منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
avatar
ناجح المتولى
عدد المساهمات : 0
نقاط : 3753
تاريخ التسجيل : 13/01/2014

زينةُ العلماء، وحليةُ الأولياء Empty زينةُ العلماء، وحليةُ الأولياء

السبت 25 أغسطس 2012, 23:48
بسم الله الرحمن الرحـــــــــــيم


السلآم عليكم ورحمة الله
زينةُ العلماء، وحليةُ الأولياء


فُجِعت أمة الإسلام فاجعة عظيمة، ونزلت بها مصيبة كبيرة، بوفاة عالِـم من كبار علمائها، وفقيهٍ من أفقهِ فُقهائها، ذلكم العالِـم العامل، الإمام المجاهد الرَّباني، التَّقي النَّقي الخفي، زينة العلماء، وحِلْية الأولياء، الشَّيخ العلَّامة الإمام عمر بن سليمان الأشقر: رحمة واسعة، وأنزل على قبره الرَّحمات، ورفع منزلته في أعالي الدَّرجات.
رحل هذا الإمام المبارك وقد كان مِلْئَ السَّمع والبصر، رحل بعد أن ألـمَّ به داء البطن إلماماً شديداً، رحل وكأنِّي غير مُصدِّق لهذا الرَّحيل، إي والله، فعُدْتُ بعد دفنه:، وكانت يدي آخر مَن مسَّت جسده الطاهر حين أنزلتُه في قبره، وكشفتُ عن وجهه الوضَّاء المُبتسم، وقد همستُ له همسة يعرف شجونها وأسرارها:، عدتُ أَهِيمُ على وجهي وكأني فقدتُ كلَّ شيء والله، عدتُ كأني أسير تائهاً ضائعاً يتيماً، عدت وقد سُئلتُ في مسألة يسيرة جداً، فلم أُحسِن جواباً! ولم أعرف ما أقول إلا: «رحل الشيخ، فالله أعلم»، فعادوني السائل مُتعجِّباً يقول: الله أعلم! فقلت: هو ذاك.
عدت وأنا أتذكَّر حديث أنس رضي الله عنه حين قال عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: لـمَّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.


وها نحن تلامذة الشيخ:
اليوم نتألَّـم شديداً برحيله: عنَّا، فإذا كان هذا شعورنا نحن في هذا العصر، فيا لله كم كانت المصيبة على الصحابة رضوان الله عليهم في فقدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعظم مَوْجِدتهم لرحيله!
في لحظةٍ واحدة أيقنتُ أنَّ الشيخ: رحل، نعم رحل لأنِّي كنتُ أَرْجعُ إليه في كل أموري العلمية، أرجع إليه في سُؤالاتي واستشكالاتي، في مراجعاتي وتأليفاتي وتحقيقاتي، فكان نِعْم الرِّدء، والُمرشِد، والنَّاصِح، والعالِـم، والُمربِّي، والمُقدِّم، و..، كلُّ هذا لن يكون بعد اليوم، اللهم آجُرْني في مصيبتي واخْلُف لي خيراً منها، نعم رحل هذا العالم الرَّباني إلى رضوانٍ من الله، رحل بعد سبعين عاماً ونيِّف، أُسِّست على خير، وأرجو الله أن تكون خُتِمت بخير وعلى خير، أحسبه والله حسيبه. عدتُ إلى مكتبتي أقرأ كتبه ــ ولها مكان خاص مُميَّز عندي مطبوعها ومخطوطها ــ لكنَّها كانت قراءة من نوع آخر، شرعتُ أقرأ لأُسلِّي نفسي بقراءة كتبه وكأنَّ شيخي: إمامي يُخاطبني؛ أشعر بحياته، وبدِفْءِ كلماته، وقُرب حنانه، بل وبحركاته الهادئة، وهمساته الحانية، ونظراته الأبوية، فأتنسَّم عبير نفَسِه، وشفافية روحه، وعاطفة قلبه، آهٍ يا شيخي، كم هي الشُّجون والمُنون، كم هي عزيزةٌ على قلبي، تلك اللِّقاءات العلمية، والجلسات الأُنسية، والنُّزهات الأخوية، كم هي عزيزةٌ على قلبي، فمن حُبِّي لها أحتفظ بها في جنبات صدري، خلِّها في جُوَّانيِّ قلبي؛ فإنِّي أغار عليها غيرة شديدة
لا تُذِعِ السِّرَّ المصُـــون فإنَّني --- أغارُ على ذِكْر الأحبَّة مِن صَحْبي

ويحي ماذا أكتب؟
وهل تتَّسع الصفحات، وهل يسعفني القلم لأبثَّ ما عندي الآن؟ رحماك ربي، عدتُ، وقد مرَّ بي شريط الذكريات مع شيخنا، فخَلصتُ إلى أنَّ مثل هذا العالِـم الرَّباني الُمبارك الذي عاش كريماً مهيباً عزيزاً، وتُوفِّي كريماً مهيباً عزيزاً شهيداً ــ إن شاء الله ــ عزيز الوجود، فمن عرف كمعرفتي، وشاهد كمشاهداتي خَبُر ذلك، إيه يا شيخي، مَن لي من بعدك، بعد الله سبحانه؟ من لي بتلك الهيبة الرَّبانية، التي كانت في حياتك، وفي مماتك، التي كنتُ كلَّما لقيتك فيها بهيبتك وجلالك وسمتك انتفعت بك، سبحان ربي:
علوٌّ في الحياة وفي الممــــــات ** ** بحقٍّ أنت إحدى المعجزات
تالله إنَّ حياة وممات هذا العالِـم المجاهد الرَّباني فيها من الشَّأن ما ينبغي أن يقف معه كلُّ مَن يبغي صلاح نفسه والارتقاء بها عملياً وعلمياً، مُنذ النَّشئة وحتى الممات، وكم في حياته من عِبَرٍ وأيُّ عِبَر، وها أنا ذا أبثُّ لك بعض هذه العِبَر والشجون، وغايتي أن تجد فيها أُسوة، ومنفعة، وفائدة، وأرجو أن يكون هذا بعض وفاء لشيخنا وعالمنا؛ وسأسوقها لك من خلال ثلاث محاور:

المحور الأول:
مُهيِّئات الحفظ والنُّبوغ
في حياة هذا العالِـم الرَّباني منذ الصِّغَر:
أراد الله سبحانه لهذا الفتى منذ نُعومة أظفاره أن يكون له شأن، وأن يكون شَامةً في جبين عصر من العصور، فكان ثمَّة أمارات للحفظ الرَّباني له، وثَمَّة مُهيِّئات وإرْهاصَاتٌ للنُّبوغ والمنزلة الرفيعة، فهاك بعضاً منها أمام عينيك، وفي مُتناول يديك:
1. حفظُ الله له مِن قتل اليهود: يُخبرني شيخنا: عن أُعجُوبةٍ وقعت له، وكيف أنجاه الله من قتل اليهود وهو رضيع، فيقول: أخبرتني الوالدة أنَّ الإنجليز حين شَنُّوا الحرب علينا، ودخلوا منازلنا، خرَّبوها وأفسدوها، وكنتُ في ذلك الوقت رضيعاً، ولـمَّا دخلوا بيتنا، كنتُ فيه، فأعمى الله أبصارهم عنِّي، فما أصابني بفضل الله ومنتَّه أذى.
قلتُ: وهذه إشارة لحفظ الله له لِـمَا سيكون مِن خَبره وشأنه في مُقتبل عمره، وقارن ذلك مع قصة نبي الله موسى ؛ وكيف حفظه الله في الصِّغَر ؟!
2. مرض الصِّغَر يحدُّه من اللَّهو واللَّعب حتى الثامنة عشرة من عمره مع الرَّعاية الخاصة: أُصيب شيخنا: في صغره بمرض كدَّر عليه طِيْب العيش لأجلٍ محدود، فيقول شيخنا: عنه:«نَعِمْتُ في الصِّبا بأيام كثيرة طيبة، ولكن نغَّص طِيْب العيش فيها مرضٌ لازمني إلى سِنِّ الثامنة عشرة، وحدَّ من اللَّهو واللَّعب الذي يطيب للفتيان في مرحلة الصبا» مما جعل من ذلك رعاية خاصة في صغره من والدته رحمهما الله.
قلت: فلعلَّك تلحظ أنَّ في هذا البلاء ما هو خير لهذا الفتى مِن أن ينخرط في صفوف اللَّاعبين واللَّاهين، وما لا يُحمد من الفِعَال، ويكاد يُصدِّق ذلك، أنَّ هذا الفتى لم يكن طريح الفراش دوماً، بل مع عِلَّته استطاع أنْ يصعد قمم الجبال في قريته، ويكأنَّها إشارة للرِّعاية والعناية عمَّا لا يُحمد، ثم الدُّربة على المشاق الآتية فيما بعد، وقارن ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم حين صرفه الله عن حضور سمر الجاهلية ذات مساء، فضرب الله عليه النَّوم، فما أيقظه إلا مسُّ الشمس، فكان هذا صارف عن السَّهوة، كما أنَّ ذاك صارف عن الغفلة، فمن يفهم لُطف الله به؟ ومِن هذا اللُّطف أيضاً:
3. رؤيةٌ منامية في العاشرة من عمره: ففي تلك الحالة المرضية لهذا الفتى اليافع، يرزقه الله تعالى رؤية قلَّ نظيرها لمن كان في سِنِّه، حدَّثني شيخنا: قال: رأيت حين كنتُ في العاشرة من عمري، أني أتجوَّل بين حقول القرية، وبينما أنا أمشي، إذ بالطريق ينقسم إلى قسمين: طريق فيه ارتفاعٌ وصعود إلى أعلى الجبل، وهو صعب وشاق، وطريق إلى أسفل الوادي، وهو سهل ويسير، فاحترتُ أيهما أسلك فرأيتُ فيما أُلْـهِم لي آنذاك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه، فأشارا إليَّ أنِ اسلُك الطريق العالي المرتفع ولو كان صعباً، فسلكته، وفرحت بها فرحاً عظيماً. فكان بحمد الله هذه الرفعة العلمية، والمنزلة التي بوَّأها الله له في الحياة وبعد الممات، فقُلِّي بربِّك: أوَ تظنُّ هذا عبثاً؟
4. توفيقُ الله وهدايتُه بصرفه عن السفر لبلاد الغرب: حدَّثني شيخنا؛ أنه كان في مقتبل عمره يرغب بالسَّفر إلى هناك، وكان يودُّ أن يدرس الدراسة العلمية التجريبية، ولكنَّ الله أبدله خيراً من ذلك كلِّه، فها هو يَقصُّ مِن خبره فيقول عن إرادة الله به الخير في عدم سفره: «أنا أعلم اليوم أن عدم سفري كان هو الخير، فلو قُدِّر لي أن أنطلق إلى تلك الديار البعيدة الغريبة، فالله أعلم بما سيكون عليه حالي، قد أجمع المال والثروة، وقد أتبوأ المناصب، ولكن هل سيبقى لي ديني وإسلامي، وهل سأصبح داعية أدعو إلى لله على بصيرة، في الأغلب لا، لقد أراد الله بي خيراً ورحمني، وأختار لي، فسبحانه ما أرحمه وأحلمه» «صفحات من حياتي» (ص28).
قلت: تأمُّل هذا وحده يُغنيك عن تعليقي؛ لتَذهبَ به كلَّ مَذهب، وعلى نفسك فَقِسْ ما اختار الله لك، ووفَّقك له، وفتح عليك به، فتعاهد أمرك وشأنك، وفي كلٍّ خير.

المحور الثاني: الدُّروس والعِبَر من حياته ومماته، خذها في رياحين سبع:
حياة هذا العالم الرَّباني مليئة بالدُّروس والمواعظ والعِبَر، وعلى امتداد هذه السبعين عاماً ونيِّف، فقد كانت بساتين عِلْم، وعبادة، وخُلُق، وخشية، وإخلاص، وتواضع، وطِيْب نَفْس، وحُسْن مَعْشر، ولين جانب، وقُلْ ما شئت، فما حالي في هذه العُجالة إلَّا أن أقتطف لك من هذه البساتين الغرَّاء، وورودها الزهراء، ريحانة، وهذه الرَّيحانة كفيلةٌ أن تُنْعِم حياتك كلها إنْ أخذت بها، فكيف بالرَّياحين كلها؟ وهي التي بلَّغت هذا الإمام ما بلَّغته من العلم والمكانة والرِّفعة في الدنيا، وأرجو الله أن تكون شاهد حق ودليل صدق له في الآخرة.

الرَّيحانة الأولى:
الإخلاصُ والصدق مع الله في القول والعمل.
وهذه هي المنزلة التي رفعت الشيخ: أيَّما رِفْعة، فإنَّ هذا العالم الرَّباني له سِرٌّ عجيب بينه وبين ربِّه في عباداته ومعاملاته، ومن هنا لـمَّا ذُكِر للإمام أحمد: الصِّدق والإخلاص، قال: بهذا ارتفع القوم. إي وربي، بهذا حاز شيخنا: قَصَب السَّبْق في الخيرات والطاعات، وخُذْ حادثة جرت بيني وبين شيخي:
كنتُ قد راسلتُ كثيراً من أهل العلم؛ أَنوي إعداد كتاب تحت عنوان: «أبحاثٌ عِلْميَّة مُهدَاةٌ للعلَّامة الشيخ عمر الأشقر» وكنتُ أنوي أنْ أضعه أمامه بعد فراغي منه، أمراً واقعياً لا مـَحِيْدَ عنه، ولم أُخبره به لعلمي أنَّ الشيخ: سيمنع كلَّ هذا لمعرفتي به من حادثاتٍ شتَّى، فإذا به ذات يوم يتَّصل بي ويخبرني برؤيته، فلمَّا جئته؛ خرجنا سوياً في نزهة لطيفة، أنستُ وتعلَّمت وانتفعت فيها، ثم بعد الانقضاء منها، وقبل مغادرته، أهداني درساً أثَّر فيَّ كثيراً، فقال لي: في همس لطيف وحنون - وكان قد وصله الخبر من أحدهم -: الكتاب الذي تُعدُّه أنا غيرُ راضٍ عنه، ولا أقبل به، ورضاي عليك أن تمنع هذا البتَّة، فجهدتُ في إقناعه فلم أفلح، فكان أول أمر يردُّه الشيخ لي، فما كان لي مِن بُدٍّ إلَّا أنْ أُوقف المشروع، وعُدْتُ بإرسال من وصلتني منه مشاركة بإعادتها، والاعتذار له عن إتمام المشروع؛ نزولاً تحت رغبة شيخنا الحبيب أبي سليمان؛ ولعَمْر الله إنَّ فرحته ورضاه خيرٌ عندي من آلاف الكتب.
وانظر إلى نفع الله له في مصنَّفاته، وانتشارها وترجمته إلى لغات شتى تصل إلى خمسة وعشرين لغة، فهذا شَأْنُ الإخلاص، يكتب الله لصاحبه، الفَتْح والتَّوفيق، ثُمَّ يكتب له القَبول وحُسْن التَّلقي، والنَّشر بين العباد في البلاد، فأيُّ فَضيلة أعظمُ مِن الإخلاص؟
«وقد جَرتْ عادة الله التي لا تُبدَّل وسُنَّته التي لا تُحوَّل ؛ أن يُلْبَس المُخلِص من المهابة، والنُّور، والمحبَّة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه، ونِيَّته ومعاملته لربِّه، ويُلْبَس المرائي اللَّابس ثوبي الزُّور من المقْتِ، والمهانة، والبُغْضة ما هو اللَّائق به ؛ فالمُخلِص له المهابة والمحبَّة، وللآخر المقت والبغضاء»، فرحمك الله شيخنا، وأنزل على قبرك شآبيب رحمته.

الريحانة الثانية:
التَّربية العلمية الإيمانيَّة:
حَبا الله شيخنا من العلم الواسع، والفقه المتين، والبصيرة الُمنوَّرة بهدي الكتاب والسُّنة الكثير الكثير، فربَّى نفسه على ذلك وروَّضها، وإذا قرأتَ كتابه «معالم الشخصية الإسلامية» أيقنتَ أنَّ هذا الُمؤلِّف عالِـمٌ من الطراز الفريد، وتجده رباني العِلْم والتربية المؤمنة، ومن فضل عليَّ جاء اليوم الذي أَراه، وتكتحل عيني بطلَّته البهية، ويُقدَّر الله أن أكون من تلاميذه، ثُمَّ من المقرَّبين الخواص، فرأيتُ عجباً، وكنتُ أُقيِّد مِن مثل ما رأيت في هذا الجانب الكثير، وحين يلمحني يقول لي لا تفعل، ويوم ألْححتُ عليه في الكتابة عن حياته، وأنِّي أدَّخرها لهذا الشأن، امتنع بشدة، وكان يقول لي: «ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم» فأحاول، فيقول: «الحي لا تُؤمن عليه الفتنة» فأكرِّر الإلحاح، فيذكر قصة الشيطان مع الإمام أحمد: وقوله: «فُتَّنِـي يا أحمد، ويقول: لا بعد» ثم أُثني على إسهاماته الدَّعوية وجهوده العلمية، فيقول ــ أعلى الله منزلته ــ: «لا أعدُّ هذا شيئاً» ! وهكذا كلما طَرقتُ باباً سدَّه وامتنع، حتَّى ألححتُ عليه كثيراً كثيراً، وبعد جُهد جهيد، وقد منع غيري، رَضِيَ - أرضاه الله - بالموافقة أن أُسطِّر عنه، لحظوتي ومكانتي عنده، هذه واحدة، والثانية لرؤيا رأيتها، إلَّا أنَّ شيخنا: اشترط عليَّ نشرها بعد وفاته، وسيكون، فالحمد لله على فضله وتوفيقه.

الريحانة الثالثة:
التَّربية الجهادية:
أمَّا عن الجهاد فأمره عجيب مع هذا العالِـم الرَّباني، فلقد كانت له أيادٍ بيضاء فيه، ولكن دُون أن يُحدِث كبير ضجَّة حوله عن اهتمامه بهذا، وكثيرٌ من الناس يجد لذَّة ونشوة في الحديث عن هذا الجانب وأنَّه من أربابه وأصحابه، وربما لم يُصب به إلَّا بسهم التَّحدُّث به والمفاخرة!! وما هكذا العُظماء؟ أَوَمَا عقلتَ قولةَ الفاروق حين عُدِّد له شهداء المعركة، قالوا: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال: «لا يَضرُّهم أنْ يعرفهم عمر، لكنَّ الله يعرفهم»، وكفى، نعم كفى.
هذه خصيصة الرَّبانيين، لا يُشهِدُون على أعمالهم إلَّا ربهم، هو أُنسهُم وشاهدُهم، وخبيرُ أمرهم وأحوالهم، فما أسعدهم، وأَسْعِد بهم!

وهكذا كان شيخنا؛ فأقرب الناس حوله خَفِيت عنهم هذه العنايات، وقد ادَّخر عند ربِّه هذه العبادة الخفية، وعلم الناس عنه في هذا الباب المبارك بعد وفاة الكثير الكثير. غير أنِّي ظفرت بنَزْرٍ يسير منها في حياته بموقفين:
الأول: موقف المجاهدين الأفغان، وكيف كان على صِلَة ودراية واهتمام بواقعهم، وقد ذكر: لي عنهم أموراً عجيبة، ثم ما نصحهم به وذكَّرهم بالله تعالى حين دبَّ الخلاف بينهم، وكان قد أرسل لهم رسائل في ذلك، وقد أطلعني على شيء من ذلك:.
والثاني: يوم استشهاد الشيخ أحمد ياسين؛ أبان لي بعضاً منها، فذهب يذكر شيئاً من وميض الذكريات وما منَّ الله به عليه، وصلته بالشيخ: في هذا الباب، وكم حاول: أنْ يَذهب بالموضوع بعيداً إلَّا وكنتُ أحاول ردَّه إليه لأسمع وأسمع، غير أنه: كان يُخفي كثيراً وكثيراً، ولا عَجب، فهو رجل من رجال الإخلاص الأول في هذا العصر، وصفحات شيخنا: غير المحكيَّة في هذا الباب كثيرة.

الريحانة الرابعة:
حُسْنُ الُخلُق ودماثتُه:
وهذه خَصْلة نادرة ومتميِّزة في الشيخ؛ قد مَلأت حياته كلَّها، أَنْعِم بهذا الشَّيخ: حَسَنُ الأخلاق، زَكيُّ النَّفس، طيِّبُ القلب، سليم الصدر، عفيف اللِّسان، عجيب الصَّمت، ولصمته أسرار وأخبار، لا تجد في قلبه غِلَّاً ولا حقداً أو حسداً لمسلم، وكيف لا يكون كذلك، وقدِ امتثل خبر نبيِّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ خِيارَكم أَحاسنُكُم أخلاقاً» وأحلف بالله غير حانث: أني لا أعلم لشيخنا: عدواً ولا خصماً، وهل أكثرَ مِن أن تَرى في جنازته وقد شيَّعه الآلاف، فخرج المُوافِق والمُخالِف على اختلاف مذاهبهم وتوجُّهاتهم، وخذ هذا الأدب الجم والُخلُق الرَّفيع ممَّا لمسته من شيخي برَّد الله ضجيعه: أعطاني أحد الدكاترة بحثاً له؛ لمراجعته والنظر فيه، وهو سيقدِّمه للترقية، فما أنْ قرأته ونظرتُ فيه إلَّا وتذكَّرتُ أنَّ هذا البحث قد مرَّ عليَّ، وسبق لي مُطالعتُه، فلمَّا انقلبتُ أبحث بين أرْوِقة مكتبتي، فإذا بي أجده، فإذا هو يُوافق البحث الآخر بكامله حتى في الأخطاء! فعجبتُ والله كثيراً، من هذه السرقة العلمية الفاضحة - وما أكثرها اليوم - ووقعتُ في حَيْرة، هل أرجعُه وأسكت؟ أو أخبر عميد الكلية شيخنا الراحل، أو ماذا أفعل؟ فانشرح صدري للذهاب لشيخي؛ وقلت له الأمر دون ذكر اسم هذا الدكتور الخائب! فما كان من الشيخ إلَّا أنْ تألَّـم وقال: اكتُم هذا الأمر، ولا تخبرني عن صاحبه - مع العلم أنه سيُقدَّم عنده للترقية - وأَرْجِعْهُ ولا تكشف له سِتْراً، وذكِّر صاحبه بالله بأسلوب حكيم موفَّق، طالما أنَّ الأمر لم يصل إلينا، فالسِّتر على المسلم خيرٌ كبير، مع عدم إقراري لهذا الفعل الشنيع، فعمِلْتُ بهذه الوصية، وحَفِظَ ذاك ماء وجهه فلم يُقدِّمه.

فانظر إلى هذا الآداب العملية التي تحلَّى بها الشيخ: مع هذه البصيرة المباركة، وهكذا والله كان شيخنا: مدرسة في الأخلاق، فتِّش عن أيِّ خُلُق، تجد هذا الشيخ المهيب قد نال حظاً وافراً منه، فلا تَسَلْ عن لين الجانب، والسَّماحة، والتَّواضع بأنواعه: تواضع الفِكْر والرَّأي، وتواضع المعاملة، وتواضع العيش، إلا أنَّ أميز سِمَةٍ كانت في الشيخ؛ عزَّة المؤمن والعالـم الذي يخشى الله تعالى، ولو ذهبتُ أسوق مواقف لهذه الخصال من هذا السُّمو الأخلاقي الرفيع، والامتثال الضَّليع؛ لطال بي المقام.

الرَّيحانة الخامسة:
اعرف كيف تموت:
فإنَّ من الناس مَن يموت يوم يموت لا يُساوي شيئاً، ولكنَّ القليل من الناس من يموت يوم يموت يُساوي أمةً مِن الأمم، وهكذا كان الشيخ؛ فالعُظماء والنُّبلاء، يُحسنُون صناعة الموت، وكيفيَّة الموت، وإنِ استعرضتَ التاريخ الإسلامي الحافل مِن لَدُن العهد النَّبوي إلى أيامنا هذه، تجد أنَّ أهل الفضل والَمنقَبة في الإسلام لهم مع صناعة الموت حكايات وأسرار، ولئن قَعدتْ بهم أجسادهم، فإنَّ نفوسهم توَّاقةٌ لمدارج المعالي، ولمعارج الرِّفعة والسُّمُو، «والأعمال بالنِّيات» والجوارح شاهدات، ولذا ألْـهَم الله الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل: أن يقول: بيننا وبينكم يوم الجنائز!
وجاءت جنازة الشيخ عمر: واحتشد الآلاف، وأكتظَّ الجامع بالزِّحام، وهرع الدُّعاة وأهل العلم، من الداخل والخارج، لتشيعه حتى غدا أهل البيوت في طريق المقبرة يفتحونها للوضوء، والراحة من كثرة من شيَّع في تلك القرية ذهاباً وإياباً؟
هكذا هو الإحسان في صناعة الموت والتأهب له، فمن رام خاتمةً حسنة طيبة، عمل لها في حياته ابتغاء وجه الله سبحانه، وامتثل بنفسه وقلبه وعقله وجوارحه هِدَايات الكتاب والسُّنة النَّبوية في كلِّ حياته؛ فاستقامت كما أراد الله، وفَقِهَ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينها أَبْصِرْ بما يُجريه الله على يديه من ألوان الخيرات والبُشريات، ورفعة الدَّرجات، وأمَّا من قعدت به نفسُه، فكسرته عن معالي الأمور، فقد حرمها الخير كل الخير، وكان أسيراً لدركات الشهوات والشبهات، و«كلُّ الناس يَغْدُو؛ فبَايِعٌ نَفسَه فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها»، فاخْتَرْ لنفسك أي صناعة للموت تريد؟

الريحانة السادسة:
الأثر الصالح قبل الرحيل:
العقلاء يُبقون لهم آثاراً تدلُّ على حُسْن حالهم، ومِن أحسن الأثر، العِلْم النَّافع، والعمل الصالح، والولد البار، وقد حازها بفضل الله شيخنا: كلها، فعِلْمُه أشهرُ مِن أنْ يُذكر، وعمله عمل السَّابقين بالخيرات - نحسبه - وأبناؤه من الأبرار الفضلاء البارِّين به، فما أحسن العمل، وما أجمل الأثر، فليتفكَّر المسلم والمسلمة وليتزوَّد كلٌّ من الخيرات، وليترك أثراً صالحاً قبل رحيله، حتَّى يُغدِق الله به عليهم حسنات تترى، وفضائل شتَّى، والمُوفَّق من وفَّقه ربُّه للخير وفي الخير، وخَتَمه على خير، ومن لطائف هذا الأثر، أن يكون للمرء بعد وفاته الذِّكر الحسن بين الناس، ولهذا سأل نبي الله إبراهيم الخليل ؛ربَّه عزَّ وجل فقال: (وَاجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ)، قال أهل التفسير: هو الذِّكْر الجميل، والثناء الحسن بعد الممات قروناً تِلْو قرون.

يَمُوتُ قَومٌ فيُحْي العِلْمُ ذِكْرهُمُ ** **والجهْلُ يُلْحِقُ أَمْواتاً بأمْــــــــواتِ
الريحانة السابعة:
ختامه مسك مع المسك:
ففي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، إنه لم يَبقَ مِن مُبشِّرات النُّبوة إلَّا الرُّؤيا الصالحة يراها المسلمُ، أو تُرى له).

ولشيخنا: مع الرُّؤى مواقف وعجائب، وخذ ثلاث رؤى عن المسك:

الأولى: رأى أحدهم أنِّي أسير مع شيخنا: في أروقة الجامعة، وأُوزِّع مِسْكاً على الناس أُطيِّبهم، وأعطيهم منه. فكان التعبير: أكتب كتباً تنفع الناس، ولم يكن لي سابق تأليف، وهكذا كان بحمد الله وفضله، فلمَّا ألَّفتُ وحقَّقتُ، كان الشيخ: يُراجع كلَّ ذلك، ويُقدِّم له، ويُقرِّظ، وهذا من فضل الله عليَّ، وكم اليوم أفتقدك شيخنا رحمك الله، إلَّا أنَّ يقيني أنَّ ما عند الله هو خير لك وأبقى من هذه الدنيا، فلمَّا قَصصتُ عليه هذه الرُّؤيا وخبرها، قال:: خُذْ منِّي الثانية، وهي بالمسك:
الثانية: قال الشيخ: رأيتُ أني وقفتُ على أبواب المسجد الأقصى، وكنتُ أُوزِّع على الناس مِسْكاً.فسألتُ شيخنا:: فما أوَّلتها ؟ فقال هذه الكتب النَّافعة، وكانت كُتبي تُوزَّع على أبواب المساجد في الكويت وغيرها.
أما الثالثة: فهي عزيزة عليَّ، فقد رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وكنت قد لبستُ عباءة سوداء مذهَّبة، وقال لي: اكتب ترجمة عن عمر الأشقر، ولم يَدُرْ بخلدي أنْ أقوم بهذا الأمر، حتَّى جاءت هذه الرُّؤيا. ففرحتُ بها كثيراً، وتلهَّفت بطلوع الصباح، وقدمت مُسرِعاً لشيخنا، وقصصت من خبري عليه، فصمت كثيراً، وهو يحسن الصمت ويُتقنه أيَّما إتقان، فما نطق بحرف واحدٍ، إلَّا أنَّ الشيخ: بعد أيام! أذن لي بالكتابة عن حياته وما أَبغيه من تدوين كثير من ذلك، فشرح الله صدره لهذا الأمر، وأفاض عليَّ بما لم يُعطِه لأحدٍ، فحدثني وحدَّثني، ووهبني وأعطاني، وخصَّني وميَّزني، فالحمد لله على توفيقه.

المحور الثالث: عاجل بُشرى المؤمن:
والمُبشِّرات لهذا الإمام المبارك: كثيرة، ونحسن الظنَّ بربنا أنها دلائل خير وبشرى، وما هذه البشارات إلا شهادة تُؤدَّى، وستكتب شهادتهم ويسألون، فمِمَّا ورَد في صحاح الأحاديث:
1. رشح عرق الجبين: ويشهد له حديث بُريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المؤمن يموت بعَرق الجبين»
2. المبطون شهيد: ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة؛ المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الَهدْم، والشهيد في سبيل الله»
3. الوقاية من عذاب القبر: ويشهد له حديث عبد الله بن يسار يقول: كنت جالساً مع سليمان بن صُرَد وخالد بن عُرْفُطَة فذكروا رجلاً تُوفِّي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازته فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «مَن يَقتُلُه بطنُه فلن يُعذَّب في قبره؟» فقال الآخر: بلى.
4. والشهادة بالثناء الحسن للمُتوفَّى: يصدِّقه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: مرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرَّاً، فقال: «وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً؛ فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرَّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»
5. شفاعة المصلين لاسيَّما أهلُ التوحيد للمُتوفَّى: ويدل لهذه الشفاعة أحاديث:
- حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مَيِّت يُصلِّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلُّهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَعهم الله فيه»
6. الختم على عمل صالح: فعن أنس بن مالك، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً يستعمله» قيل: كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: «يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت»
وعن عمرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَهُ قبل موته» قيل: وما عسلُه قبل موته ؟ قال: «يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه»
فيا لله، هل هنا عملٌ خير من تفسير كتاب الله يُختم عليه المرء، آه يا شيخي فتفسيرك «المعاني الحِسَان» افتقدك، وقد أنهيتَ تفسير ثمانية عشر جزءاً، وكنتَ تَشُوق وتَتوق لإكماله، فهنيئاً لك هذا الختم المبارَك، وإنَّا على دربك سائرون ومُكمِّلون.
هذه ومضة سريعة عن هذا الإمام المبارك، والعالم الرَّباني، وهي بعضٌ من بعضٍ ممَّا تميَّز به، فهكذا كان، وهكذا فلنكن، فهذا العالِـمُ الذي لو كتبتُ فيه مِن الصَّفحات عشرات، ومِئات لا أُوْفِيه حَقَّه، ولا بعض حَقِّه، وحَسْبي أنْ أكُون في هذه الشجون والعِبَر ممَّن يُحيي مَجداً، ويَرسُم قدوةً، ويُهيِّئ دَرْباً للمَعالي، راجياً أنْ يكون بما قيَّدتُ نِبرَاساً للاهتداء، وعَلَماً للاقتداء.
فاللَّهُمَّ اغفر لشيخنا ووالدنا ومُعلِّمنا ومُربِّينا ذنبه، واستُر عيبه، وضَعْ عنه وِزْره، وأرفع له ذِكْره، واجعل له لسان صِدْقٍ في الآخرين، واجمعنا به مع النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، وأختم بوصية شيخنا؛ التي دوَّنها في مطلع كتابه «الصفحات»:

«أوصي أولادي وذريتي، ومن انتفع بكتبي، ومن يريد الإحسان إليَّ أن يستغفروا لي كثيراً، فأنا عبد الله الخطَّاء، وأسأل الله رحمته وعفوه وإحسانه، وأن يتمَّ عليَّ ستره وعافيته، ومغفرته في الدنيا والآخرة»




زينةُ العلماء، وحليةُ الأولياء

د. محمد بن يوسف الجوراني
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى