"، المسلم يعرف الشَّرَّ وسبله وطرقه حتى يحذرها ويتقها.
تعلَّمِ الشَّرَّ لا للشرِّ ولكنْ لتوقِّيه
فإنّ مَن لم يعرفِ الشَّرَّ مِن النَّاسِ يقعُ فيه
فهنا عرّف النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بصفات أهل الخير وعلاماتهم وعرّف بصفات أهل الشر وعلاماتهم، وهذا منه -عليه الصَّلاة والسَّلام- نصيحة للأمة وإعذارًا وإقامة للحجة والمعذرة.
فالمسلم ينظر في علامات أهل الخير ويتدبرها ويتأملها تأملًا جيدًا ويتبصّر فيها ثم يقتدي بهم، وأيضًا يعرف علامات أهل الشَّرِّ ويتفقَّد نفسه وينظر في حاله هل فيه شيء من ذلك؟ فإن كان فيه فليجتهد في إبعاده عن نفسه، وإن كان سالمًا فليحمد الله -تبارك وتعالى- ويسأله الثبات.
هذا من خلال الحديث العظيم الذي رواه مسلم في كتابه الصَّحيح في كتاب الإيمان.
وأنا أدعوكم إلى مزيد من النَّظر والتَّأمُّل في هذا الحديث ودراسته وحفظه ومراجعته في كتاب صحيح مسلم في كتاب الإيمان ومراجعة شروح أهل العلم لهذا الحديث فهو حديث عظيم للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفيه بيان لما سبق و هو مفهوم السَّلفية ولقد آثرتُ أن أنطلق في بيان هذا المفهوم من خلال الحديث.
وأسأل الله -جلّ وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا جميعًا للعمل بهذا الحديث العظيم، وأن يرزقنا جميعًا الائتساء بالنَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- والأخذ بسنته والاهتداء بهديه، وأن يعيذنا من أن نكون ممن وصفهم بأنهم يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون.
وأودّ أن أختم هذه الكلمة بقراءة كلام لابن القيم -رحمه الله- في مختصر الصَّواعق، وأنا أختصر كلامه لضيق الوقت، في مختصر الصَّواعق في صفحة خمسمائة وواحد وعشرين قال –رحمه الله-: "لهم علامات" أي لأهل السُّنة، لأنه قبل هذا نقل نقلاً مطوّلاً عظيمًا جدًا لو كان في الوقت سعة لقرأتُـه، لأبي المظفّر السمعاني، قال أبو المظفّر في ضمن كلامه قال: "قال قائل: أنتم سمَّيتم أنفسكم أهل السُّنة وما نراكم في ذلك إلا مدَّعين؛ لأنّا وجدنا كل فرقة تنتحل اتِّباع السُّنة وتنسِب من خالفها إلى البدعة، وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق وكلنا في انتحال هذا اللَّقب شركاء متكاثرون ولستم أولى بهذا اللَّقب إلاَّ أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسُّنة أو من الإجماع المعقول"، فقال: "الأمر كما زعمتم، لا يصحُّ لأحد دعوى إلا ببيّنة عاجلة أو بدلالة ظاهرة من الكتاب والسُّنة وهما لنا قائمتان بحمد الله".. إلى أن قال: "ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب -أي للسُّنة- وفيها أرغب ولأصحابها أتبع، فعلمنا يقينًا أنهم أهلها دون من عاداهم من جميع الفرق"، ثم ذكر مثالاً بديعًا قال: "فإنّ صاحب كل حرفةٍ أو صنعة إن لم يكن له دلالة وآلة من آلات تلك الحرفة ثمّ ادّعى تلك الصنعة كان في دعواه مبطلاً.."، إلى أن قال: "وأهل الحديث كذلك، لمّا ادّعوا الحديث عملوا به واشتهروا به و تمسكوا به و صاروا من أهله".
ابن القيم لمّـا ذكر هذا الكلام قال بعده: "ولهم علامات" يعني لأهل الحديث، وذكر علامات كثيرة ينبغي أن نرجع إليها في الكتاب وأن نتأملها، يقول:
منها: أنّ أهل السُّنة يتركون أقوال النَّاس لها، وأهل البدع يتركونها -أي السُّنة- لأقوال النَّاس.
ومنها: أنّ أهل السُّنة يعرضون أقوال النَّاس عليها -أي على السُّنة- فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه، وأهل البدع يعرضونها على آراء الرِّجال فما وافق آراءها منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأوّلوه.
ومنها: أنّ أهل السُّنة يَدْعون عند التنازع إلى التَّحاكم إليها دون آراء الرِّجال وعقولهم، وأهل البدع يَدْعون إلى التَّحاكم إلى آراء الرِّجال ومعقولاتهم.
ومنها: أنّ أهل السُّنة إذا صحّت لهم السُّنة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يتوقفوا عن العمل بها واعتقاد موجبها على أن يوافقها موافق، بل يبادرون على العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها.
ثم نَقَل عن الشافعيِّ في ذلك، ثم قال:
ومنها: -أي من علاماتهم- أنهم لا ينتسبون إلى أيّ مقالةٍ معيّنة ولا إلى شخصٍ معيّن غير الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فليس لهم لقب يُعرَفون به ولا نسبة ينتسبون إليها إذا انتسب سواهم إلى المقالات المُحدثَة وأربابها، كما قال بعض أئمة السُّنة وقد سًئل عنها فقال: "أهل السنة مالا اسم له سوى السنة"، وأهل البدعة ينتسبون إلى المقالات تارة كالقدرية أو المرجئة، أو إلى القائل تارة كالهاشمية والاضطرارية، أو إلى الفعل تارة كالخوارج والروافض، وأهل السُّنة بريئون من هذه النسب كلها، وإنما نسبتهم إلى الحديث والسُّنة.
ومنها: أنّ أهل السُّنة إنما ينصرون الحديث الصَّحيح والآثار السَّلفية، وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم..." إلى آخر كلامه، ولا يزال لكلامه بقية وهو كلام عظيم يحتاج إلى نظر أطول وتأمُّل وبحث، أسأل الله -عزَّ وجل- أن يوفقنا إلى إعادة النَّظر فيه وقراءته.
وأدعو الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يحب ويرضى، وأن يعيننا وإيَّاكم على البرِّ والتَّقوى، وأن يجعلنا وإيَّاكم هداة مهتدين، من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
والله أعلم. وصلَّى الله وسلَّم وبارك وأنعم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى