- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3747
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
المذاكرة عند المحدثين
الإثنين 14 نوفمبر 2011, 20:32
المذاكرة عند المحدثين
(مفهومها، أساليبها، أثرها في النقد الحديثي)
توطئـة
توطئـة
الحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلَّم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أشرفَ العلوم، وأجلَّها قدرًا، وأرفعها مكانة: علم الوحيين؛ كتاب الله -تعالى-، وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وإن من أشرف علوم السنة ومباحثها: علم
النقد الحديثي؛ الذي يدور فَلَكُه في قضايا الصحة والضعف، والثبوت
والبطلان؛ تمحيصًا للسنة، وإحقاقًا للحقِّ منها، ودرءًا للكذب على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا، ومباحث النقد الحديثي جمَّةٌ وفيرة، وفروعه أكبر من أن يُحيط بها مقام، وهذا أوجب الدراسةَ الفاحصة لكل جزءٍ منها على حِدَة.
وإن من مهمَّات تلك المباحث: (المذاكرة
عند المحدثين)، وهو مبحثٌ من النَّفاسَة بمكان، ومنهجٌ عريقٌ من مناهج
أئمة النقد، وإن كان يغفُل عنه كثيرٌ ممن يشدو هذا العلم.
ولما له من الأهمية، ولما يترتَّب عليه
من الأثر في النقد؛ أولَيتُه الاهتمام والعناية، مستعينًا بالله -تعالى-،
سائلَهُ التوفيق والتسديد والإعانة، مستغفرَهُ من التقصير والزلل والخلل.
وسأعقد مسائل المذاكرة في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير واقع المذاكرة عند المحدِّثين ووصفه.
وتحته سبع مسائل:
1- مفهوم المذاكرة.
2- الأغراض الرئيسة للمذاكرة.
3- أنواع المذاكرة (بالنظر إلى مادَّتِها).
4- أنواع المذاكرة (بالنظر إلى المُذاكَرِ مَعَه).
5- أداء الحديث في المذاكرة.
6- التحمُّل عن الراوي في المذاكرة.
7- البحث عن العلو بعد المذاكرة.
المبحث الثاني: في بيان أثر تصوُّر ذلك في النقد الحديثي.
والله الموفق والمستعان.
المبحث الأول
الله وسلَّم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أشرفَ العلوم، وأجلَّها قدرًا، وأرفعها مكانة: علم الوحيين؛ كتاب الله -تعالى-، وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وإن من أشرف علوم السنة ومباحثها: علم
النقد الحديثي؛ الذي يدور فَلَكُه في قضايا الصحة والضعف، والثبوت
والبطلان؛ تمحيصًا للسنة، وإحقاقًا للحقِّ منها، ودرءًا للكذب على رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا، ومباحث النقد الحديثي جمَّةٌ وفيرة، وفروعه أكبر من أن يُحيط بها مقام، وهذا أوجب الدراسةَ الفاحصة لكل جزءٍ منها على حِدَة.
وإن من مهمَّات تلك المباحث: (المذاكرة
عند المحدثين)، وهو مبحثٌ من النَّفاسَة بمكان، ومنهجٌ عريقٌ من مناهج
أئمة النقد، وإن كان يغفُل عنه كثيرٌ ممن يشدو هذا العلم.
ولما له من الأهمية، ولما يترتَّب عليه
من الأثر في النقد؛ أولَيتُه الاهتمام والعناية، مستعينًا بالله -تعالى-،
سائلَهُ التوفيق والتسديد والإعانة، مستغفرَهُ من التقصير والزلل والخلل.
وسأعقد مسائل المذاكرة في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير واقع المذاكرة عند المحدِّثين ووصفه.
وتحته سبع مسائل:
1- مفهوم المذاكرة.
2- الأغراض الرئيسة للمذاكرة.
3- أنواع المذاكرة (بالنظر إلى مادَّتِها).
4- أنواع المذاكرة (بالنظر إلى المُذاكَرِ مَعَه).
5- أداء الحديث في المذاكرة.
6- التحمُّل عن الراوي في المذاكرة.
7- البحث عن العلو بعد المذاكرة.
المبحث الثاني: في بيان أثر تصوُّر ذلك في النقد الحديثي.
والله الموفق والمستعان.
المبحث الأول
تصوير واقع المذاكرة عند المحدِّثين ووصفه
تمهـيد
جرى
عُرف المحدِّثين في زمن الرواية[1] أن يكون الحفظ هو الأساس الأول،
والركيزة المعتمدة لنقل السنة النبوية، وتبليغ شريعة الله -عز وجل-.
وقد وهب الله -تعالى- أهلَ العلم
وطلابَه -بل وغيرَهم- في العصور العلمية الذهبية قدراتٍ كبيرة، وإمكاناتٍ
عظيمةً في حفظ ما يسمعون من أول سماع.
حتى كان منهم من يحفظ كل ما سمع، ولم
يكتب سوداء في بيضاء[2]، وكان منهم من إذا سمع الحديث اختطفه اختطافًا[3]،
في نماذجَ كثيرةٍ من هذا الصنف.
إلا أن القدرات البشرية تبقى قاصرة،
وليس في طاقة الإنسان أن يحفظ الشيء فلا ينساه، بل صحَّ عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- أنه قال: "إنما سُمِّي الإنسان لأنه عُهِد إليه، فنَسِي"[4].
قال الشاعر:
وما سُمِّي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ وما القلب إلا أنه يتقلَّبُ
وقال آخر:
لا تَنسَيَنْ تلك العهودَ وإنما سُمِّيت إنسانًا لأنك ناسي
ولذا؛ كان لزامًا على المحدِّثين
-وغيرِهم من أهل الحفظ- أن يلزموا مسلكًا يوفِّقون به بين الحفظ من جهة،
والضبط من جهةٍ أخرى، ويجمعون به بين طلب المزيد، وتثبيت ما سبق حفظُه من
الحديث.
فكان أن جَرَوا على اتباع وسائل موصلة إلى ذلك، منها:
أولاً: التكرار والمراجعة:
روي عن ابن شهاب الزهري أنه كان يسمع
العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جاريةٍ له وهي نائمة، فيوقظها، فيقول:
"اسمعي، حدثني فلان كذا، وحدثني فلان كذا"، فتقول: ما لي وما لهذا
الحديث؟! فيقول: "قد علمتُ أنك لا تنتفعين به، ولكني سمعته الآن، فأردت أن
أستذكره"[5].
وروي عن عبدالرزاق، قال: "كان سفيان
الثوري عندنا ليلةً، وسمعت قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي،
فقضى جُزأه من الصلاة، ثم قعد، فجعل يقول: "الأعمش، والأعمش، والأعمش،
ومنصور، ومنصور، ومنصور، ومغيرة، ومغيرة، ومغيرة"، فقلت له: يا أبا
عبدالله ما هذا؟! قال: "هذا جزئي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث""[6].
وقال معاذ بن معاذ: "كنا بباب ابن عون،
فخرج علينا شعبة وقد عقد بيديه جميعًا، فكلَّمه بعضنا، فقال: "لا تكلمني؛
فإني قد حفظت عن ابن عون عشرةَ أحاديث، أخاف أن أنساها""[7].
ثانيًا: تعاهد الكتب:
والمراد: مراجعتها، وتكرار النظر فيها.
قال الخطيب: "وينبغي... ألا يغفل الراوي عن مطالعة كُتُبه، وتعاهدها، والنظر فيها"[8].
قال الحسن البصري: "إن لنا كُتُبًا نتعاهدها"[9].
وقال أحمد بن حنبل -في معمر بن راشد-: "كان يتعاهد كُتُبه وينظر فيها -يعني: باليمن"[10].
ثالثًا: المذاكرة:
وهي محور حديثنا هنا، وهذا أوان البدء بمسائلها، والله الميسر والمسدِّد.
المسألة الأولى: مفهوم المذاكرة:
المذاكرة: مفاعلةٌ من الذِّكْر، وهو الحفظ للشيء، والشيء يجري على اللسان[11].
فهي: مداولةٌ للمحفوظ، وإجراءٌ له على ألسنة المتذاكِرِين.
قال د. إبراهيم بن عبدالله اللاحم: "وهي
في الأصل: طرح موضوعٍ للبحث بين اثنين أو أكثر، وقد يكون الموضوع مسألةً
فقهية، أو حديثية، أو لغوية، أو نحوية، أو غير ذلك"[12].
وأما في هذا المقام:
فقد عرَّفها د. حاتم بن عارف العوني
بقوله: "مطارحاتٌ علمية، ومساجلاتٌ حديثية، يعرض فيها الجلساء من حفاظ
الحديث وطلبته لذكر فوائد الأحاديث، وغرائب الأسانيد، وخفي التعليلات،
يسأل بعضهم بعضًا عن ذلك، ويفيد الواحد منهم الآخر ما غاب عنه"[13].
وقال -أيضًا-: "هي المجالس التي يجتمع
فيها المحدِّثون لا لقصد الرواية والسماع، وإنما لقصد مراجعة محفوظهم، أو
لإفادة بعضهم بعضًا غرائبَ الأحاديث وعواليَها ومستحسناتها، أو لحصر
أحاديث الأبواب أو التراجم"[14].
ويمكن تلخيص مفهومها بأن يُقال: هي
تداوُل الأحاديث وغيرِها مما يتَّصل بها بين الراوي وغيرِه؛ يذكِّر
أحدُهما الآخرَ ما أرادا مذاكرته، ويستفيدان من بعضهما ما لم يكن عندهما.
المسألة الثانية: الأغراض الرئيسة للمذاكرة:
كان للمحدثين من عقد المذاكرات الحديثية غرضان رئيسان[15]:
أحدهما: تثبيت الحديث وضبطه.
وإنما صارت المذاكرة مثبِّتةً للحفظ؛
لأن الراوي يستجمع فيها عقله، ويصفِّي ذهنَه، ويستحضر محفوظاته، فيَعرِف
ما يَذكره وما يُذكر له، وما يُسنِد وما يُسنَد له، إلى آخر ما هنالك.
قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كنا
عند أبي أيوب سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي، فلم يأذن للناس أيامًا، فلما
دخلنا عليه واستزدناه؛ قال: "بلغني وُرود هذا الغلام الرازي -يعني: أبا
زرعة-، فدَرَستُ للالتقاء به ثلاثمائة ألف حديث"[16].
ثاني الغرضَين: الحفظ الجديد؛ باستفادة الأحاديث الغريبة على المحدِّث من مُذاكِرِيه.
وسيأتي في ثنايا هذه المسائل ما يوضِّح هذا الغرض -بإذن الله-.
--------------------------------------------------------------------------------
عُرف المحدِّثين في زمن الرواية[1] أن يكون الحفظ هو الأساس الأول،
والركيزة المعتمدة لنقل السنة النبوية، وتبليغ شريعة الله -عز وجل-.
وقد وهب الله -تعالى- أهلَ العلم
وطلابَه -بل وغيرَهم- في العصور العلمية الذهبية قدراتٍ كبيرة، وإمكاناتٍ
عظيمةً في حفظ ما يسمعون من أول سماع.
حتى كان منهم من يحفظ كل ما سمع، ولم
يكتب سوداء في بيضاء[2]، وكان منهم من إذا سمع الحديث اختطفه اختطافًا[3]،
في نماذجَ كثيرةٍ من هذا الصنف.
إلا أن القدرات البشرية تبقى قاصرة،
وليس في طاقة الإنسان أن يحفظ الشيء فلا ينساه، بل صحَّ عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- أنه قال: "إنما سُمِّي الإنسان لأنه عُهِد إليه، فنَسِي"[4].
قال الشاعر:
وما سُمِّي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ وما القلب إلا أنه يتقلَّبُ
وقال آخر:
لا تَنسَيَنْ تلك العهودَ وإنما سُمِّيت إنسانًا لأنك ناسي
ولذا؛ كان لزامًا على المحدِّثين
-وغيرِهم من أهل الحفظ- أن يلزموا مسلكًا يوفِّقون به بين الحفظ من جهة،
والضبط من جهةٍ أخرى، ويجمعون به بين طلب المزيد، وتثبيت ما سبق حفظُه من
الحديث.
فكان أن جَرَوا على اتباع وسائل موصلة إلى ذلك، منها:
أولاً: التكرار والمراجعة:
روي عن ابن شهاب الزهري أنه كان يسمع
العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جاريةٍ له وهي نائمة، فيوقظها، فيقول:
"اسمعي، حدثني فلان كذا، وحدثني فلان كذا"، فتقول: ما لي وما لهذا
الحديث؟! فيقول: "قد علمتُ أنك لا تنتفعين به، ولكني سمعته الآن، فأردت أن
أستذكره"[5].
وروي عن عبدالرزاق، قال: "كان سفيان
الثوري عندنا ليلةً، وسمعت قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي،
فقضى جُزأه من الصلاة، ثم قعد، فجعل يقول: "الأعمش، والأعمش، والأعمش،
ومنصور، ومنصور، ومنصور، ومغيرة، ومغيرة، ومغيرة"، فقلت له: يا أبا
عبدالله ما هذا؟! قال: "هذا جزئي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث""[6].
وقال معاذ بن معاذ: "كنا بباب ابن عون،
فخرج علينا شعبة وقد عقد بيديه جميعًا، فكلَّمه بعضنا، فقال: "لا تكلمني؛
فإني قد حفظت عن ابن عون عشرةَ أحاديث، أخاف أن أنساها""[7].
ثانيًا: تعاهد الكتب:
والمراد: مراجعتها، وتكرار النظر فيها.
قال الخطيب: "وينبغي... ألا يغفل الراوي عن مطالعة كُتُبه، وتعاهدها، والنظر فيها"[8].
قال الحسن البصري: "إن لنا كُتُبًا نتعاهدها"[9].
وقال أحمد بن حنبل -في معمر بن راشد-: "كان يتعاهد كُتُبه وينظر فيها -يعني: باليمن"[10].
ثالثًا: المذاكرة:
وهي محور حديثنا هنا، وهذا أوان البدء بمسائلها، والله الميسر والمسدِّد.
المسألة الأولى: مفهوم المذاكرة:
المذاكرة: مفاعلةٌ من الذِّكْر، وهو الحفظ للشيء، والشيء يجري على اللسان[11].
فهي: مداولةٌ للمحفوظ، وإجراءٌ له على ألسنة المتذاكِرِين.
قال د. إبراهيم بن عبدالله اللاحم: "وهي
في الأصل: طرح موضوعٍ للبحث بين اثنين أو أكثر، وقد يكون الموضوع مسألةً
فقهية، أو حديثية، أو لغوية، أو نحوية، أو غير ذلك"[12].
وأما في هذا المقام:
فقد عرَّفها د. حاتم بن عارف العوني
بقوله: "مطارحاتٌ علمية، ومساجلاتٌ حديثية، يعرض فيها الجلساء من حفاظ
الحديث وطلبته لذكر فوائد الأحاديث، وغرائب الأسانيد، وخفي التعليلات،
يسأل بعضهم بعضًا عن ذلك، ويفيد الواحد منهم الآخر ما غاب عنه"[13].
وقال -أيضًا-: "هي المجالس التي يجتمع
فيها المحدِّثون لا لقصد الرواية والسماع، وإنما لقصد مراجعة محفوظهم، أو
لإفادة بعضهم بعضًا غرائبَ الأحاديث وعواليَها ومستحسناتها، أو لحصر
أحاديث الأبواب أو التراجم"[14].
ويمكن تلخيص مفهومها بأن يُقال: هي
تداوُل الأحاديث وغيرِها مما يتَّصل بها بين الراوي وغيرِه؛ يذكِّر
أحدُهما الآخرَ ما أرادا مذاكرته، ويستفيدان من بعضهما ما لم يكن عندهما.
المسألة الثانية: الأغراض الرئيسة للمذاكرة:
كان للمحدثين من عقد المذاكرات الحديثية غرضان رئيسان[15]:
أحدهما: تثبيت الحديث وضبطه.
وإنما صارت المذاكرة مثبِّتةً للحفظ؛
لأن الراوي يستجمع فيها عقله، ويصفِّي ذهنَه، ويستحضر محفوظاته، فيَعرِف
ما يَذكره وما يُذكر له، وما يُسنِد وما يُسنَد له، إلى آخر ما هنالك.
قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كنا
عند أبي أيوب سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي، فلم يأذن للناس أيامًا، فلما
دخلنا عليه واستزدناه؛ قال: "بلغني وُرود هذا الغلام الرازي -يعني: أبا
زرعة-، فدَرَستُ للالتقاء به ثلاثمائة ألف حديث"[16].
ثاني الغرضَين: الحفظ الجديد؛ باستفادة الأحاديث الغريبة على المحدِّث من مُذاكِرِيه.
وسيأتي في ثنايا هذه المسائل ما يوضِّح هذا الغرض -بإذن الله-.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أريد به: زمن التابعين فمن بعدهم، إلى القرن الرابع الهجري.
[2] انظر: طبقات ابن سعد (6/249)، الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (6/323)، المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للرامهرمزي (ص380).
[3] انظر: المعرفة والتاريخ، ليعقوب الفسوي (2/282)،
الجعديات، للبغوي (1016)، المحدث الفاصل (ص402)، الجامع لأخلاق الراوي
وآداب السامع، للخطيب البغدادي (1/235 ط. الطحان).
الجعديات، للبغوي (1016)، المحدث الفاصل (ص402)، الجامع لأخلاق الراوي
وآداب السامع، للخطيب البغدادي (1/235 ط. الطحان).
[4] أخرجه عبدالرزاق في تفسيره (1782)، ومصنفه (5581)،
والطبري في تفسيره (14/57، 16/182)، وابن أبي حاتم في تفسيره (13546،
15113)، والطبراني في الصغير (925)، والحاكم (2/381)؛ من طرقٍ عن سعيد بن
جبير، ومسدد -كما في المطالب العالية (678)-، وابن عساكر في تاريخ دمشق
(7/375)؛ من طريق عطاء، كلاهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وروي عن
سعيد بن جبير من قوله؛ أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/26).
والطبري في تفسيره (14/57، 16/182)، وابن أبي حاتم في تفسيره (13546،
15113)، والطبراني في الصغير (925)، والحاكم (2/381)؛ من طرقٍ عن سعيد بن
جبير، ومسدد -كما في المطالب العالية (678)-، وابن عساكر في تاريخ دمشق
(7/375)؛ من طريق عطاء، كلاهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وروي عن
سعيد بن جبير من قوله؛ أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/26).
[5] المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي (ص292)، الجامع (2/268).
[6] الجامع (2/265).
[7] الجامع (1/238، 239).
[8] الجامع (2/13).
[9] المعرفة والتاريخ (3/227)، المحدث الفاصل (ص371)، الجامع (2/14).
[10] تاريخ دمشق، لابن عساكر (36/169).
[11] لسان العرب، لابن منظور (4/308).
[12] الجرح والتعديل (ص62).
[13] نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية (ص35).
[14] شرح الموقظة (ص170).
[15] انظر: الجرح والتعديل، لإبراهيم اللاحم (ص63).
[16] تهذيب الكمال، للمزي (12/31).
- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3747
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
رد: المذاكرة عند المحدثين
الإثنين 14 نوفمبر 2011, 20:33
المسألة الثالثة: أنواع المذاكرة (بالنظر إلى مادَّتِها)[1]:
للمذاكرة الحديثيَّة باعتبار مادَّتِها التي يُذاكَر بها أنواع:
1- المذاكرة على الأبواب:
بأن يطرح المتذاكرون بابًا من أبواب العلم؛ يتذاكرون الأحاديث والآثار فيه، كأبواب الفقه، والعقيدة، والآداب، وغيرها.
قال عبدالله بن إدريس: "كنت يومًا عند
الأعمش، فقال لي: "أيَّ شيءٍ تحفظ في القسامة؟"، قلت: حدثني أبي، عن حماد،
عن سعيد بن جبير..."[2].
وقال منصور بن أبي مزاحم: سمعت شريك
بن عبدالله يقول -في مجلس أبي عبيدالله، وفيه الحسن بن زيد بن الحسن بن
علي، والزبيري أبو مصعب هذا، وغيره من أشراف الناس، وابنٌ لأبي موسى يقال
له: أبو بلال الأشعري، وخالد بن فلان المخزومي-؛ فتذاكروا النبيذ،
فتحدثوا، فتكلم من حضر من العراقيين في النبيذ فرخصوا، وذكر الحجازيون
التشديد، فقال شريك: "حدثنا أبو إسحاق الهمداني..."، فساق أثرًا في
ذلك[3].
وقال أبو داود الطيالسي: "كنا ببغداد،
وكان شعبة وابن إدريس يجتمعون بعد العصر؛ يتذاكرون، فذكروا باب المجذوم،
فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي الزناد..."، فذكر أثرًا[4].
وقال أحمد بن حنبل -في كلامٍ له-:
"... وقتَ التقينا على باب ابن علية إنما كنا نتذاكر الفقهَ والأبواب، لم
نكن تلك الأيام نتذاكر المسند، كنا نتذاكر الصغار وأحاديث الفقه
والأبواب"[5].
ورُوي عن أحمد بن الفرات أبي مسعود
الأصبهاني، قال: "كنا نتذاكر الأبواب، فخاضوا في باب، فجاؤوا فيه بخمسة
أحاديث، فجئتهم آنا بآخر، فصار سادسًا..."[6].
وقال أبو زرعة الرازي: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"، فقيل له: وما يدريك؟ قال: "ذاكرتُه، فأخذتُ عليه الأبواب"[7].
وقال أبو حاتم الرازي: كنت عند والينا
إبراهيم بن معروف، وحضر محمد بن مسلم، فقال -يعني: الوالي-: "يا أبا حاتم
ويا أبا عبدالله؛ لو تذاكرتما؛ فكنت أسمع مذاكرتكما"، فقلت: لا تتهيَّأ
المذاكرة ما لم يَجرِ شيء. فقال: "أنا أُجريه: قد حُبِّبت إليَّ الصدقة،
فما تحفظون فيه؟"، فقال محمد بن مسلم: "حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، عن
عمرو بن أبي قيس...""[8].
وقال أبو القاسم الداركي: "جمع
الصاحبُ إسماعيل بن عباد حفاظَ بلدنا بأصبهان: العسال أبا أحمد، وأبا
القاسم الطبراني، وأبا إسحاق ابن حمزة، وغيرهم، وحضرت، وكان قد قَدِم عليه
ابنُ الجعابي، فأخذوا في مذاكرة الأبواب..."[9].
2- المذاكرة على مسانيد الرواة ومروياتهم:
بأن يطرحوا راويًا، أو طبقةً من الرواة، فيتذاكروا في مروياتهم بعامَّة، أو مروياتهم عن بعض شيوخهم خاصَّة.
قال حماد بن زيد: "سمعت أيوب ويحيى بن عتيق وهشامًا يتذاكرون حديث محمد -يعني: ابن سيرين-..."[10].
وقال سليمان بن حرب: "قدم يحيى بن
سعيد عندنا، فكان يحدِّثهم، وكان أصحابنا لا يكتبون، فلما كان بَعدُ
كتبوا؛ قال حماد[11]: قال لي جرير بن حازم وغيره: "إنا هممنا أن نكتب حديث
يحيى بن سعيد، فلو حَضَرْتَنا"، قال حماد: فحضرتهم، وتذاكرنا حديثه بَعدُ،
فكتبوا"[12].
وقال أبو زرعة الرازي: "وإنما كان
أحمد حدثنا عنه -يعني: أبا قتادة الحراني- في المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي عن
عكرمة، عن الهرماس..."[13].
وقال عبدالله بن وهب الدينوري: "قدم
علينا محمد بن عبدالله بن المبارك المخرمي دينور قاضيًا عليها، فمرَّ بي
يومًا على حُمَيِّر، ومعي رجلٌ من أصحاب الحديث، ونحن جلوسٌ على دكَّةٍ
نتذاكر في شيءٍ من الحديث، فلما رأى المحبرة والكتاب كأنه استأنس، فسلَّم،
وقال: "ما الذي أنتم فيه؟"، فقلنا: نتذاكر شيئًا من حديث إسماعيل بن أبي
خالد. فقال للغلام: "أمسِك عليَّ"، فنزل، وجلس إلينا، وذكر نحو ثمانمائة
حديثٍ من مقطوعٍ ومسندٍ من حديث إسماعيل بن أبي خالد، أكثرها مقاطيع"[14].
قال أبو بكر ابن زنجويه -في حكاية
مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح المصري-: وقال -أي: أحمد بن حنبل- له
-أي: لأحمد بن صالح-: "بلغني عنك أنك جمعت حديث الزهري، فتعالَ حتى نذكر
ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فجعلا
يتذاكران...، ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "تعالَ حتى نذكر ما روى
الزهري عن أولاد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فجعلا
يتذكران..."[15].
وقال أحمد بن حنبل: "جاءنا نعيم بن
حماد ونحن على باب هشيم نتذاكر المقطَّعات[16]، فقال: "جمعتم حديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؟""، قال: "فعُنينا بها منذ يومئذ"[17].
وقال أبو علي النيسابوري الحافظ:
"خرجنا يومًا من عند أبي محمد ابن صاعد، وهو -يعني: أبا بكر الجعابي-
يُسايرني، وقد توجهنا إلى طريقٍ بعيد، فقلت له: يا أبا بكر، أيش أسند
الثوري عن منصور؟ فمَرَّ في الترجمة[18]، فقلت له: أيش عند أيوب السختياني
عن الحسن؟ فمَرَّ فيها، فما زلت أجُرُّه من حديث مصر، إلى الشام، إلى
العراق، إلى أفراد الخراسانيين، وهو يجيب، فقلت له: أيش روى الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد بالشركة[19]، فأخذ يسرد هذه الترجمة،
حتى ذكر بضعة عشر حديثًا، فحيَّرني حفظه..."[20].
وقال عمر بن جعفر البصري: دخلت الكوفة
سنةً من السنين وأنا أريد الحج، فالتقيت بأبي العباس ابن عقدة، وبِتُّ
عنده تلك الليلة، فأخذ يذاكرني بشيءٍ لا أهتدي إليه، فقلت: يا أبا العباس،
أيش عند أيوب السختياني عن الحسن؟ فذكر حديثين..."[21].
وقال أبو القاسم الداركي - في حكايةٍ
له لمذاكرة أبي أحمد العسال والطبراني وأبي إسحاق ابن حمزة وغيرهم-:
"فأخذوا في مذاكرة الأبواب، ثم ثنَّوا بذكر تراجم الشيوخ..."[22].
وقال الخطيب -في محمد بن جمعة بن خلف
القهستاني-: "وصنَّف حديثَ الأئمة؛ مالك، والثوري، وشعبة، ويحيى بن سعيد،
وغيرهم، وكان يُذاكِر بحديثهم حفاظَ عصره، فغلبهم"[23].
3- المذاكرة على الأحاديث وطرقها:
قال أبو طالب: "كنت يومًا عند بشر بن
الحارث، وعنده إبراهيم بن هاشم، ومحمد بن أبي عمران، فتذاكروا: عن ابن
عباس، أنه ختن بَنِيه، فدعا اللعَّابين، فقال بشر: "من روى هذا؟"، فقال:
"سفيان"..."[24].
وقال إسحاق بن راهويه: "كنت أجالس
بالعراق أحمدَ بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من
طريقٍ وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين -من بينهم-: "وطريق
كذا"..."[25].
وقال صالح بن محمد الأسدي (جزرة):
"قال لي أبو زرعة الرازي ببغداد: "أريد أن أجتمع مع سليمان الشاذكوني،
فأناظره"، فذهبت به إليه، فلما دخل عليه؛ قلت له: هذا أبو زرعة الرازي؛
أراد مذاكرتك. فتذاكرا حديث أستار الكعبة وما قطع منها..."[26].
وقال الحاكم: وجدت أبا علي الحافظ سيئ
الرأي في أبي القاسم اللخمي، فسألته عن السبب فيه، فقال: "اجتمعنا على باب
أبي خليفة، فذكرنا طرق: "أُمِرت أن أسجد على سبعة أعضاء"، فقلت له: تحفظ:
(عن شعبة، عن عبدالملك بن ميسرة الزراد، عن طاوس، عن ابن عباس)؟ فقال:
"بلى، غندر وابن أبي عدي"، فقلت: مَن عنهما؟، فقال: "حدثناه عبدالله بن
أحمد بن حنبل، عن أبيه، عنهما"..."[27].
وقال الحاكم -أيضًا-: "حضرت مجلس أبي
الحسين القنطري في محلّته ببغداد، وحضره أبو سعيد بن أبي بكر بن أبي
عثمان، وأبو الحسين ابن العطار، وأبو بكر القطيعي، والحسن بن علان،
وغيرهم، فلما فرغنا من القراءة ذكرنا طرق الغار[28]، فدخل الشيخ يذكر
معنا، فقال: "حدثنا أبو قلابة، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن موسى بن
عقبة..."، وما ذَكَرَ غيرَ هذا، فلما بلغنا آخر الباب؛ قال لنا الشيخ:
"عندكم عن جويرية بن أسماء، عن نافع؟"، فقلنا: لا، فقال: "حدثناه معاذ بن
المثنى، قال حدثنا ابن أخي جويرية، عن جويرية...""[29].
4- مذاكرة المسائل الحديثية:
حيث كان المحدثون يتذاكرون فيما بينهم
مسائل الرجال والسماع والعلل، وكُتُب العلم حافلةٌ بهذا، بل ما كُتُب
السؤالات الحديثية إلا مذاكرةٌ بين السائل والمسؤول في ذلك.
ومن النماذج المتقدمة في ذلك:
قال نوح بن يزيد المعلم: كنا عند
إبراهيم بن سعد يومًا، فتذاكر أصحاب الحديث السماع، فغضب إبراهيم بن سعد؛
قال: "لا تدعون تنطُّعكم يا أهل العراق! العرض مثل السماع، كان ابن شهاب
يُعرَض عليه العلم، فيجيزه"[30].
وقال أبو حاتم الرازي: "تذاكر قومٌ عند يحيى بن ضريس: حماد بن سلمة أحسن حديثًا أو الثوري؟ فقال يحيى: "حماد أحسن حديثًا""[31].
5- مذاكرة المحفوظ عن الشيوخ (بعد مجلس التحديث):
قال عطاء بن أبي رباح: "كنا نكون عند جابر بن عبدالله، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا لحديثه"[32].
وقال يونس بن عبيد: "كنا نأتي الحسن، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا بيننا"[33].
وقال حماد بن زيد: "كنا نخرج من عند أيوب وهشام الدستوائي، فيقول لنا هشام: "هاتوها قبل أن تبرد"، فنقعد، فنتذاكرها بيننا"[34].
وقال يزيد بن زريع: "كان يحيى بن سعيد
الأنصاري لا يملي، فلما قدم علينا البصرة أتيناه، فكان لا يملي علينا،
وكان يحدث، فإذا خرجنا من عنده قعدنا على باب الدار، فتذاكرنا بيننا؛ ذا
عن ذا، وذا عن ذا..."[35].
وقال سفيان بن عيينة: "حدثنا الزهري،
أخبرني سليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون،
فخالفوهم"". قال سفيان: "فلما خرجنا من عند الزهري؛ جلس أيوب السختياني،
وإسماعيل بن أمية، وإسماعيل بن مسلم، وأشعث بن سوار الهذلي، في غيره من
الفقهاء، فقالوا: تعالوا نتذاكر ما سمعنا من الزهري، فجلسوا، وجلست
معهم...، ثم تذاكروا ما سمعوه، فذكروا هذا الحديث: "إن اليهود والنصارى لا
يصبغون..."، فقال بعضهم: هو عن أبي سلمة، وقال بعضهم: هو عن سليمان بن
يسار، فلما أكثروا قلت -وأنا صغير-: هو عن كلاهما. فضجّوا من لحني، ثم قال
إسماعيل: "هو كما قال، الصغير أحفظكم، هو عن كلاهما""[36].
6- مذاكرات الإلغاز الحديثي:
ومنها ما رواه أبو بكر الأبهري، قال:
"سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول لأبي علي النيسابوري الحافظ: "يا أبا علي،
إبراهيم، عن إبراهيم، عن إبراهيم، مَن هم؟"، فقال أبو علي: "إبراهيم بن
طهمان، عن إبراهيم بن عامر البجلي، عن إبراهيم النخعي"، فقال: "أحسنت يا
أبا علي""[37].
وقال الرامهرمزي: "قال لي أبو عبدالله
ابن البري يومًا: "أبو عبدالله، عن أبي عروة، عن أبي الخطاب، عن أبي حمزة،
مَن هم؟"، قلت: لا أدري. قال: "الثوري، عن معمر، عن قتادة، وأبو حمزة لو
قال قائل؛ كان أنس بن مالك". فهذا سألني عنه أبو عبدالله بن البري مفيدًا
على وجه الاختبار"[38].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكر الحاكم -في معرفة علوم الحديث
(ص659-663)- جملةً من أمثلة بعض هذه الأنواع تحت عنوان: «جمع الأبواب التي
يجمعها أصحاب الحديث، وطلب الفائت منها، والمذاكرة بها»، ونصَّ على أنه
ذكر الأبواب التي جمعها، وذاكَرَ جماعةً من أئمة الحديث ببعضها.
[2] ضعفاء العقيلي (1/302).
[3] المحدث الفاصل (ص256)، الكامل في الضعفاء، لابن عدي (4/10).
[4] الجرح والتعديل (4/112).
[5] العلل ومعرفة الرجال، عن أحمد، برواية عبدالله (3/40).
[6] تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (4/343).
[7] تاريخ بغداد (4/420).
[8] الجرح والتعديل (1/358).
[9] سير أعلام النبلاء، للذهبي (16/87).
[10] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/465).
[11] يحكي قصة كتابتهم لحديث يحيى بن سعيد.
[12] المعرفة والتاريخ (2/829).
[13] سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي -ضمن كتاب: «أبو زرعة الرازي وجهودة في خدمة السنة النبوية»- (2/349).
[14] سؤالات السلمي للدارقطني (ص302، 303). والمقاطيع: أقوال السلف.
[15] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[16] وهي أقوال السلف، يدل عليه تتمة الكلام، حيث قوبلت بالأحاديث المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
[17] تاريخ بغداد (13/306).
[18] يعني: أنه مرَّ بأحاديث ترجمة (الثوري عن منصور)، وذكرها.
[19] أي: بالشركة بين أبي هريرة وأبي سعيد في الرواية، وقَرْنِهما معًا.
[20] تاريخ بغداد (3/27)، تاريخ دمشق (54/421، 422).
[21] معرفة علوم الحديث (ص426).
[22] سير أعلام النبلاء (16/87).
[23] تاريخ بغداد (2/169).
[24] المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة (ص107).
[25] الجرح والتعديل (1/293).
[26] تاريخ بغداد (9/46).
[27] معرفة علوم الحديث (ص427).
[28] هو حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار.
[29] معرفة علوم الحديث (ص431، 432).
[30] الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي (ص266).
[31] الجرح والتعديل (3/141).
[32] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (1/139)، العلم لأبي خيثمة (79)، سنن الدارمي (615)، المعرفة والتاريخ (2/23).
[33] سنن الدارمي (608).
[34] الجرح والتعديل (1/182).
[35] المعرفة والتاريخ (2/830).
[36] المعرفة والتاريخ (2/718).
[37] معرفة علوم الحديث (ص630، 631)،
وقد أخرجه الخطيب في الجامع (2/269) من طريق الحاكم، وتعقبه، وينظر حاشية
الموضع من معرفة علوم الحديث.
[38] المحدث الفاصل (ص265).
للمذاكرة الحديثيَّة باعتبار مادَّتِها التي يُذاكَر بها أنواع:
1- المذاكرة على الأبواب:
بأن يطرح المتذاكرون بابًا من أبواب العلم؛ يتذاكرون الأحاديث والآثار فيه، كأبواب الفقه، والعقيدة، والآداب، وغيرها.
قال عبدالله بن إدريس: "كنت يومًا عند
الأعمش، فقال لي: "أيَّ شيءٍ تحفظ في القسامة؟"، قلت: حدثني أبي، عن حماد،
عن سعيد بن جبير..."[2].
وقال منصور بن أبي مزاحم: سمعت شريك
بن عبدالله يقول -في مجلس أبي عبيدالله، وفيه الحسن بن زيد بن الحسن بن
علي، والزبيري أبو مصعب هذا، وغيره من أشراف الناس، وابنٌ لأبي موسى يقال
له: أبو بلال الأشعري، وخالد بن فلان المخزومي-؛ فتذاكروا النبيذ،
فتحدثوا، فتكلم من حضر من العراقيين في النبيذ فرخصوا، وذكر الحجازيون
التشديد، فقال شريك: "حدثنا أبو إسحاق الهمداني..."، فساق أثرًا في
ذلك[3].
وقال أبو داود الطيالسي: "كنا ببغداد،
وكان شعبة وابن إدريس يجتمعون بعد العصر؛ يتذاكرون، فذكروا باب المجذوم،
فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي الزناد..."، فذكر أثرًا[4].
وقال أحمد بن حنبل -في كلامٍ له-:
"... وقتَ التقينا على باب ابن علية إنما كنا نتذاكر الفقهَ والأبواب، لم
نكن تلك الأيام نتذاكر المسند، كنا نتذاكر الصغار وأحاديث الفقه
والأبواب"[5].
ورُوي عن أحمد بن الفرات أبي مسعود
الأصبهاني، قال: "كنا نتذاكر الأبواب، فخاضوا في باب، فجاؤوا فيه بخمسة
أحاديث، فجئتهم آنا بآخر، فصار سادسًا..."[6].
وقال أبو زرعة الرازي: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"، فقيل له: وما يدريك؟ قال: "ذاكرتُه، فأخذتُ عليه الأبواب"[7].
وقال أبو حاتم الرازي: كنت عند والينا
إبراهيم بن معروف، وحضر محمد بن مسلم، فقال -يعني: الوالي-: "يا أبا حاتم
ويا أبا عبدالله؛ لو تذاكرتما؛ فكنت أسمع مذاكرتكما"، فقلت: لا تتهيَّأ
المذاكرة ما لم يَجرِ شيء. فقال: "أنا أُجريه: قد حُبِّبت إليَّ الصدقة،
فما تحفظون فيه؟"، فقال محمد بن مسلم: "حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، عن
عمرو بن أبي قيس...""[8].
وقال أبو القاسم الداركي: "جمع
الصاحبُ إسماعيل بن عباد حفاظَ بلدنا بأصبهان: العسال أبا أحمد، وأبا
القاسم الطبراني، وأبا إسحاق ابن حمزة، وغيرهم، وحضرت، وكان قد قَدِم عليه
ابنُ الجعابي، فأخذوا في مذاكرة الأبواب..."[9].
2- المذاكرة على مسانيد الرواة ومروياتهم:
بأن يطرحوا راويًا، أو طبقةً من الرواة، فيتذاكروا في مروياتهم بعامَّة، أو مروياتهم عن بعض شيوخهم خاصَّة.
قال حماد بن زيد: "سمعت أيوب ويحيى بن عتيق وهشامًا يتذاكرون حديث محمد -يعني: ابن سيرين-..."[10].
وقال سليمان بن حرب: "قدم يحيى بن
سعيد عندنا، فكان يحدِّثهم، وكان أصحابنا لا يكتبون، فلما كان بَعدُ
كتبوا؛ قال حماد[11]: قال لي جرير بن حازم وغيره: "إنا هممنا أن نكتب حديث
يحيى بن سعيد، فلو حَضَرْتَنا"، قال حماد: فحضرتهم، وتذاكرنا حديثه بَعدُ،
فكتبوا"[12].
وقال أبو زرعة الرازي: "وإنما كان
أحمد حدثنا عنه -يعني: أبا قتادة الحراني- في المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي عن
عكرمة، عن الهرماس..."[13].
وقال عبدالله بن وهب الدينوري: "قدم
علينا محمد بن عبدالله بن المبارك المخرمي دينور قاضيًا عليها، فمرَّ بي
يومًا على حُمَيِّر، ومعي رجلٌ من أصحاب الحديث، ونحن جلوسٌ على دكَّةٍ
نتذاكر في شيءٍ من الحديث، فلما رأى المحبرة والكتاب كأنه استأنس، فسلَّم،
وقال: "ما الذي أنتم فيه؟"، فقلنا: نتذاكر شيئًا من حديث إسماعيل بن أبي
خالد. فقال للغلام: "أمسِك عليَّ"، فنزل، وجلس إلينا، وذكر نحو ثمانمائة
حديثٍ من مقطوعٍ ومسندٍ من حديث إسماعيل بن أبي خالد، أكثرها مقاطيع"[14].
قال أبو بكر ابن زنجويه -في حكاية
مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح المصري-: وقال -أي: أحمد بن حنبل- له
-أي: لأحمد بن صالح-: "بلغني عنك أنك جمعت حديث الزهري، فتعالَ حتى نذكر
ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فجعلا
يتذاكران...، ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "تعالَ حتى نذكر ما روى
الزهري عن أولاد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فجعلا
يتذكران..."[15].
وقال أحمد بن حنبل: "جاءنا نعيم بن
حماد ونحن على باب هشيم نتذاكر المقطَّعات[16]، فقال: "جمعتم حديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؟""، قال: "فعُنينا بها منذ يومئذ"[17].
وقال أبو علي النيسابوري الحافظ:
"خرجنا يومًا من عند أبي محمد ابن صاعد، وهو -يعني: أبا بكر الجعابي-
يُسايرني، وقد توجهنا إلى طريقٍ بعيد، فقلت له: يا أبا بكر، أيش أسند
الثوري عن منصور؟ فمَرَّ في الترجمة[18]، فقلت له: أيش عند أيوب السختياني
عن الحسن؟ فمَرَّ فيها، فما زلت أجُرُّه من حديث مصر، إلى الشام، إلى
العراق، إلى أفراد الخراسانيين، وهو يجيب، فقلت له: أيش روى الأعمش، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد بالشركة[19]، فأخذ يسرد هذه الترجمة،
حتى ذكر بضعة عشر حديثًا، فحيَّرني حفظه..."[20].
وقال عمر بن جعفر البصري: دخلت الكوفة
سنةً من السنين وأنا أريد الحج، فالتقيت بأبي العباس ابن عقدة، وبِتُّ
عنده تلك الليلة، فأخذ يذاكرني بشيءٍ لا أهتدي إليه، فقلت: يا أبا العباس،
أيش عند أيوب السختياني عن الحسن؟ فذكر حديثين..."[21].
وقال أبو القاسم الداركي - في حكايةٍ
له لمذاكرة أبي أحمد العسال والطبراني وأبي إسحاق ابن حمزة وغيرهم-:
"فأخذوا في مذاكرة الأبواب، ثم ثنَّوا بذكر تراجم الشيوخ..."[22].
وقال الخطيب -في محمد بن جمعة بن خلف
القهستاني-: "وصنَّف حديثَ الأئمة؛ مالك، والثوري، وشعبة، ويحيى بن سعيد،
وغيرهم، وكان يُذاكِر بحديثهم حفاظَ عصره، فغلبهم"[23].
3- المذاكرة على الأحاديث وطرقها:
قال أبو طالب: "كنت يومًا عند بشر بن
الحارث، وعنده إبراهيم بن هاشم، ومحمد بن أبي عمران، فتذاكروا: عن ابن
عباس، أنه ختن بَنِيه، فدعا اللعَّابين، فقال بشر: "من روى هذا؟"، فقال:
"سفيان"..."[24].
وقال إسحاق بن راهويه: "كنت أجالس
بالعراق أحمدَ بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من
طريقٍ وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين -من بينهم-: "وطريق
كذا"..."[25].
وقال صالح بن محمد الأسدي (جزرة):
"قال لي أبو زرعة الرازي ببغداد: "أريد أن أجتمع مع سليمان الشاذكوني،
فأناظره"، فذهبت به إليه، فلما دخل عليه؛ قلت له: هذا أبو زرعة الرازي؛
أراد مذاكرتك. فتذاكرا حديث أستار الكعبة وما قطع منها..."[26].
وقال الحاكم: وجدت أبا علي الحافظ سيئ
الرأي في أبي القاسم اللخمي، فسألته عن السبب فيه، فقال: "اجتمعنا على باب
أبي خليفة، فذكرنا طرق: "أُمِرت أن أسجد على سبعة أعضاء"، فقلت له: تحفظ:
(عن شعبة، عن عبدالملك بن ميسرة الزراد، عن طاوس، عن ابن عباس)؟ فقال:
"بلى، غندر وابن أبي عدي"، فقلت: مَن عنهما؟، فقال: "حدثناه عبدالله بن
أحمد بن حنبل، عن أبيه، عنهما"..."[27].
وقال الحاكم -أيضًا-: "حضرت مجلس أبي
الحسين القنطري في محلّته ببغداد، وحضره أبو سعيد بن أبي بكر بن أبي
عثمان، وأبو الحسين ابن العطار، وأبو بكر القطيعي، والحسن بن علان،
وغيرهم، فلما فرغنا من القراءة ذكرنا طرق الغار[28]، فدخل الشيخ يذكر
معنا، فقال: "حدثنا أبو قلابة، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن موسى بن
عقبة..."، وما ذَكَرَ غيرَ هذا، فلما بلغنا آخر الباب؛ قال لنا الشيخ:
"عندكم عن جويرية بن أسماء، عن نافع؟"، فقلنا: لا، فقال: "حدثناه معاذ بن
المثنى، قال حدثنا ابن أخي جويرية، عن جويرية...""[29].
4- مذاكرة المسائل الحديثية:
حيث كان المحدثون يتذاكرون فيما بينهم
مسائل الرجال والسماع والعلل، وكُتُب العلم حافلةٌ بهذا، بل ما كُتُب
السؤالات الحديثية إلا مذاكرةٌ بين السائل والمسؤول في ذلك.
ومن النماذج المتقدمة في ذلك:
قال نوح بن يزيد المعلم: كنا عند
إبراهيم بن سعد يومًا، فتذاكر أصحاب الحديث السماع، فغضب إبراهيم بن سعد؛
قال: "لا تدعون تنطُّعكم يا أهل العراق! العرض مثل السماع، كان ابن شهاب
يُعرَض عليه العلم، فيجيزه"[30].
وقال أبو حاتم الرازي: "تذاكر قومٌ عند يحيى بن ضريس: حماد بن سلمة أحسن حديثًا أو الثوري؟ فقال يحيى: "حماد أحسن حديثًا""[31].
5- مذاكرة المحفوظ عن الشيوخ (بعد مجلس التحديث):
قال عطاء بن أبي رباح: "كنا نكون عند جابر بن عبدالله، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا لحديثه"[32].
وقال يونس بن عبيد: "كنا نأتي الحسن، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا بيننا"[33].
وقال حماد بن زيد: "كنا نخرج من عند أيوب وهشام الدستوائي، فيقول لنا هشام: "هاتوها قبل أن تبرد"، فنقعد، فنتذاكرها بيننا"[34].
وقال يزيد بن زريع: "كان يحيى بن سعيد
الأنصاري لا يملي، فلما قدم علينا البصرة أتيناه، فكان لا يملي علينا،
وكان يحدث، فإذا خرجنا من عنده قعدنا على باب الدار، فتذاكرنا بيننا؛ ذا
عن ذا، وذا عن ذا..."[35].
وقال سفيان بن عيينة: "حدثنا الزهري،
أخبرني سليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون،
فخالفوهم"". قال سفيان: "فلما خرجنا من عند الزهري؛ جلس أيوب السختياني،
وإسماعيل بن أمية، وإسماعيل بن مسلم، وأشعث بن سوار الهذلي، في غيره من
الفقهاء، فقالوا: تعالوا نتذاكر ما سمعنا من الزهري، فجلسوا، وجلست
معهم...، ثم تذاكروا ما سمعوه، فذكروا هذا الحديث: "إن اليهود والنصارى لا
يصبغون..."، فقال بعضهم: هو عن أبي سلمة، وقال بعضهم: هو عن سليمان بن
يسار، فلما أكثروا قلت -وأنا صغير-: هو عن كلاهما. فضجّوا من لحني، ثم قال
إسماعيل: "هو كما قال، الصغير أحفظكم، هو عن كلاهما""[36].
6- مذاكرات الإلغاز الحديثي:
ومنها ما رواه أبو بكر الأبهري، قال:
"سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول لأبي علي النيسابوري الحافظ: "يا أبا علي،
إبراهيم، عن إبراهيم، عن إبراهيم، مَن هم؟"، فقال أبو علي: "إبراهيم بن
طهمان، عن إبراهيم بن عامر البجلي، عن إبراهيم النخعي"، فقال: "أحسنت يا
أبا علي""[37].
وقال الرامهرمزي: "قال لي أبو عبدالله
ابن البري يومًا: "أبو عبدالله، عن أبي عروة، عن أبي الخطاب، عن أبي حمزة،
مَن هم؟"، قلت: لا أدري. قال: "الثوري، عن معمر، عن قتادة، وأبو حمزة لو
قال قائل؛ كان أنس بن مالك". فهذا سألني عنه أبو عبدالله بن البري مفيدًا
على وجه الاختبار"[38].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكر الحاكم -في معرفة علوم الحديث
(ص659-663)- جملةً من أمثلة بعض هذه الأنواع تحت عنوان: «جمع الأبواب التي
يجمعها أصحاب الحديث، وطلب الفائت منها، والمذاكرة بها»، ونصَّ على أنه
ذكر الأبواب التي جمعها، وذاكَرَ جماعةً من أئمة الحديث ببعضها.
[2] ضعفاء العقيلي (1/302).
[3] المحدث الفاصل (ص256)، الكامل في الضعفاء، لابن عدي (4/10).
[4] الجرح والتعديل (4/112).
[5] العلل ومعرفة الرجال، عن أحمد، برواية عبدالله (3/40).
[6] تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (4/343).
[7] تاريخ بغداد (4/420).
[8] الجرح والتعديل (1/358).
[9] سير أعلام النبلاء، للذهبي (16/87).
[10] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/465).
[11] يحكي قصة كتابتهم لحديث يحيى بن سعيد.
[12] المعرفة والتاريخ (2/829).
[13] سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي -ضمن كتاب: «أبو زرعة الرازي وجهودة في خدمة السنة النبوية»- (2/349).
[14] سؤالات السلمي للدارقطني (ص302، 303). والمقاطيع: أقوال السلف.
[15] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[16] وهي أقوال السلف، يدل عليه تتمة الكلام، حيث قوبلت بالأحاديث المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
[17] تاريخ بغداد (13/306).
[18] يعني: أنه مرَّ بأحاديث ترجمة (الثوري عن منصور)، وذكرها.
[19] أي: بالشركة بين أبي هريرة وأبي سعيد في الرواية، وقَرْنِهما معًا.
[20] تاريخ بغداد (3/27)، تاريخ دمشق (54/421، 422).
[21] معرفة علوم الحديث (ص426).
[22] سير أعلام النبلاء (16/87).
[23] تاريخ بغداد (2/169).
[24] المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة (ص107).
[25] الجرح والتعديل (1/293).
[26] تاريخ بغداد (9/46).
[27] معرفة علوم الحديث (ص427).
[28] هو حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار.
[29] معرفة علوم الحديث (ص431، 432).
[30] الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي (ص266).
[31] الجرح والتعديل (3/141).
[32] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (1/139)، العلم لأبي خيثمة (79)، سنن الدارمي (615)، المعرفة والتاريخ (2/23).
[33] سنن الدارمي (608).
[34] الجرح والتعديل (1/182).
[35] المعرفة والتاريخ (2/830).
[36] المعرفة والتاريخ (2/718).
[37] معرفة علوم الحديث (ص630، 631)،
وقد أخرجه الخطيب في الجامع (2/269) من طريق الحاكم، وتعقبه، وينظر حاشية
الموضع من معرفة علوم الحديث.
[38] المحدث الفاصل (ص265).
- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3747
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
رد: المذاكرة عند المحدثين
الإثنين 14 نوفمبر 2011, 20:34
المسألة الرابعة: أنواع المذاكرة (بالنظر إلى المُذاكَرِ مَعَه):
للمذاكرة بالنظر إلى أطرافها نوعان:
1- المذاكرة مع الشيوخ:
قال يحيى بن معين: «كان داود بن قيس
يجلس إلى محمد بن عجلان؛ يتحفَّظ عنه»، قال يحيى: «كأنه يتذكر حديثَ نفسه،
لا أنه يأخذ عنه ما لم يسمع»[1].
وروي عن علي بن الحسن بن شقيق، قال:
«كنت مع عبدالله بن المبارك في المسجد في ليلة شتوية باردة، فقمنا لنخرج،
فلما كان عند باب المسجد ذاكرني بحديث، أو ذاكرته بحديث، فما زال يذاكرني
وأذاكره حتى جاء المؤذن، فأذن لصلاة الصبح»[2].
وقال أبو داود الطيالسي: «كنا ببغداد،
وكان شعبة وابن إدريس يجتمعون بعد العصر يتذاكرون، فذكروا باب المجذوم،
فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن
زيد، قال: "كان معيقيب يَحضُر طعام عمر، فقال له عمر: يا معيقيب، كُلْ مما
يليك... الحديث"، فقال لي شعبة: "يا أبا داود، لم تجئ بشيءٍ أحسن مما جئتَ
به"». قال ابن أبي حاتم: «يدلُّ أن أبا داود كان محلُّه أن يذاكر شعبة»[3].
وجاء عن علي بن المديني، قال: «قدمت
الكوفة فعُنيت بحديث الأعمش، فجمعته، فلما قدمت البصرة لقيت عبدالرحمن
-يعني: ابن مهدي-، فسلمت عليه، فقال: "هاتِ يا علي ما عندك"...»، فذكر ما
جرى بينهما[4].
2- المذاكرة مع الأقران:
وهي أكثر النوعين وأشهرهما، وقد مرَّ في ثنايا هذه المسائل عدةُ نماذج منها.
قال أبو معاوية الضرير: «كان سفيان يأتيني هاهنا، فيذاكرني حديث الأعمش...»[5].
وقال يحيى بن آدم: «كان أبو معاوية يجلس إلى هذين؛ يتحفَّظ حديث الأعمش»، يعني: يزيد بن عبدالعزيز، وقطبة بن عبدالعزيز[6].
وروي عن علي بن المديني، قال: «ستةٌ
كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة: يحيى، وعبدالرحمن، ووكيع، وابن عيينة،
وأبو داود، وعبدالرزاق»، قال علي: «من شدة شهوتهم له».
قال علي: «تذاكر وكيع وعبدالرحمن ليلةً في مسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذن المؤذن أذان الصبح»[7].
وقال وهب بن جرير بن حازم: «كان شعبة
يجيء إلى أبي وهو على حمار، فيقول: "كيف سمعتَ الأعمش يحدث بحديث كذا
وكذا؟"، فيقول أبي: "كذا وكذا"، فيقول شعبة: "هكذا والله سمعتُ الأعمش
يحدث به"، فيسأله عن أحاديث من أحاديث الأعمش، فإذا حدثه أبي؛ يقول: "هكذا
سمعتُ الأعمش يحدث به"، ثم يضرب حماره ويذهب»[8].
وقال محمود بن آدم المروزي: «رأيت
وكيعًا وبشر بن السري يتذاكران ليلةً من العشاء إلى أن نودي بالفجر، فلما
أصبحنا قلنا لبشر: كيف رأيت وكيعًا؟ قال: "ما رأيت أحفظ منه"»[9].
وقال العباس بن محمد الدوري: «رأيت
أحمد بن حنبل في مجلس روح بن عبادة - سنة خمس ومائتين - يسأل يحيى بنَ
معين عن أشياء؛ يقول له: "يا أبا زكريا، كيف حديث كذا؟ وكيف حديث كذا؟"،
يريد أحمد أن يستثبته في أحاديث قد سمعوها، فكلما قال يحيى؛ كتبه
أحمد»[10].
المسألة الخامسة: أداء الحديث في المذاكرة:
كان من عادتهم في أداء الحديث في المذاكرة أمور:
1-التساهل في الأداء:
كانوا يتسمَّحون في الأداء حال المذاكرة ما لا يتسمَّحون حال التحديث، حتى كانوا يصفون المذاكرة بأنها «على غير وجه الحديث»[11].
قال عبدالرحمن بن مهدي -في كلامٍ له-: «...إذا ذاكرتُ تساهلتُ في الحديث»[12].
وقال الذهبي: «... إذ المذاكرة يُتَسمَّح فيها»[13].
ومن صور تساهلهم في الأداء:
أ- اختصار المتن:
بروايته بمعناه، أو بذكر طرفٍ منه يدلُّ على تمامه.
قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: إذا
سمعتك تُذاكر بالشيء عن بعض المشيخة، قد سمعتُه من غيرك؛ فأقول: "حدثنا
أبو زرعة وفلان"، وإنما ذاكرتني أنت بالمعنى والإسناد؟ فقال: «أرجو». قلت:
فإن كان حديثًا طويلاً؟ قال: «فهذا أضيق». قلت: فإن قلت: "حدثنا فلان،
وأبو زرعة نحوه"؟ فسكت[14].
وقال ابن حبان: «الحفاظ الذين
رأيناهم؛ أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون، ولقد كنا
نجالسهم برهةً من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا
كلمةً واحدة يشيرون إليها»[15].
ب- اختصار الإسناد:
بالإرسال والتعليق، ونحوها.
قال الخطيب: «ومنهم من يكتبها
مُسندةً، ويرويها مرسلةً على معنى المذاكرة والتنبيه؛ ليُطلب إسنادُها
المتصل، ويُسأل عنه، وربما أرسلوها اقتصارًا وتقريبًا على المتعلم؛ لمعرفة
أحكامها -كما يفعل الفقهاء الآن في تدريسهم-، فإذا أُريد الاستعمال؛ احتيج
إلى بيان الإسناد.
ألا ترى إلى عروة بن الزبير لما أنكر
على عمر بن عبد العزيز تأخيرَ الصلاة، وأرسل له خبر أبي مسعود الأنصاري عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة جبريل؛ استثبته عمر بن عبدالعزيز؛
لحاجته إلى استعمال الخبر، وقال: "له اعلم ما تقول يا عروة"، فأبان له
إسنادَه؛ ليقطع بذلك عذرَه، وكان ابتداء عروة عمر بالخبر على سبيل
المذاكرة والتنبيه؛ ليسأل عمرُ عنه، فلما احتيج إلى استعماله استثبته عمرُ
فيه، فأسنده له»[16].
وقال ابن عبدالبر -في ذكر ما يبعثُ
على إرسال الحديث-: «أو تكون مذاكرة، فربما ثَقُل معها الإسناد، وخَفَّ
الإرسال؛ إما لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث، واشتهاره عندهم...»[17]،
واستفاده العلائي، وزاد: «أو للإشارة إلى مخرجه الأعلى؛ لأنه المقصود
حينئذٍ دون ذكر شيخه، أو غير ذلك»[18].
وقال العلائي -أيضًا- في كلامٍ له:
«... إرسال الراوي لا ينحصر في كون شيخه ضعيفًا، بل يحتمل أنه سمعه
مرسلاً، أو آثر الاختصار، أو كان في المذاكرة...»[19].
وقال ابن حجر -فيما يَحمِل مَنْ لا
يرسل إلا عن ثقةٍ على الإرسال-: «ومنها: ألا يقصد التحديث؛ بأن يذكر
الحديث على وجه المذاكرة، أو على جهة الفتوى، فيذكر المتن؛ لأنه المقصود
في تلك الحالة دون السند، ولا سيما إن كان السامع عارفًا بمن طَوَى
ذِكرَه؛ لشهرته...»[20].
وقد حُكي عن عبدالرحمن بن مهدي، أنه
قدم عليهم عمرُ بن هارون البصرةَ وهو شاب، فذاكره عبدالرحمن، فكتب عنه
ثلاثة أحاديث...، منها: عبدالملك، عن عطاء، في الحفار ينسى الفأس في القبر
بعدما يفرغ منه...، فلما كان بعد زمان؛ قدم عليهم البصرة، فأتى رجلٌ
عبدَالرحمن، فقال: "إنك كتبتَ عن هذا شيئًا؟"، فأعطاه الرقعة، فذهب بها
إليه...، وسأله عن حديث عبدالملك، فقال: "لم أسمع من عبدالملك، إنما
حدثنيه فلان عن عبدالملك..."[21].
وقال البرذعي: قلت لأبي زرعة: إن أحمد
بن جعفر الزنجاني حدثنا عن يحيى بن معين، عن رفدة بن قضاعة؛ بحديث
الأوزاعي في الرفع. فقال: «إن هذا يَحتاج إلى أن يُحبس في السجن!». قلت:
إنه يقول: حدثنا يحيى، عن رفدة. فقال: «لم يسمع يحيى من رفدة شيئًا، ولم
يسمع من هشام بن عمار شيئًا». فكتبت إلى ابن جعفر بذلك، فقال لي: «إنما
رأيت يحيى يُذاكر به، ويقول: "رواه رفدة"، ولا أدري ممن سَمِعَه»[22].
وقال بكر بن خلف: «قدمت مكة وبها
شابٌّ حافظٌ واسعُ الحفظ، فكان يذاكرني في المسند بطرقه، فقلت له: من أين
لك هذا؟ قال: أخبرك، طلبت إلى عليٍّ أيام سفيان أن يحدثني بالمسند، فقال:
"قد عرفت أنك إنما تريد بما تطلب المذاكرة، فإن ضمنتَ لي أنك تذاكر ولا
تسميني؛ فعلتُ". فضمنت له، واختلفت إليه، فجعل يحدثني بهذا الذي أذاكرك به
حفظًا»[23]، فمذاكرته بالأحاديث مع عدم تسمية شيخه اختصارٌ للإسناد.
وقال الحافظ الحسن بن محمد بن صالح
السبيعي[24]: «قرأ علينا عبدالله بن محمد بن ناجية مسند فاطمة بنت قيس سنة
ثلاثمائة، فدخلت على أبي بكر الباغندي عند منصرفي من مجلس ابن ناجية،
فسألني: "من أين جئت؟"، قلت: من مجلس ابن ناجية. قال: "وأيش قرأ عليكم
اليوم؟"، قلت: أحاديث الشعبي عن فاطمة بن قيس. فقال: "مرَّ لكم: عن
إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن الشعبي؟"، فنظرت في الجزء، فلم أجد، فقال:
"اكتُب: ذَكَر أبو بكر ابن أبي شيبة"، فقلت: عمَّن؟ فمنعته من التدليس،
وطالبته بالسماع، فقال: "حدثني محمد بن عبيدة الحافظ، قال: حدثني محمد بن
المعلى الأثرم، قال: حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة..."»[25].
وقال عبدالغني بن سعيد الأزدي -في علي
بن زريق الأدمي-: «امتنع من الحديث مدةً طويلة، وإنما حدَّث لطائفةٍ
معدودة، وكنت أُكثِر مجالستَه، ولم أدوِّن عنه حديثًا كما أريد، وإنما كان
يذكر حكايةً أو طرفًا من إسنادِ حديث؛ فأحفظه على المذاكرة»[26].
ج- الرواية عمَّن لا يرضون الرواية عنه في التحديث:
قال سفيان الثوري: «إذا جاءت المذاكرة؛ جئنا بكُلٍّ، وإذا جاء التحصيل؛ جئنا بمنصور بن المعتمر»[27].
وقال المروذي: قلت -يعني لأحمد بن
حنبل-: يحيى القطان، أيش كان يقول في شريك؟ قال: «كان لا يرضاه، وما ذكر
عنه إلا شيئًا على المذاكرة؛ حديثين»[28].
وقال أبو زرعة الرازي: «ذكرت لأبي
جعفر النفيلي أن أحمد حدثنا عن أبي قتادة[29]، فاغتمّ، وقال: "قد كتبتُ
إليه ألاّ يحدث عنه"». قال أبو زرعة: «وإنما كان أحمد حدثنا عنه في
المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي عن عكرمة، عن الهرماس، وكان عبدالله بن عمران
الأصبهاني حاضرًا، فذكر حديثَ يحيى بن ضريس، فكتب أحمد عنه، قال أحمد:
"وحدثنا عبدالله بن واقد، عن عكرمة، فذكر حديث الهرماس، فعلقته حفظًا»[30].
وقال أحمد -في عبدالعزيز بن أبان-: «لم أخرج عنه في المسند شيئًا، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث»[31].
وقال عبدالله بن أحمد: «سمعت أبي ذكر
حديثًا عن عبدالرحمن بن مالك بن مغول عن أبي حصين في المذاكرة؛ على غير
وجه الحديث...، وكان سيئ الرأي فيه جدًّا»[32].
وقال أبو حاتم الرازي -في عمرو بن شعيب-: «ليس بقوي، يُكتب حديثه، وما روى عنه الثقات فيُذاكر به»[33].
وقال -في يوسف بن مهران-: «لا أعلم روى عنه غير علي بن زيد بن جدعان، يُكتب حديثه ويُذاكر به»[34].
وكل هذا فيمن لم يبلغ بِه الضعفُ درجةَ التَّركِ حتى في المذاكرة.
قال ابن أبي مريم: «وقال لي غيرُ يحيى
بن معين: اجتمع الناس على طرح هؤلاء النفر، ليس يُذاكر بحديثهم، ولا
يُعتدُّ بهم»، ذكر منهم: داود بن الزبرقان، ومحمد بن زياد الطحان، ومحمد
بن الحسن، وإسحاق بن نجيح الملطي، وحماد بن عمرو النصيبي[35].
وقال البرذعي لأبي زرعة: داود بن الزبرقان؟ قال: «متروك الحديث». قال: ترى أن يُذاكر عنه أو يُكتب حديثه؟ قال: «لا»[36].
د- ذكر الأحاديث المنكرة:
قال أبو زرعة الرازي: «... ذاكرهم
سفيان -يعني: الثوري-، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة؛
مرسلاً، ولعل الثوري إنما ذكره تعجبًا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث؛
مستنكرًا على الكلبي»[37].
وذاكر أحمدُ بنُ حنبل أحمدَ بنَ صالح
بحديث عبدالرحمن بن إسحاق، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن
عبدالرحمن بن عوف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرني أن لي حمر
النعم وأن لي حلف المطيبين»[38]، والحديث عنده منكر، قال المروذي: «قلت
لأبي عبدالله: فعبدالرحمن بن إسحاق، كيف هو؟ قال: "أما ما كتبنا من حديثه،
فقد حدث عن الزهري بأحاديث"، كأنه أراد: تفرد بها، ثم ذكر حديث محمد بن
جبير في الحلف؛ حلف المطيبين، فأنكره أبو عبدالله. وقال: "ما رواه
غيره"»[39].
وقال أبو الحسين ابن المنادي -في
كلامٍ له على حديثٍ منكر-: «وقد رواه عن يحيى بن أبي بكير: يحيى بنُ معين،
إلا أنه لم يروِه على أنه صحيح، وإنما رواه على المذاكرة...»[40].
هـ- ذكر ما لم يتوثقوا منه:
رُوي عن معن بن عبدالرحمن بن عبدالله
بن مسعود، عن عبدالرحمن، قال: «حدَّث عكرمة بحديث، فقال: "سمعت ابن عباس
يقول: كذا وكذا"، فقلت: يا غلام، هاتِ الدواة والقرطاس. فقال: "أعجبك؟!"،
قلت: نعم. قال: "تريد أن تكتبه؟". قلت: نعم. قال: "إنما قلته برأيي"»[41]،
قال ابن حجر -في هذه القصة-: «... فيها دلالةٌ على تحرِّيه -يعني: عكرمة-؛
فإنه حدَّثَه في المذاكرة بشيء، فلما رآه يريد أن يكتبه عنه؛ شَكَّ فيه،
فأخبره أنه إنما قاله برأيه...»[42].
وقال ابن نمير: «كان وكيع إذا كان في
كتابه حديثٌ يُنكره؛ أمسك عنه، لم يحدِّث به، فإذا جاء إليه بنو أبي شيبة
والحفاظ؛ ذاكرهم بشيءٍ منه، فإن ذكروه، وقالوا: "حُدِّثنا به عن
فلان"[43]؛ ذَكَرَه، وإن شَكُّوا فيه؛ أمسك عنه»[44].
وقال أبو موسى محمد بن المثنى: «سألت
عبدالرحمن -يعني: ابن مهدي- عن حديث، وعنده قوم، فَسَاقَه، فذهبت أكتبه،
فقال: "أيَّ شيءٍ تصنع؟"، فقلت: أكتبه. فقال: "دَعه؛ فإن في نفسي منه
شيئًا"، فقلت: قد جئتَ به. فقال: "لو كنتَ وَحدك لحدَّثتك به، فكيف أصنع
بهؤلاء؟"».
قال الخطيب -معقِّبًا-: «كان أبو موسى
من الملازمين لعبدالرحمن، فقوله: "لو كنت وحدك لحدثتك به"؛ أراد: أنه متى
بَانَ له أن الحديث على غير ما حدثه به؛ أمكنه استدراكه لإصلاح غلطه، ولا
يمكنه ذلك مع الغرباء الذين حضروا عنده، والله أعلم»[45].
و- التحديث مع أسبقية الامتناع عنه:
أخرج البخاري من طريق ابن جريج، قال:
وقال عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-...، فذكر أثرًا في تفسير قوله
تعالى: ﴿ولا تذرنَّ ودًّا ولا سواعًا * ولا يغوث ويعوق ونسرًا﴾.
وذكر ابن حجر خلافًا في تعيين عطاء في
هذا الأثر؛ بين الخراساني وابن أبي رباح، وأن ابن جريج طلب التفسيرَ من
عطاء بن أبي رباح، فقال: «أعفني من هذا»، فيكون عطاء هو الخراساني، ورواية
ابن جريج عن الخراساني ضعيفة.
ثم أجاب عن ذلك ابن حجر بقوله: «لكن
الذي قَوِيَ عندي: أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني،
وعن عطاء بن أبي رباح؛ جميعًا، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من
التحديث بالتفسير ألاّ يحدِّث بهذا الحديث في بابٍ آخر من الأبواب، أو في
المذاكرة...»[46].
يتلوه -إن شاء الله- تتمَّة عادات المحدثين في المذاكرة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تاريخه، برواية الدوري (3/195). وداود من الرواة
عن ابن عجلان، فلعل يحيى أراد: أنه كان يجلس إلى ابن عجلان، فيذاكره بما
كان أخذه عنه من الحديث؛ ليتحفَّظه ويثبِّته، لا أنه كان يأخذ عنه أحاديث
جديدةً لم يسمعها منه قبلُ، والله أعلم.
[2] الجامع (2/276).
[3] الجرح والتعديل (4/112).
[4] المحدث الفاصل (ص251).
[5] الجرح والتعديل (1/64)، وانظر: الجعديات (1881)، شرح علل الترمذي، لابن رجب (2/715).
[6] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/473). والاثنان من الرواة عن الأعمش.
[7] الجامع (2/274).
[8] الجعديات (795)، الكفاية (ص216).
[9] الجرح والتعديل (1/221).
[10] الكفاية (ص217)، تاريخ بغداد (14/180).
[11] فسَّر هذا بالمذاكرة عبدُالله بن أحمد بن حنبل،
وقد جاء عن أحمد -في رواية عبدالله- أنه كتب «عن يحيى بن سعيد عن شريك على
غير وجه الحديث»، وجاء -في رواية المروذي- أن يحيى «ما ذكر عنه إلا شيئًا
على المذاكرة»، وسيأتي سياق هذا فيما يلي، وهو دالٌّ على ذلك التفسير.
[12] الجامع (2/37).
[13] الموقظة (ص64).
[14] سؤالات البرذعي (2/769).
[15] المجروحين (1/93).
[16] الكفاية (ص396).
[17] التمهيد (1/17).
[18] جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص88).
[19] جامع التحصيل (ص95، 96).
[20] النكت على ابن الصلاح (2/555).
[21] العلل ومعرفة الرجال، عن أحمد بن حنبل، برواية المروذي (ص54-56).
[22] سؤالات البرذعي (2/578، 579).
[23] المعرفة والتاريخ (2/136)، تاريخ بغداد (11/462).
[24] ترجمته في تاريخ بغداد (7/272)، وسير أعلام النبلاء (16/296)، وغيرها.
[25] معرفة علوم الحديث (ص428، 429).
[26] المؤتلف والمختلف (1/369).
[27] تهذيب الكمال (28/553).
[28] العلل ومعرفة الرجال، بروايته (ص124)، وانظر: رواية عبدالله (3/298).
[29] هو عبدالله بن واقد الحراني.
[30] سؤالات البرذعي (2/348، 349).
[31] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (3/298)، وفيه: «عن غير وجه الحديث»، والصواب كما أثبت.
[32] العلل ومعرفة الرجال (3/454).
[33] الجرح والتعديل (6/238).
[34] الجرح والتعديل (9/229).
[35] الكامل (3/95، 6/129، 175)، تاريخ بغداد (8/154).
[36] سؤالات البرذعي (2/429).
[37] علل الحديث، لابن أبي حاتم (2/25).
[38] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[39] العلل ومعرفة الرجال (ص64).
[40] تاريخ بغداد (1/36).
[41] تاريخ دمشق (41/107).
[42] هدي الساري (ص428).
[43] أي: أن الحفاظ يخبرون وكيعًا بأنه متابَعٌ على حديثه.
[44] الجامع (2/45).
[45] الجامع (2/36، 37).
[46] فتح الباري (8/667، 668).
للمذاكرة بالنظر إلى أطرافها نوعان:
1- المذاكرة مع الشيوخ:
قال يحيى بن معين: «كان داود بن قيس
يجلس إلى محمد بن عجلان؛ يتحفَّظ عنه»، قال يحيى: «كأنه يتذكر حديثَ نفسه،
لا أنه يأخذ عنه ما لم يسمع»[1].
وروي عن علي بن الحسن بن شقيق، قال:
«كنت مع عبدالله بن المبارك في المسجد في ليلة شتوية باردة، فقمنا لنخرج،
فلما كان عند باب المسجد ذاكرني بحديث، أو ذاكرته بحديث، فما زال يذاكرني
وأذاكره حتى جاء المؤذن، فأذن لصلاة الصبح»[2].
وقال أبو داود الطيالسي: «كنا ببغداد،
وكان شعبة وابن إدريس يجتمعون بعد العصر يتذاكرون، فذكروا باب المجذوم،
فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن
زيد، قال: "كان معيقيب يَحضُر طعام عمر، فقال له عمر: يا معيقيب، كُلْ مما
يليك... الحديث"، فقال لي شعبة: "يا أبا داود، لم تجئ بشيءٍ أحسن مما جئتَ
به"». قال ابن أبي حاتم: «يدلُّ أن أبا داود كان محلُّه أن يذاكر شعبة»[3].
وجاء عن علي بن المديني، قال: «قدمت
الكوفة فعُنيت بحديث الأعمش، فجمعته، فلما قدمت البصرة لقيت عبدالرحمن
-يعني: ابن مهدي-، فسلمت عليه، فقال: "هاتِ يا علي ما عندك"...»، فذكر ما
جرى بينهما[4].
2- المذاكرة مع الأقران:
وهي أكثر النوعين وأشهرهما، وقد مرَّ في ثنايا هذه المسائل عدةُ نماذج منها.
قال أبو معاوية الضرير: «كان سفيان يأتيني هاهنا، فيذاكرني حديث الأعمش...»[5].
وقال يحيى بن آدم: «كان أبو معاوية يجلس إلى هذين؛ يتحفَّظ حديث الأعمش»، يعني: يزيد بن عبدالعزيز، وقطبة بن عبدالعزيز[6].
وروي عن علي بن المديني، قال: «ستةٌ
كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة: يحيى، وعبدالرحمن، ووكيع، وابن عيينة،
وأبو داود، وعبدالرزاق»، قال علي: «من شدة شهوتهم له».
قال علي: «تذاكر وكيع وعبدالرحمن ليلةً في مسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذن المؤذن أذان الصبح»[7].
وقال وهب بن جرير بن حازم: «كان شعبة
يجيء إلى أبي وهو على حمار، فيقول: "كيف سمعتَ الأعمش يحدث بحديث كذا
وكذا؟"، فيقول أبي: "كذا وكذا"، فيقول شعبة: "هكذا والله سمعتُ الأعمش
يحدث به"، فيسأله عن أحاديث من أحاديث الأعمش، فإذا حدثه أبي؛ يقول: "هكذا
سمعتُ الأعمش يحدث به"، ثم يضرب حماره ويذهب»[8].
وقال محمود بن آدم المروزي: «رأيت
وكيعًا وبشر بن السري يتذاكران ليلةً من العشاء إلى أن نودي بالفجر، فلما
أصبحنا قلنا لبشر: كيف رأيت وكيعًا؟ قال: "ما رأيت أحفظ منه"»[9].
وقال العباس بن محمد الدوري: «رأيت
أحمد بن حنبل في مجلس روح بن عبادة - سنة خمس ومائتين - يسأل يحيى بنَ
معين عن أشياء؛ يقول له: "يا أبا زكريا، كيف حديث كذا؟ وكيف حديث كذا؟"،
يريد أحمد أن يستثبته في أحاديث قد سمعوها، فكلما قال يحيى؛ كتبه
أحمد»[10].
المسألة الخامسة: أداء الحديث في المذاكرة:
كان من عادتهم في أداء الحديث في المذاكرة أمور:
1-التساهل في الأداء:
كانوا يتسمَّحون في الأداء حال المذاكرة ما لا يتسمَّحون حال التحديث، حتى كانوا يصفون المذاكرة بأنها «على غير وجه الحديث»[11].
قال عبدالرحمن بن مهدي -في كلامٍ له-: «...إذا ذاكرتُ تساهلتُ في الحديث»[12].
وقال الذهبي: «... إذ المذاكرة يُتَسمَّح فيها»[13].
ومن صور تساهلهم في الأداء:
أ- اختصار المتن:
بروايته بمعناه، أو بذكر طرفٍ منه يدلُّ على تمامه.
قال البرذعي: قلت لأبي زرعة: إذا
سمعتك تُذاكر بالشيء عن بعض المشيخة، قد سمعتُه من غيرك؛ فأقول: "حدثنا
أبو زرعة وفلان"، وإنما ذاكرتني أنت بالمعنى والإسناد؟ فقال: «أرجو». قلت:
فإن كان حديثًا طويلاً؟ قال: «فهذا أضيق». قلت: فإن قلت: "حدثنا فلان،
وأبو زرعة نحوه"؟ فسكت[14].
وقال ابن حبان: «الحفاظ الذين
رأيناهم؛ أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون، ولقد كنا
نجالسهم برهةً من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا
كلمةً واحدة يشيرون إليها»[15].
ب- اختصار الإسناد:
بالإرسال والتعليق، ونحوها.
قال الخطيب: «ومنهم من يكتبها
مُسندةً، ويرويها مرسلةً على معنى المذاكرة والتنبيه؛ ليُطلب إسنادُها
المتصل، ويُسأل عنه، وربما أرسلوها اقتصارًا وتقريبًا على المتعلم؛ لمعرفة
أحكامها -كما يفعل الفقهاء الآن في تدريسهم-، فإذا أُريد الاستعمال؛ احتيج
إلى بيان الإسناد.
ألا ترى إلى عروة بن الزبير لما أنكر
على عمر بن عبد العزيز تأخيرَ الصلاة، وأرسل له خبر أبي مسعود الأنصاري عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة جبريل؛ استثبته عمر بن عبدالعزيز؛
لحاجته إلى استعمال الخبر، وقال: "له اعلم ما تقول يا عروة"، فأبان له
إسنادَه؛ ليقطع بذلك عذرَه، وكان ابتداء عروة عمر بالخبر على سبيل
المذاكرة والتنبيه؛ ليسأل عمرُ عنه، فلما احتيج إلى استعماله استثبته عمرُ
فيه، فأسنده له»[16].
وقال ابن عبدالبر -في ذكر ما يبعثُ
على إرسال الحديث-: «أو تكون مذاكرة، فربما ثَقُل معها الإسناد، وخَفَّ
الإرسال؛ إما لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث، واشتهاره عندهم...»[17]،
واستفاده العلائي، وزاد: «أو للإشارة إلى مخرجه الأعلى؛ لأنه المقصود
حينئذٍ دون ذكر شيخه، أو غير ذلك»[18].
وقال العلائي -أيضًا- في كلامٍ له:
«... إرسال الراوي لا ينحصر في كون شيخه ضعيفًا، بل يحتمل أنه سمعه
مرسلاً، أو آثر الاختصار، أو كان في المذاكرة...»[19].
وقال ابن حجر -فيما يَحمِل مَنْ لا
يرسل إلا عن ثقةٍ على الإرسال-: «ومنها: ألا يقصد التحديث؛ بأن يذكر
الحديث على وجه المذاكرة، أو على جهة الفتوى، فيذكر المتن؛ لأنه المقصود
في تلك الحالة دون السند، ولا سيما إن كان السامع عارفًا بمن طَوَى
ذِكرَه؛ لشهرته...»[20].
وقد حُكي عن عبدالرحمن بن مهدي، أنه
قدم عليهم عمرُ بن هارون البصرةَ وهو شاب، فذاكره عبدالرحمن، فكتب عنه
ثلاثة أحاديث...، منها: عبدالملك، عن عطاء، في الحفار ينسى الفأس في القبر
بعدما يفرغ منه...، فلما كان بعد زمان؛ قدم عليهم البصرة، فأتى رجلٌ
عبدَالرحمن، فقال: "إنك كتبتَ عن هذا شيئًا؟"، فأعطاه الرقعة، فذهب بها
إليه...، وسأله عن حديث عبدالملك، فقال: "لم أسمع من عبدالملك، إنما
حدثنيه فلان عن عبدالملك..."[21].
وقال البرذعي: قلت لأبي زرعة: إن أحمد
بن جعفر الزنجاني حدثنا عن يحيى بن معين، عن رفدة بن قضاعة؛ بحديث
الأوزاعي في الرفع. فقال: «إن هذا يَحتاج إلى أن يُحبس في السجن!». قلت:
إنه يقول: حدثنا يحيى، عن رفدة. فقال: «لم يسمع يحيى من رفدة شيئًا، ولم
يسمع من هشام بن عمار شيئًا». فكتبت إلى ابن جعفر بذلك، فقال لي: «إنما
رأيت يحيى يُذاكر به، ويقول: "رواه رفدة"، ولا أدري ممن سَمِعَه»[22].
وقال بكر بن خلف: «قدمت مكة وبها
شابٌّ حافظٌ واسعُ الحفظ، فكان يذاكرني في المسند بطرقه، فقلت له: من أين
لك هذا؟ قال: أخبرك، طلبت إلى عليٍّ أيام سفيان أن يحدثني بالمسند، فقال:
"قد عرفت أنك إنما تريد بما تطلب المذاكرة، فإن ضمنتَ لي أنك تذاكر ولا
تسميني؛ فعلتُ". فضمنت له، واختلفت إليه، فجعل يحدثني بهذا الذي أذاكرك به
حفظًا»[23]، فمذاكرته بالأحاديث مع عدم تسمية شيخه اختصارٌ للإسناد.
وقال الحافظ الحسن بن محمد بن صالح
السبيعي[24]: «قرأ علينا عبدالله بن محمد بن ناجية مسند فاطمة بنت قيس سنة
ثلاثمائة، فدخلت على أبي بكر الباغندي عند منصرفي من مجلس ابن ناجية،
فسألني: "من أين جئت؟"، قلت: من مجلس ابن ناجية. قال: "وأيش قرأ عليكم
اليوم؟"، قلت: أحاديث الشعبي عن فاطمة بن قيس. فقال: "مرَّ لكم: عن
إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن الشعبي؟"، فنظرت في الجزء، فلم أجد، فقال:
"اكتُب: ذَكَر أبو بكر ابن أبي شيبة"، فقلت: عمَّن؟ فمنعته من التدليس،
وطالبته بالسماع، فقال: "حدثني محمد بن عبيدة الحافظ، قال: حدثني محمد بن
المعلى الأثرم، قال: حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة..."»[25].
وقال عبدالغني بن سعيد الأزدي -في علي
بن زريق الأدمي-: «امتنع من الحديث مدةً طويلة، وإنما حدَّث لطائفةٍ
معدودة، وكنت أُكثِر مجالستَه، ولم أدوِّن عنه حديثًا كما أريد، وإنما كان
يذكر حكايةً أو طرفًا من إسنادِ حديث؛ فأحفظه على المذاكرة»[26].
ج- الرواية عمَّن لا يرضون الرواية عنه في التحديث:
قال سفيان الثوري: «إذا جاءت المذاكرة؛ جئنا بكُلٍّ، وإذا جاء التحصيل؛ جئنا بمنصور بن المعتمر»[27].
وقال المروذي: قلت -يعني لأحمد بن
حنبل-: يحيى القطان، أيش كان يقول في شريك؟ قال: «كان لا يرضاه، وما ذكر
عنه إلا شيئًا على المذاكرة؛ حديثين»[28].
وقال أبو زرعة الرازي: «ذكرت لأبي
جعفر النفيلي أن أحمد حدثنا عن أبي قتادة[29]، فاغتمّ، وقال: "قد كتبتُ
إليه ألاّ يحدث عنه"». قال أبو زرعة: «وإنما كان أحمد حدثنا عنه في
المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي عن عكرمة، عن الهرماس، وكان عبدالله بن عمران
الأصبهاني حاضرًا، فذكر حديثَ يحيى بن ضريس، فكتب أحمد عنه، قال أحمد:
"وحدثنا عبدالله بن واقد، عن عكرمة، فذكر حديث الهرماس، فعلقته حفظًا»[30].
وقال أحمد -في عبدالعزيز بن أبان-: «لم أخرج عنه في المسند شيئًا، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث»[31].
وقال عبدالله بن أحمد: «سمعت أبي ذكر
حديثًا عن عبدالرحمن بن مالك بن مغول عن أبي حصين في المذاكرة؛ على غير
وجه الحديث...، وكان سيئ الرأي فيه جدًّا»[32].
وقال أبو حاتم الرازي -في عمرو بن شعيب-: «ليس بقوي، يُكتب حديثه، وما روى عنه الثقات فيُذاكر به»[33].
وقال -في يوسف بن مهران-: «لا أعلم روى عنه غير علي بن زيد بن جدعان، يُكتب حديثه ويُذاكر به»[34].
وكل هذا فيمن لم يبلغ بِه الضعفُ درجةَ التَّركِ حتى في المذاكرة.
قال ابن أبي مريم: «وقال لي غيرُ يحيى
بن معين: اجتمع الناس على طرح هؤلاء النفر، ليس يُذاكر بحديثهم، ولا
يُعتدُّ بهم»، ذكر منهم: داود بن الزبرقان، ومحمد بن زياد الطحان، ومحمد
بن الحسن، وإسحاق بن نجيح الملطي، وحماد بن عمرو النصيبي[35].
وقال البرذعي لأبي زرعة: داود بن الزبرقان؟ قال: «متروك الحديث». قال: ترى أن يُذاكر عنه أو يُكتب حديثه؟ قال: «لا»[36].
د- ذكر الأحاديث المنكرة:
قال أبو زرعة الرازي: «... ذاكرهم
سفيان -يعني: الثوري-، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة؛
مرسلاً، ولعل الثوري إنما ذكره تعجبًا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث؛
مستنكرًا على الكلبي»[37].
وذاكر أحمدُ بنُ حنبل أحمدَ بنَ صالح
بحديث عبدالرحمن بن إسحاق، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن
عبدالرحمن بن عوف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرني أن لي حمر
النعم وأن لي حلف المطيبين»[38]، والحديث عنده منكر، قال المروذي: «قلت
لأبي عبدالله: فعبدالرحمن بن إسحاق، كيف هو؟ قال: "أما ما كتبنا من حديثه،
فقد حدث عن الزهري بأحاديث"، كأنه أراد: تفرد بها، ثم ذكر حديث محمد بن
جبير في الحلف؛ حلف المطيبين، فأنكره أبو عبدالله. وقال: "ما رواه
غيره"»[39].
وقال أبو الحسين ابن المنادي -في
كلامٍ له على حديثٍ منكر-: «وقد رواه عن يحيى بن أبي بكير: يحيى بنُ معين،
إلا أنه لم يروِه على أنه صحيح، وإنما رواه على المذاكرة...»[40].
هـ- ذكر ما لم يتوثقوا منه:
رُوي عن معن بن عبدالرحمن بن عبدالله
بن مسعود، عن عبدالرحمن، قال: «حدَّث عكرمة بحديث، فقال: "سمعت ابن عباس
يقول: كذا وكذا"، فقلت: يا غلام، هاتِ الدواة والقرطاس. فقال: "أعجبك؟!"،
قلت: نعم. قال: "تريد أن تكتبه؟". قلت: نعم. قال: "إنما قلته برأيي"»[41]،
قال ابن حجر -في هذه القصة-: «... فيها دلالةٌ على تحرِّيه -يعني: عكرمة-؛
فإنه حدَّثَه في المذاكرة بشيء، فلما رآه يريد أن يكتبه عنه؛ شَكَّ فيه،
فأخبره أنه إنما قاله برأيه...»[42].
وقال ابن نمير: «كان وكيع إذا كان في
كتابه حديثٌ يُنكره؛ أمسك عنه، لم يحدِّث به، فإذا جاء إليه بنو أبي شيبة
والحفاظ؛ ذاكرهم بشيءٍ منه، فإن ذكروه، وقالوا: "حُدِّثنا به عن
فلان"[43]؛ ذَكَرَه، وإن شَكُّوا فيه؛ أمسك عنه»[44].
وقال أبو موسى محمد بن المثنى: «سألت
عبدالرحمن -يعني: ابن مهدي- عن حديث، وعنده قوم، فَسَاقَه، فذهبت أكتبه،
فقال: "أيَّ شيءٍ تصنع؟"، فقلت: أكتبه. فقال: "دَعه؛ فإن في نفسي منه
شيئًا"، فقلت: قد جئتَ به. فقال: "لو كنتَ وَحدك لحدَّثتك به، فكيف أصنع
بهؤلاء؟"».
قال الخطيب -معقِّبًا-: «كان أبو موسى
من الملازمين لعبدالرحمن، فقوله: "لو كنت وحدك لحدثتك به"؛ أراد: أنه متى
بَانَ له أن الحديث على غير ما حدثه به؛ أمكنه استدراكه لإصلاح غلطه، ولا
يمكنه ذلك مع الغرباء الذين حضروا عنده، والله أعلم»[45].
و- التحديث مع أسبقية الامتناع عنه:
أخرج البخاري من طريق ابن جريج، قال:
وقال عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-...، فذكر أثرًا في تفسير قوله
تعالى: ﴿ولا تذرنَّ ودًّا ولا سواعًا * ولا يغوث ويعوق ونسرًا﴾.
وذكر ابن حجر خلافًا في تعيين عطاء في
هذا الأثر؛ بين الخراساني وابن أبي رباح، وأن ابن جريج طلب التفسيرَ من
عطاء بن أبي رباح، فقال: «أعفني من هذا»، فيكون عطاء هو الخراساني، ورواية
ابن جريج عن الخراساني ضعيفة.
ثم أجاب عن ذلك ابن حجر بقوله: «لكن
الذي قَوِيَ عندي: أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني،
وعن عطاء بن أبي رباح؛ جميعًا، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من
التحديث بالتفسير ألاّ يحدِّث بهذا الحديث في بابٍ آخر من الأبواب، أو في
المذاكرة...»[46].
يتلوه -إن شاء الله- تتمَّة عادات المحدثين في المذاكرة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تاريخه، برواية الدوري (3/195). وداود من الرواة
عن ابن عجلان، فلعل يحيى أراد: أنه كان يجلس إلى ابن عجلان، فيذاكره بما
كان أخذه عنه من الحديث؛ ليتحفَّظه ويثبِّته، لا أنه كان يأخذ عنه أحاديث
جديدةً لم يسمعها منه قبلُ، والله أعلم.
[2] الجامع (2/276).
[3] الجرح والتعديل (4/112).
[4] المحدث الفاصل (ص251).
[5] الجرح والتعديل (1/64)، وانظر: الجعديات (1881)، شرح علل الترمذي، لابن رجب (2/715).
[6] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/473). والاثنان من الرواة عن الأعمش.
[7] الجامع (2/274).
[8] الجعديات (795)، الكفاية (ص216).
[9] الجرح والتعديل (1/221).
[10] الكفاية (ص217)، تاريخ بغداد (14/180).
[11] فسَّر هذا بالمذاكرة عبدُالله بن أحمد بن حنبل،
وقد جاء عن أحمد -في رواية عبدالله- أنه كتب «عن يحيى بن سعيد عن شريك على
غير وجه الحديث»، وجاء -في رواية المروذي- أن يحيى «ما ذكر عنه إلا شيئًا
على المذاكرة»، وسيأتي سياق هذا فيما يلي، وهو دالٌّ على ذلك التفسير.
[12] الجامع (2/37).
[13] الموقظة (ص64).
[14] سؤالات البرذعي (2/769).
[15] المجروحين (1/93).
[16] الكفاية (ص396).
[17] التمهيد (1/17).
[18] جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص88).
[19] جامع التحصيل (ص95، 96).
[20] النكت على ابن الصلاح (2/555).
[21] العلل ومعرفة الرجال، عن أحمد بن حنبل، برواية المروذي (ص54-56).
[22] سؤالات البرذعي (2/578، 579).
[23] المعرفة والتاريخ (2/136)، تاريخ بغداد (11/462).
[24] ترجمته في تاريخ بغداد (7/272)، وسير أعلام النبلاء (16/296)، وغيرها.
[25] معرفة علوم الحديث (ص428، 429).
[26] المؤتلف والمختلف (1/369).
[27] تهذيب الكمال (28/553).
[28] العلل ومعرفة الرجال، بروايته (ص124)، وانظر: رواية عبدالله (3/298).
[29] هو عبدالله بن واقد الحراني.
[30] سؤالات البرذعي (2/348، 349).
[31] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (3/298)، وفيه: «عن غير وجه الحديث»، والصواب كما أثبت.
[32] العلل ومعرفة الرجال (3/454).
[33] الجرح والتعديل (6/238).
[34] الجرح والتعديل (9/229).
[35] الكامل (3/95، 6/129، 175)، تاريخ بغداد (8/154).
[36] سؤالات البرذعي (2/429).
[37] علل الحديث، لابن أبي حاتم (2/25).
[38] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[39] العلل ومعرفة الرجال (ص64).
[40] تاريخ بغداد (1/36).
[41] تاريخ دمشق (41/107).
[42] هدي الساري (ص428).
[43] أي: أن الحفاظ يخبرون وكيعًا بأنه متابَعٌ على حديثه.
[44] الجامع (2/45).
[45] الجامع (2/36، 37).
[46] فتح الباري (8/667، 668).
- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3747
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
رد: المذاكرة عند المحدثين
الإثنين 14 نوفمبر 2011, 20:35
مواصلةً للحديث عن عادات المحدِّثين في المذاكرة:
2- ومن عادتهم في المذاكرة: الحرص على الإغراب:
فكانوا يَحرِصُون على أن يأتي أحدُهم بما لم يسمعه مُذاكِروه، وأن يُغرب عليهم بما يحفظه مما ليس عندهم.
وكان أحدهم إذا أَغرَبَ؛ استُحسِنَ ما فعل، وفَرِح هو بذلك؛ لأن الإغراب على الحفاظ إشارةٌ إلى سعة حفظ المُغرِب، وقوة استحضاره.
قال الشيخ المعلمي: «وكان من عادة
المحدِّثين التباهي بالإغراب؛ يَحرِص كلٌّ منهم على أن يكون عنده من
الروايات ما ليس عند الآخرين؛ لتظهر مزيَّته عليهم، وكانوا يتعنَّون
شديدًا لتحصيل الغرائب، ويَحرِصُون على التفرد بها...، وكانوا إذا اجتمعوا
تذاكروا، فيَحرِص كل واحدٍ منهم على أن يَذكُر شيئًا يُغرِبُ به على
أصحابه؛ بأن يكون عنده دونهم، فإذا ظفر بذلك؛ افتخر به عليهم، واشتدَّ
سروره وإعجابه وانكسارهم...
وكانت طريقتهم في المذاكرة: أن يشير
أحدهم إلى الخبر الذي يرجو أنه ليس عند صاحبه، ثم يطالبه بما يدلُّ على
أنه قد عرفه، كان يقول الأول: "مالك، عن نافع، قال:..."[1]، فإن عرفه
الآخر؛ قال: "حدثناه فلان، عن فلان، عن مالك"»[2].
وقد سبق قول أبي داود الطيالسي -في
حكاية مذاكرة ابن إدريس وشعبة-: «فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي
الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، قال: "كان معيقيب يَحضُر طعام عمر،
فقال له عمر: يا معيقيب، كُلْ مما يليك... الحديث"، فقال لي شعبة: "يا أبا
داود، لم تجئ بشيءٍ أحسن مما جئتَ به"».
وقال أبو مسعود أحمد بن الفرات: «كنا
نتذاكر الأبواب، فخاضوا في باب، فجاؤوا فيه بخمسة أحاديث، فجئتهم آنا
بآخر، فصار سادسًا، فنخس أحمد بن حنبل في صدري -يعني: لإعجابه به-»[3].
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح، قال ابن زنجويه: «فجعلا يتذاكران، ولا يُغرِبُ أحدُهما على الآخر»[4].
وقال يحيى بن معين لأبي خيثمة:
«تحفظ هذا الحديث: عن سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن شريح، قال: "إذا
استدانت المرأة على زوجها فلا شيء عليها إذا كان بإذنه"؟» فقال له أبو
خيثمة: مَن هذا[5]؟ فقال: «بشر بن السري»[6].
وقال البخاري: «ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاس بحديث، فقلت: لا أعرفه. فسُرُّوا بذلك...»[7].
وقال أبو حاتم الرازي: «كان عبدالرحمن
بن عبدالملك بن شيبة يختلف إلى عبدالعزيز الأويسي وهو شاب؛ يكتب عنه، فرآه
أبو زرعة هناك، فذاكر أبا زرعة بأحاديث غرائب لم تكن عنده...»[8].
وقال أبو حاتم -أيضًا-: «كان محمد بن
يزيد الأسفاطي يحفظ التفسير، فقال لنا يومًا: "ما تحفظون في قول الله -عز
وجل-: ﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾؟"، فبقي أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى
بعض...»[9].
وقال أحمد بن عمير بن جوصا: «كنا
ببغداد، فرأيت أصحاب الحديث يتذاكرون بحديث أيوب السختياني وأشباهه،
فأطلعت لهم رأسي، فقلت لهم: أيش أسند جنادة عن عبادة؟ فسكتوا، ثم قلت لهم:
أيش أسند عمرو بن عمرو بن عبدة الأحموسي؟ فلم يجيبوا بشيء»[10].
وقال الوزير ابن العميد: «ما كنت أظن
أن في الدنيا حلاوةً أَلَذّ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها؛ حتى
شاهدتُ مذاكرةَ سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، فكان
الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته
وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتها، ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه، فقال
الجعابي: "عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي!"، فقال: "هاته"، فقال:
"حدثنا أبو خليفة، نا سليمان بن أيوب..."، وحدث بالحديث، فقال الطبراني:
"أنا سليمان بن أيوب، ومني سمع أبو خليفة، فاسمع مني حتى يَعلُوَ إسنادُك؛
فإنك تروي عن أبي خليفة عني!". فخجل الجعابي، وغلبه الطبراني»، قال ابن
العميد: «فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي، وكنت
الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث»[11].
وكانوا ربما ضاقوا إذا أُغرِبَت عليهم الأحاديث.
قال شعبة: «ذاكرت قيس بن الربيع حديثَ أبي حصين، فلوددتُ أن البيت وقع عليَّ وعليه حتى نموت؛ من كثرة ما كان يُغرب عليَّ!»[12].
وروي عنه، قال: «إني لأُذاكر بالحديث يفوتني؛ فأمرض»[13].
وقال مظفر بن مدرك: ذكروا لشعبة حديثًا لم يسمعه، فجعل يقول: «واحزناه»[14].
وقال أحمد بن سلمة: «عُقِد لأبي
الحسين مسلم بن الحجاج مجلسٌ للمذاكرة، فذُكر له حديثٌ لم يعرفه، فانصرف
إلى منزله، وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: "لا يدخلن أحدٌ منكم هذا
البيت"، فقيل له: أُهديت لنا سلةٌ فيها تمر. فقال: "قدِّموها إليَّ"،
فقدَّموها إليه، فكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة، يمضغها، فأصبح وقد
فَنِيَ التمر، ووجد الحديث». قال الحاكم: «زادني الثقة من أصحابنا أنه
منها مات»[15].
وإذا لم يقدر أحدهم أن يُغرب على المحدث، فهو بيانٌ جليٌّ لسعة حفظه، وقوة استحضاره لحديثه.
قال أبو حاتم الرازي: «قلتُ على باب
أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع
به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدق به. وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق؛
أبو زرعة فمن دونه...، فما تهيَّأ لأحدٍ منهم أن يُغرب عليَّ حديثًا»[16].
وربما أغرب المحدث على مُذاكِريه، فإذا سألوه عن الذي ذكر له الحديث؛ عمَّاه عليهم، إمعانًا في الإغراب.
قال يحيى بن معين لأبي خيثمة: «تحفظ
هذا من حديث سفيان: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "ليس آزر أبا
ابراهيم، إنما هو صنم"؟»، فقال رجل لأبي زكريا: مَن ذَكَره عن سفيان؟
فقال: «قد ذكروه»[17].
وقال ابن معين لأبي خيثمة -أيضًا-:
«كتبتَ هذا عن ابن علية: عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال ابن
مسعود: "البطشة الكبرى يوم بدر"، قال ابن عباس: "وأنا أقول: البطشة الكبرى
يوم القيامة"؟» فقال له أبو خيثمة: لا أحفظه. فقيل ليحيى بن معين: مَن
حدثكم به؟ قال: «الذي حدثناه»[18].
وشهوة الإغراب هذه ربما فَضَحَت الكذابين، فبيَّنت أنهم يَفتَعِلون الأسانيد، ويضعونها وقتَ المذاكرة؛ سعيًا للإغراب على الشيوخ.
قال الحاكم -في وصف النوع الثالث
والثلاثين من علوم الحديث-: «مذاكرة الحديث والتمييز بها، والمعرفة عند
المذاكرة بين الصدوق وغيره، فإن المجازف في المذاكرة يجازف في التحديث،
ولقد كتبتُ على جماعةٍ من أصحابنا في المذاكرة أحاديث لم يَخرُجوا من
عهدتها قط، وهي مُثبَتَةٌ عندي، وكذلك أخبرني أبو علي الحافظ وغيره من
مشايخنا، أنهم حفظوا على قومٍ في المذاكرة ما احتجُّوا بذلك على
جَرحهم»[19].
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا
نجتمع للمذاكرة وفينا الشاذكوني، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي
عَلِقته، فإن كان صاحبه الذي سمع منه حَيّ؛ سمعت منه، وإلا ضربت عليه،
فتذاكرنا يومًا، فقال الشاذكوني: "حدثنا معاذ بن معاذ..."، فعَلِقته،
فذهبت إلى معاذ لأسأله، فقال: "ما لهذا أصل"!»[20].
وقال الحافظ صالح بن محمد الأسدي
(جزرة): «قال لي أبو زرعة الرازي ببغداد: "أريد أن أجتمع مع سليمان
الشاذكوني، فأناظره"، فذهبت به إليه، فلما دخل عليه؛ قلت له: هذا أبو زرعة
الرازي؛ أراد مذاكرتك. فتذاكرا حديث أستار الكعبة وما قطع منها، فكان
الشاذكوني يضع الأسانيد في الوقت، ويذاكره بها، فتحيَّر أبو زرعة، وسكت،
فلما قمنا من عنده قال لي أبو زرعة: "اغتممتُ -والله- مما فعل هذا
الشيخ!"، فقلت له: هذه الأحاديث وَضَعَها الساعةَ، ولو ذاكرته بشيءٍ آخر
لوضع مثلها»[21].
3- الأداء من الحفظ، إلا حال الكتابة عن المحدث في المذاكرة:
فالأداء من الحفظ هو الأصل في المذاكرة؛ حيث إنها من وسائل ضبط المحفوظ وتثبيته، وهذا لا يتأتى إلا بالتحديث حفظًا.
ولذا؛ فقد كانوا يمتدحون الشيخَ بقوَّة حفظه عند المذاكرة، وبجودة مذاكرته وحُسنها، وبعجز أقرانه عن مذاكرته.
روي عن محمد بن بشار (بندار)، قال:
«ما بَكَيتُ على أحدٍ من المحدثين ما بَكَيتُ على أبي داود الطيالسي...؛
لِمَا كان من حفظه ومعرفته وحُسن مذاكرته»[22].
وقال عبدالرحمن بن مهدي: «لما قدم
سفيان البصرة قال لي: "يا عبدالرحمن، جئني بإنسان أذاكره"، فأتيته بيحيى
بن سعيد، فذاكره، فلما خرج قال لي: "يا عبدالرحمن، قلت لك: جئني بإنسان؛
فجئتني بشيطان!"»[23]، قال الذهبي: «يعني: بَهَرَه حفظُه»[24].
وقال صالح بن محمد الأسدي (جزرة):
«أعلم مَن أدركتُ بالحديث وعلله: علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ:
يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة: أبو بكر ابن أبي شيبة»[25].
وفي مذاكرة الشاذكوني وأبي زرعة الرازي -التي مرَّ طرفٌ منها-: «فما زال يذاكره، حتى عجز الشاذكوني عن حفظه»[26].
وقال أحمد بن خالد بن الحروري: «دخل
أبو زرعة بغداد متوجهًا إلى الحج، واجتمع إليه الحفاظ يذاكرونه، وهو يجيب
ويغلبهم في المذاكرة، حتى عجزوا عن مذاكرته...»[27].
وقال الحاكم: «سألت أبا علي الحافظ عن
عبدالله بن محمد بن وهب الدينوري، فقال: "كان صاحب حديثٍ حافظًا"، ثم قال
أبو علي: "بلغني أن أبا زرعة كان يعجز عن مذاكرته في زمانه"»[28].
وقال أحمد بن الخضر الشافعي: «قدم
علينا أبو علي عبدالله بن محمد بن علي الحافظ البلخي حاجًّا، فعجز أهل
بلدنا عن مذاكرته؛ لحفظه...»[29].
وفي حكاية مذاكرة أبي القاسم الطبراني
وأبي بكر الجعابي -وقد مرَّت-، قال الوزير ابن العميد: «فكان الطبراني
يغلب أبا بكر بكثرة حفظه».
كما كانوا يتكلمون في حديث بعض الرواة في المذاكرة؛ لدخول الوهم عليهم من جهة حفظهم.
وقال ابن حبان: «كان داود بن الزبرقان
شيخًا صالحًا، يحفظ الحديث، ويذاكر به، ولكنه كان يَهِم في المذاكرة،
ويغلط في الرواية إذا حدث من حفظه، ويأتي عن الثقات بما ليس من
أحاديثهم...»[30].
ولذا؛ فإن سُوقَ أصحاب حفظ الكُتُب دون حفظ الصَّدر لا يَنفَقُ في المذاكرة.
قال الحميدي -في عبدالعزيز بن محمد
الدراوردي-: «وقد كان يُذاكِر بالحديث مما ليس عنده، فيتهاونون به[31]،
ويقولون: "هذا مما لم يكن في كتبه"، ويُذاكِر بالشيء المرفوع، فيقولون:
"هذا في أصل كتابه منقطع"»[32]، ومعروفٌ أن الدراوردي سيئ الحفظ، صحيح
الكتاب[33].
وقال يحيى بن سعيد القطان -في
عبدالواحد بن زياد-: «كنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة، فأذاكره
حديث الأعمش، لا يعرف منه حرفًا»[34]، قال ابن حجر: «وهذا غير قادح؛ لأنه
كان صاحب كتاب»[35].
وقال عبدالرحمن بن مهدي قال: «ذاكرني
أبو عوانة بحديث، فقلت: ليس هذا من حديثك، فقال: "لا تفعل يا أبا سعيد، هو
عندي مكتوب!"، قلت: فهاته. قال: "يا سلامة، هاتي الدَّرج[36]، ففتَّش، فلم
يجد شيئًا...»[37]، وأبو عوانة كان صاحب كتاب، وإذا حدث من حفظه أخطأ[38].
وقال أبو حاتم الرازي -في سياق إنكار
حديثٍ رواه سعدان، عن يونس، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب وأبي سلمة، عن
أبي هريرة، مرفوعًا-: «سعدان أرى أنه سمع من يونس بمكة أو المدينة، ويونس
لم يكن معه كتبه؛ قال وكيع: "رأيت يونسَ بن يزيد بمكة، فجهدت أن يقيم لي
إسناد حديث؛ فلم يُقِمه"، فنرى أن سعدان سمع منه بمكة...»[39].
فإذا أراد أحد المُذاكِرين كتابةَ
الحديث عنه، فإن المتحري من المحدثين لا يحدثه إلا من كتابه -كما سيأتي في
المسألة التالية (التحمُّل في المذاكرة)-.
وربما جرت المذاكرة من أصلها من الكتب، ولعله قليلٌ.
قال أبو زرعة الرازي: «لما قدمت من
مصر؛ مررت به -يعني: سويد بن سعيد-، فأقمت عنده، فقلت: إن عندي أحاديث
لابن وهب عن ضمام؛ ليست عندك. فقال: "ذاكِرني بها"، فأخرجت الكتب، وأقبلت
أذاكره...»[40].
3- ومن عادتهم في المذاكرة: التنبيه على أخطاء الرواة فيها:
مرَّ قول عبدالرحمن بن مهدي: «ذاكرني أبو عوانة بحديث، فقلت: ليس هذا من حديثك...».
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: «دخلت
مسجد الخيف، فإذا وكيع وعبدالرحمن بن مهدي يتذاكران، فقلت: حدثنا سفيان،
عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾؛ قال:
"مَنْ رضخ". فأنكره عبدالرحمن...»[41].
وقال الميموني: ذاكروا أبا عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل- بحديثٍ وأنا حاضر، فقال: «مَن روى ذا؟! ذا كذب»[42].
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد
بن صالح، قال ابن زنجويه: «إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "عند
الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرُّني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف
المطيبين»". فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: "أنت الأستاذ وتذكر مثل
هذا!"»[43].
وقال أبو زرعة الرازي: «ذاكرني
القاسم بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، عن أبي مالك، الأشجعي، عن أبيه، عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة»، فقلت
له: ليس هذا من حديث يزيد بن هارون، إنما هذا حديث خلف بن خليفة...»[44].
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: «حضر
عند أبي زرعة محمدُ بن مسلم، والفضل بن العباس (المعروف بالصائغ)، فجرى
بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا، فأنكر فضل الصائغ، فقال: "با أبا
عبدالله، ليس هكذا هو"، فقال: "كيف هو؟"، فذكر روايةً أخرى، فقال محمد بن
مسلم: "بل الصحيح ما قلتُ، والخطأ ما قلتَ"...»[45].
وفي حكاية مذاكرة أبي حاتم ومحمد بن
مسلم عند الوالي -وسبق طرفٌ منها-، قال أبو حاتم: «فقال -يعني: محمد بن
مسلم-: "حدثنا أبو نعيم، نا سفيان، عن عبدالله بن عيسى، عن سالم بن أبي
الجعد، عن ثوبان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الرجل ليحرم
الرزق بالذنب يصيبه، وإن الرجل...»"، وذكر الحديث. فقلت: ليس إسناده كما
ذكرتَ. قال: "لمَ؟"، قلت: ليس هو سالم بن أبي الجعد. فقال: "هو عبيد بن
أبي الجعد"، قلت: ولا هو عبيد. فقال: "من هو؟"، وجعل يكرر: "سالم بن أبي
الجعد، عبيد بن أبي الجعد، عبيد بن أبي الجعد"، فكرر: "مَنْ؟ مَنْ؟"، فقال
الأمير: "لا تخبره"، فسكت ساعة، فجعل يجهد أن يقع عليه، فلم يقع عليه،
فقال الأمير: "أخبره الآن"، قلت: عبدالله بن أبي الجعد، عن ثوبان. قال:
"صدقت، هو عبدالله بن أبي الجعد"»[46].
وقال ابن خزيمة: «لما دخلت بخارى، ففي
أول مجلسٍ حضرتُ مجلس الأمير إسماعيل بن أحمد، في جماعةٍ من أهل العلم،
فذُكِرَت بحضرته أحاديث، فقال الأمير: "حدثنا أبي، قال: حدثنا يزيد بن
هارون، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي
أمة مرحومة...» الحديث". فقلت: أيَّد الله الأمير، ما حَدَّث بهذا الحديث
أنس، ولا حميد، ولا يزيد بن هارون. فسكت، وقال: "وكيف؟"، قلت: هذا حديث
أبي موسى الأشعري، ومداره عليه. فلما قمنا من المجلس قال لي أبو علي صالح
بن محمد البغدادي: "يا أبا بكر، جزاك الله خيرًا؛ فإنه قد ذكر لنا هذا
الإسنادَ غير مرة، ولم يجسر واحدٌ منا أن يردَّه عليه"»[47].
وقال الحاكم: «كان أبو علي النيسابوري لا يُسامح في المذاكرة، بل يواجه بالرد في الملأ»[48].
4- التحاكم إلى الكتب والحفاظ حال الاختلاف:
قال ابن المديني: «كنت إذا قدمت إلى
بغداد منذ أربعين سنة؛ كان الذي يذاكرني: أحمد بن حنبل، فربما اختلفنا في
الشيء، فنسأل أبا زكريا يحيى بن معين، فيقوم فيخرجه، ما كان أعرفه بموضع
حديثه!»[49].
قال حماد بن زيد: «سمعت أيوب ويحيى بن
عتيق وهشامًا يتذاكرون حديثَ محمد، فذكروا حديثًا، فقال أيوب: "هو كذا"،
وخالفه هشام ويحيى، ثم لم يقوما حتى رجعا إلى حفظ أيوب...»[50].
قال عفان: «حدثنا يومًا همام، فقلت
له: إن يزيد بن زريع حدثنا عن سعيد، عن قتادة، ذكر خلاف ذلك الحديث، فذهب
فنظر في الكتاب، ثم جاء، فقال: "يا عفان، ألا تراني أخطئ وأنا لا
أعلم؟"»[51].
وفي مذاكرة محمد بن مسلم وفضل الصائغ
حيث اختلفا -وسبق طرفٌ منها-، قال ابن أبي حاتم: «قال فضل: "فأبو زرعة
الحاكم بيننا"، فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: "أيش تقول؟ أينا المخطئ؟"،
فسكت أبو زرعة ولم يجب، فقال محمد بن مسلم: "ما لك سكتَّ؟ تكلَّم"، فجعل
أبو زرعة يتغافل، فألحَّ عليه محمد بن مسلم، وقال: "لا أعرف لسكوتك معنى،
إن كنت أنا المخطئ فأَخبِر، وإن كان هو المخطئ فأَخبِر". فقال: "هاتوا أبا
القاسم ابنَ أخي"، فدُعِيَ به، فقال: "اذهب وادخل بيت الكتب، فدع القمطر
الأول، والقمطر الثاني، والقمطر الثالث، وعدَّ ستة عشر جزءًا، وائتني
بالجزء السابع عشر"، فذهب، فجاء بالدفتر، فدفعه إليه، فأخذ أبو زرعة،
فتصفَّح الأوراق، وأخرج الحديث، ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن
مسلم، فقال: "نعم، غلطنا، فكان ماذا؟"»[52].
وقال عمرو بن علي الفلاس: «حدثنا
أزهر، قال: حدثنا ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبدالله، قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني». فحدثت به يحيى بنَ
سعيد، فقال: "ليس في حديث ابن عون: «عن عبدالله»"، فقلت له: بلى، فيه.
قال: "لا"، فقلت: إن أزهر حدثنا عن ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن
عبدالله. قال: "رأيت أزهر جاء بكتابه؛ وليس فيه: «عن عبدالله»"». قال عمرو
بن علي: «فاختلفت إلى أزهر قريبًا من شهرين للنظر فيه، فنظر في كتابه، ثم
خرج، فقال: "لم أجده إلا عن عبيدة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"»[53].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] معرفة علوم الحديث (ص203).
[2] التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/522، 523).
[3] تاريخ بغداد (4/343).
[4] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[5] يعني: مَنْ هذا الذي ذكر الحديث ورواه لك؟
[6] معرفة الرجال، عن يحيى بن معين وغيره، برواية ابن
محرز (2/27)، وفي الكتاب عدة مذاكرات بين ابن معين وأبي خيثمة؛ يَعمَدان
فيها إلى الإغراب على بعضهما، انظر: (2/22، 23، 24، 27-29، 58، 64).
[7] تاريخ بغداد (2/18).
[8] الجرح والتعديل (5/259).
[9] الجرح والتعديل (1/357).
[10] تاريخ دمشق (5/114)، يريد أنهم كانوا يتذاكرون في أحاديث العراقيين، فأغرب عليهم بأحاديث الشاميين، فلم يعرفوا منها شيئًا.
[11] الجامع (2/274، 275).
[12] الكامل (6/41)، تاريخ بغداد (12/457).
[13] شرف أصحاب الحديث، للخطيب (ص115).
[14] المعرفة والتاريخ (2/284).
[15] تاريخ بغداد (13/103).
[16] الجرح والتعديل (1/355).
[17] معرفة الرجال، برواية ابن محرز (2/24).
[18] معرفة الرجال، برواية ابن محرز (2/28). وابن
علية من شيوخ يحيى، فيُنظر؛ هل حدَّثه أحدٌ عنه؟ أم أراد إعادة السائل إلى
أصل كلامه الذي ذكر فيه ابنَ علية؟
[19] معرفة علوم الحديث (ص423)، وذكر الحاكم نماذج من ذلك.
[20] طبقات المحدثين بأصبهان، لأبي الشيخ الأصبهاني (2/124).
[21] تاريخ بغداد (9/46، 47)، وانظر لفظًا آخر في تاريخ دمشق، لابن عساكر (38/26).
[22] تاريخ بغداد (9/27).
[23] المجروحين (1/53).
[24] سير أعلام النبلاء (9/177).
[25] تاريخ بغداد (10/70).
[26] تاريخ دمشق (38/26).
[27] تاريخ دمشق (38/27).
[28] تاريخ دمشق (32/374).
[29] معرفة علوم الحديث (ص427).
[30] المجروحين (1/292).
[31] أصل التهاون بالشيء: استحقاره، والمراد: أنهم لا يرونه شيئًا صحيحًا يُنظر إليه، بل هو غلط.
[32] المعرفة والتاريخ (1/428).
[33] انظر: الجرح والتعديل (5/395، 396).
[34] ضعفاء العقيلي (3/55)، الكامل (5/300).
[35] هدي الساري (ص422).
[36] الذي يُكتب فيه -كما في لسان العرب (2/269)-.
[37] المجروحين (1/54)، الجامع (2/39).
[38] انظر: الجرح والتعديل (9/40، 41).
[39] علل ابن أبي حاتم (1/317)، وقَولَةُ وكيعٍ في الجرح والتعديل (1/224، 9/248)، ولم أجد فيها: «بمكة».
[40] سؤالات البرذعي (2/407، 408).
[41] سؤالات البرذعي (2/744، 745).
[42] ضعفاء العقيلي (4/352).
[43] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[44] سؤالات البرذعي (2/371، 372).
[45] الجرح والتعديل (1/337).
[46] الجرح والتعديل (1/358).
[47] معرفة علوم الحديث (ص432).
[48] سير أعلام النبلاء (14/170).
[49] تاريخ بغداد (14/182).
[50] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/465)، المعرفة والتاريخ (2/232).
[51] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (1/357).
[52] الجرح والتعديل (1/373).
[53] وربما تذاكروا بالأبواب، أو بغيرها -كما سبق في المسألة الثالثة-.
2- ومن عادتهم في المذاكرة: الحرص على الإغراب:
فكانوا يَحرِصُون على أن يأتي أحدُهم بما لم يسمعه مُذاكِروه، وأن يُغرب عليهم بما يحفظه مما ليس عندهم.
وكان أحدهم إذا أَغرَبَ؛ استُحسِنَ ما فعل، وفَرِح هو بذلك؛ لأن الإغراب على الحفاظ إشارةٌ إلى سعة حفظ المُغرِب، وقوة استحضاره.
قال الشيخ المعلمي: «وكان من عادة
المحدِّثين التباهي بالإغراب؛ يَحرِص كلٌّ منهم على أن يكون عنده من
الروايات ما ليس عند الآخرين؛ لتظهر مزيَّته عليهم، وكانوا يتعنَّون
شديدًا لتحصيل الغرائب، ويَحرِصُون على التفرد بها...، وكانوا إذا اجتمعوا
تذاكروا، فيَحرِص كل واحدٍ منهم على أن يَذكُر شيئًا يُغرِبُ به على
أصحابه؛ بأن يكون عنده دونهم، فإذا ظفر بذلك؛ افتخر به عليهم، واشتدَّ
سروره وإعجابه وانكسارهم...
وكانت طريقتهم في المذاكرة: أن يشير
أحدهم إلى الخبر الذي يرجو أنه ليس عند صاحبه، ثم يطالبه بما يدلُّ على
أنه قد عرفه، كان يقول الأول: "مالك، عن نافع، قال:..."[1]، فإن عرفه
الآخر؛ قال: "حدثناه فلان، عن فلان، عن مالك"»[2].
وقد سبق قول أبي داود الطيالسي -في
حكاية مذاكرة ابن إدريس وشعبة-: «فذكر شعبة ما عنده، فقلت: حدثنا ابن أبي
الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، قال: "كان معيقيب يَحضُر طعام عمر،
فقال له عمر: يا معيقيب، كُلْ مما يليك... الحديث"، فقال لي شعبة: "يا أبا
داود، لم تجئ بشيءٍ أحسن مما جئتَ به"».
وقال أبو مسعود أحمد بن الفرات: «كنا
نتذاكر الأبواب، فخاضوا في باب، فجاؤوا فيه بخمسة أحاديث، فجئتهم آنا
بآخر، فصار سادسًا، فنخس أحمد بن حنبل في صدري -يعني: لإعجابه به-»[3].
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح، قال ابن زنجويه: «فجعلا يتذاكران، ولا يُغرِبُ أحدُهما على الآخر»[4].
وقال يحيى بن معين لأبي خيثمة:
«تحفظ هذا الحديث: عن سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن شريح، قال: "إذا
استدانت المرأة على زوجها فلا شيء عليها إذا كان بإذنه"؟» فقال له أبو
خيثمة: مَن هذا[5]؟ فقال: «بشر بن السري»[6].
وقال البخاري: «ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاس بحديث، فقلت: لا أعرفه. فسُرُّوا بذلك...»[7].
وقال أبو حاتم الرازي: «كان عبدالرحمن
بن عبدالملك بن شيبة يختلف إلى عبدالعزيز الأويسي وهو شاب؛ يكتب عنه، فرآه
أبو زرعة هناك، فذاكر أبا زرعة بأحاديث غرائب لم تكن عنده...»[8].
وقال أبو حاتم -أيضًا-: «كان محمد بن
يزيد الأسفاطي يحفظ التفسير، فقال لنا يومًا: "ما تحفظون في قول الله -عز
وجل-: ﴿فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾؟"، فبقي أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى
بعض...»[9].
وقال أحمد بن عمير بن جوصا: «كنا
ببغداد، فرأيت أصحاب الحديث يتذاكرون بحديث أيوب السختياني وأشباهه،
فأطلعت لهم رأسي، فقلت لهم: أيش أسند جنادة عن عبادة؟ فسكتوا، ثم قلت لهم:
أيش أسند عمرو بن عمرو بن عبدة الأحموسي؟ فلم يجيبوا بشيء»[10].
وقال الوزير ابن العميد: «ما كنت أظن
أن في الدنيا حلاوةً أَلَذّ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها؛ حتى
شاهدتُ مذاكرةَ سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، فكان
الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته
وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتها، ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه، فقال
الجعابي: "عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي!"، فقال: "هاته"، فقال:
"حدثنا أبو خليفة، نا سليمان بن أيوب..."، وحدث بالحديث، فقال الطبراني:
"أنا سليمان بن أيوب، ومني سمع أبو خليفة، فاسمع مني حتى يَعلُوَ إسنادُك؛
فإنك تروي عن أبي خليفة عني!". فخجل الجعابي، وغلبه الطبراني»، قال ابن
العميد: «فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي، وكنت
الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث»[11].
وكانوا ربما ضاقوا إذا أُغرِبَت عليهم الأحاديث.
قال شعبة: «ذاكرت قيس بن الربيع حديثَ أبي حصين، فلوددتُ أن البيت وقع عليَّ وعليه حتى نموت؛ من كثرة ما كان يُغرب عليَّ!»[12].
وروي عنه، قال: «إني لأُذاكر بالحديث يفوتني؛ فأمرض»[13].
وقال مظفر بن مدرك: ذكروا لشعبة حديثًا لم يسمعه، فجعل يقول: «واحزناه»[14].
وقال أحمد بن سلمة: «عُقِد لأبي
الحسين مسلم بن الحجاج مجلسٌ للمذاكرة، فذُكر له حديثٌ لم يعرفه، فانصرف
إلى منزله، وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: "لا يدخلن أحدٌ منكم هذا
البيت"، فقيل له: أُهديت لنا سلةٌ فيها تمر. فقال: "قدِّموها إليَّ"،
فقدَّموها إليه، فكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة، يمضغها، فأصبح وقد
فَنِيَ التمر، ووجد الحديث». قال الحاكم: «زادني الثقة من أصحابنا أنه
منها مات»[15].
وإذا لم يقدر أحدهم أن يُغرب على المحدث، فهو بيانٌ جليٌّ لسعة حفظه، وقوة استحضاره لحديثه.
قال أبو حاتم الرازي: «قلتُ على باب
أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع
به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدق به. وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق؛
أبو زرعة فمن دونه...، فما تهيَّأ لأحدٍ منهم أن يُغرب عليَّ حديثًا»[16].
وربما أغرب المحدث على مُذاكِريه، فإذا سألوه عن الذي ذكر له الحديث؛ عمَّاه عليهم، إمعانًا في الإغراب.
قال يحيى بن معين لأبي خيثمة: «تحفظ
هذا من حديث سفيان: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: "ليس آزر أبا
ابراهيم، إنما هو صنم"؟»، فقال رجل لأبي زكريا: مَن ذَكَره عن سفيان؟
فقال: «قد ذكروه»[17].
وقال ابن معين لأبي خيثمة -أيضًا-:
«كتبتَ هذا عن ابن علية: عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال ابن
مسعود: "البطشة الكبرى يوم بدر"، قال ابن عباس: "وأنا أقول: البطشة الكبرى
يوم القيامة"؟» فقال له أبو خيثمة: لا أحفظه. فقيل ليحيى بن معين: مَن
حدثكم به؟ قال: «الذي حدثناه»[18].
وشهوة الإغراب هذه ربما فَضَحَت الكذابين، فبيَّنت أنهم يَفتَعِلون الأسانيد، ويضعونها وقتَ المذاكرة؛ سعيًا للإغراب على الشيوخ.
قال الحاكم -في وصف النوع الثالث
والثلاثين من علوم الحديث-: «مذاكرة الحديث والتمييز بها، والمعرفة عند
المذاكرة بين الصدوق وغيره، فإن المجازف في المذاكرة يجازف في التحديث،
ولقد كتبتُ على جماعةٍ من أصحابنا في المذاكرة أحاديث لم يَخرُجوا من
عهدتها قط، وهي مُثبَتَةٌ عندي، وكذلك أخبرني أبو علي الحافظ وغيره من
مشايخنا، أنهم حفظوا على قومٍ في المذاكرة ما احتجُّوا بذلك على
جَرحهم»[19].
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا
نجتمع للمذاكرة وفينا الشاذكوني، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي
عَلِقته، فإن كان صاحبه الذي سمع منه حَيّ؛ سمعت منه، وإلا ضربت عليه،
فتذاكرنا يومًا، فقال الشاذكوني: "حدثنا معاذ بن معاذ..."، فعَلِقته،
فذهبت إلى معاذ لأسأله، فقال: "ما لهذا أصل"!»[20].
وقال الحافظ صالح بن محمد الأسدي
(جزرة): «قال لي أبو زرعة الرازي ببغداد: "أريد أن أجتمع مع سليمان
الشاذكوني، فأناظره"، فذهبت به إليه، فلما دخل عليه؛ قلت له: هذا أبو زرعة
الرازي؛ أراد مذاكرتك. فتذاكرا حديث أستار الكعبة وما قطع منها، فكان
الشاذكوني يضع الأسانيد في الوقت، ويذاكره بها، فتحيَّر أبو زرعة، وسكت،
فلما قمنا من عنده قال لي أبو زرعة: "اغتممتُ -والله- مما فعل هذا
الشيخ!"، فقلت له: هذه الأحاديث وَضَعَها الساعةَ، ولو ذاكرته بشيءٍ آخر
لوضع مثلها»[21].
3- الأداء من الحفظ، إلا حال الكتابة عن المحدث في المذاكرة:
فالأداء من الحفظ هو الأصل في المذاكرة؛ حيث إنها من وسائل ضبط المحفوظ وتثبيته، وهذا لا يتأتى إلا بالتحديث حفظًا.
ولذا؛ فقد كانوا يمتدحون الشيخَ بقوَّة حفظه عند المذاكرة، وبجودة مذاكرته وحُسنها، وبعجز أقرانه عن مذاكرته.
روي عن محمد بن بشار (بندار)، قال:
«ما بَكَيتُ على أحدٍ من المحدثين ما بَكَيتُ على أبي داود الطيالسي...؛
لِمَا كان من حفظه ومعرفته وحُسن مذاكرته»[22].
وقال عبدالرحمن بن مهدي: «لما قدم
سفيان البصرة قال لي: "يا عبدالرحمن، جئني بإنسان أذاكره"، فأتيته بيحيى
بن سعيد، فذاكره، فلما خرج قال لي: "يا عبدالرحمن، قلت لك: جئني بإنسان؛
فجئتني بشيطان!"»[23]، قال الذهبي: «يعني: بَهَرَه حفظُه»[24].
وقال صالح بن محمد الأسدي (جزرة):
«أعلم مَن أدركتُ بالحديث وعلله: علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ:
يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة: أبو بكر ابن أبي شيبة»[25].
وفي مذاكرة الشاذكوني وأبي زرعة الرازي -التي مرَّ طرفٌ منها-: «فما زال يذاكره، حتى عجز الشاذكوني عن حفظه»[26].
وقال أحمد بن خالد بن الحروري: «دخل
أبو زرعة بغداد متوجهًا إلى الحج، واجتمع إليه الحفاظ يذاكرونه، وهو يجيب
ويغلبهم في المذاكرة، حتى عجزوا عن مذاكرته...»[27].
وقال الحاكم: «سألت أبا علي الحافظ عن
عبدالله بن محمد بن وهب الدينوري، فقال: "كان صاحب حديثٍ حافظًا"، ثم قال
أبو علي: "بلغني أن أبا زرعة كان يعجز عن مذاكرته في زمانه"»[28].
وقال أحمد بن الخضر الشافعي: «قدم
علينا أبو علي عبدالله بن محمد بن علي الحافظ البلخي حاجًّا، فعجز أهل
بلدنا عن مذاكرته؛ لحفظه...»[29].
وفي حكاية مذاكرة أبي القاسم الطبراني
وأبي بكر الجعابي -وقد مرَّت-، قال الوزير ابن العميد: «فكان الطبراني
يغلب أبا بكر بكثرة حفظه».
كما كانوا يتكلمون في حديث بعض الرواة في المذاكرة؛ لدخول الوهم عليهم من جهة حفظهم.
وقال ابن حبان: «كان داود بن الزبرقان
شيخًا صالحًا، يحفظ الحديث، ويذاكر به، ولكنه كان يَهِم في المذاكرة،
ويغلط في الرواية إذا حدث من حفظه، ويأتي عن الثقات بما ليس من
أحاديثهم...»[30].
ولذا؛ فإن سُوقَ أصحاب حفظ الكُتُب دون حفظ الصَّدر لا يَنفَقُ في المذاكرة.
قال الحميدي -في عبدالعزيز بن محمد
الدراوردي-: «وقد كان يُذاكِر بالحديث مما ليس عنده، فيتهاونون به[31]،
ويقولون: "هذا مما لم يكن في كتبه"، ويُذاكِر بالشيء المرفوع، فيقولون:
"هذا في أصل كتابه منقطع"»[32]، ومعروفٌ أن الدراوردي سيئ الحفظ، صحيح
الكتاب[33].
وقال يحيى بن سعيد القطان -في
عبدالواحد بن زياد-: «كنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة، فأذاكره
حديث الأعمش، لا يعرف منه حرفًا»[34]، قال ابن حجر: «وهذا غير قادح؛ لأنه
كان صاحب كتاب»[35].
وقال عبدالرحمن بن مهدي قال: «ذاكرني
أبو عوانة بحديث، فقلت: ليس هذا من حديثك، فقال: "لا تفعل يا أبا سعيد، هو
عندي مكتوب!"، قلت: فهاته. قال: "يا سلامة، هاتي الدَّرج[36]، ففتَّش، فلم
يجد شيئًا...»[37]، وأبو عوانة كان صاحب كتاب، وإذا حدث من حفظه أخطأ[38].
وقال أبو حاتم الرازي -في سياق إنكار
حديثٍ رواه سعدان، عن يونس، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب وأبي سلمة، عن
أبي هريرة، مرفوعًا-: «سعدان أرى أنه سمع من يونس بمكة أو المدينة، ويونس
لم يكن معه كتبه؛ قال وكيع: "رأيت يونسَ بن يزيد بمكة، فجهدت أن يقيم لي
إسناد حديث؛ فلم يُقِمه"، فنرى أن سعدان سمع منه بمكة...»[39].
فإذا أراد أحد المُذاكِرين كتابةَ
الحديث عنه، فإن المتحري من المحدثين لا يحدثه إلا من كتابه -كما سيأتي في
المسألة التالية (التحمُّل في المذاكرة)-.
وربما جرت المذاكرة من أصلها من الكتب، ولعله قليلٌ.
قال أبو زرعة الرازي: «لما قدمت من
مصر؛ مررت به -يعني: سويد بن سعيد-، فأقمت عنده، فقلت: إن عندي أحاديث
لابن وهب عن ضمام؛ ليست عندك. فقال: "ذاكِرني بها"، فأخرجت الكتب، وأقبلت
أذاكره...»[40].
3- ومن عادتهم في المذاكرة: التنبيه على أخطاء الرواة فيها:
مرَّ قول عبدالرحمن بن مهدي: «ذاكرني أبو عوانة بحديث، فقلت: ليس هذا من حديثك...».
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: «دخلت
مسجد الخيف، فإذا وكيع وعبدالرحمن بن مهدي يتذاكران، فقلت: حدثنا سفيان،
عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾؛ قال:
"مَنْ رضخ". فأنكره عبدالرحمن...»[41].
وقال الميموني: ذاكروا أبا عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل- بحديثٍ وأنا حاضر، فقال: «مَن روى ذا؟! ذا كذب»[42].
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد
بن صالح، قال ابن زنجويه: «إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "عند
الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرُّني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف
المطيبين»". فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: "أنت الأستاذ وتذكر مثل
هذا!"»[43].
وقال أبو زرعة الرازي: «ذاكرني
القاسم بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، عن أبي مالك، الأشجعي، عن أبيه، عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة»، فقلت
له: ليس هذا من حديث يزيد بن هارون، إنما هذا حديث خلف بن خليفة...»[44].
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: «حضر
عند أبي زرعة محمدُ بن مسلم، والفضل بن العباس (المعروف بالصائغ)، فجرى
بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا، فأنكر فضل الصائغ، فقال: "با أبا
عبدالله، ليس هكذا هو"، فقال: "كيف هو؟"، فذكر روايةً أخرى، فقال محمد بن
مسلم: "بل الصحيح ما قلتُ، والخطأ ما قلتَ"...»[45].
وفي حكاية مذاكرة أبي حاتم ومحمد بن
مسلم عند الوالي -وسبق طرفٌ منها-، قال أبو حاتم: «فقال -يعني: محمد بن
مسلم-: "حدثنا أبو نعيم، نا سفيان، عن عبدالله بن عيسى، عن سالم بن أبي
الجعد، عن ثوبان، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الرجل ليحرم
الرزق بالذنب يصيبه، وإن الرجل...»"، وذكر الحديث. فقلت: ليس إسناده كما
ذكرتَ. قال: "لمَ؟"، قلت: ليس هو سالم بن أبي الجعد. فقال: "هو عبيد بن
أبي الجعد"، قلت: ولا هو عبيد. فقال: "من هو؟"، وجعل يكرر: "سالم بن أبي
الجعد، عبيد بن أبي الجعد، عبيد بن أبي الجعد"، فكرر: "مَنْ؟ مَنْ؟"، فقال
الأمير: "لا تخبره"، فسكت ساعة، فجعل يجهد أن يقع عليه، فلم يقع عليه،
فقال الأمير: "أخبره الآن"، قلت: عبدالله بن أبي الجعد، عن ثوبان. قال:
"صدقت، هو عبدالله بن أبي الجعد"»[46].
وقال ابن خزيمة: «لما دخلت بخارى، ففي
أول مجلسٍ حضرتُ مجلس الأمير إسماعيل بن أحمد، في جماعةٍ من أهل العلم،
فذُكِرَت بحضرته أحاديث، فقال الأمير: "حدثنا أبي، قال: حدثنا يزيد بن
هارون، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي
أمة مرحومة...» الحديث". فقلت: أيَّد الله الأمير، ما حَدَّث بهذا الحديث
أنس، ولا حميد، ولا يزيد بن هارون. فسكت، وقال: "وكيف؟"، قلت: هذا حديث
أبي موسى الأشعري، ومداره عليه. فلما قمنا من المجلس قال لي أبو علي صالح
بن محمد البغدادي: "يا أبا بكر، جزاك الله خيرًا؛ فإنه قد ذكر لنا هذا
الإسنادَ غير مرة، ولم يجسر واحدٌ منا أن يردَّه عليه"»[47].
وقال الحاكم: «كان أبو علي النيسابوري لا يُسامح في المذاكرة، بل يواجه بالرد في الملأ»[48].
4- التحاكم إلى الكتب والحفاظ حال الاختلاف:
قال ابن المديني: «كنت إذا قدمت إلى
بغداد منذ أربعين سنة؛ كان الذي يذاكرني: أحمد بن حنبل، فربما اختلفنا في
الشيء، فنسأل أبا زكريا يحيى بن معين، فيقوم فيخرجه، ما كان أعرفه بموضع
حديثه!»[49].
قال حماد بن زيد: «سمعت أيوب ويحيى بن
عتيق وهشامًا يتذاكرون حديثَ محمد، فذكروا حديثًا، فقال أيوب: "هو كذا"،
وخالفه هشام ويحيى، ثم لم يقوما حتى رجعا إلى حفظ أيوب...»[50].
قال عفان: «حدثنا يومًا همام، فقلت
له: إن يزيد بن زريع حدثنا عن سعيد، عن قتادة، ذكر خلاف ذلك الحديث، فذهب
فنظر في الكتاب، ثم جاء، فقال: "يا عفان، ألا تراني أخطئ وأنا لا
أعلم؟"»[51].
وفي مذاكرة محمد بن مسلم وفضل الصائغ
حيث اختلفا -وسبق طرفٌ منها-، قال ابن أبي حاتم: «قال فضل: "فأبو زرعة
الحاكم بيننا"، فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: "أيش تقول؟ أينا المخطئ؟"،
فسكت أبو زرعة ولم يجب، فقال محمد بن مسلم: "ما لك سكتَّ؟ تكلَّم"، فجعل
أبو زرعة يتغافل، فألحَّ عليه محمد بن مسلم، وقال: "لا أعرف لسكوتك معنى،
إن كنت أنا المخطئ فأَخبِر، وإن كان هو المخطئ فأَخبِر". فقال: "هاتوا أبا
القاسم ابنَ أخي"، فدُعِيَ به، فقال: "اذهب وادخل بيت الكتب، فدع القمطر
الأول، والقمطر الثاني، والقمطر الثالث، وعدَّ ستة عشر جزءًا، وائتني
بالجزء السابع عشر"، فذهب، فجاء بالدفتر، فدفعه إليه، فأخذ أبو زرعة،
فتصفَّح الأوراق، وأخرج الحديث، ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن
مسلم، فقال: "نعم، غلطنا، فكان ماذا؟"»[52].
وقال عمرو بن علي الفلاس: «حدثنا
أزهر، قال: حدثنا ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبدالله، قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني». فحدثت به يحيى بنَ
سعيد، فقال: "ليس في حديث ابن عون: «عن عبدالله»"، فقلت له: بلى، فيه.
قال: "لا"، فقلت: إن أزهر حدثنا عن ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن
عبدالله. قال: "رأيت أزهر جاء بكتابه؛ وليس فيه: «عن عبدالله»"». قال عمرو
بن علي: «فاختلفت إلى أزهر قريبًا من شهرين للنظر فيه، فنظر في كتابه، ثم
خرج، فقال: "لم أجده إلا عن عبيدة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"»[53].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] معرفة علوم الحديث (ص203).
[2] التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/522، 523).
[3] تاريخ بغداد (4/343).
[4] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[5] يعني: مَنْ هذا الذي ذكر الحديث ورواه لك؟
[6] معرفة الرجال، عن يحيى بن معين وغيره، برواية ابن
محرز (2/27)، وفي الكتاب عدة مذاكرات بين ابن معين وأبي خيثمة؛ يَعمَدان
فيها إلى الإغراب على بعضهما، انظر: (2/22، 23، 24، 27-29، 58، 64).
[7] تاريخ بغداد (2/18).
[8] الجرح والتعديل (5/259).
[9] الجرح والتعديل (1/357).
[10] تاريخ دمشق (5/114)، يريد أنهم كانوا يتذاكرون في أحاديث العراقيين، فأغرب عليهم بأحاديث الشاميين، فلم يعرفوا منها شيئًا.
[11] الجامع (2/274، 275).
[12] الكامل (6/41)، تاريخ بغداد (12/457).
[13] شرف أصحاب الحديث، للخطيب (ص115).
[14] المعرفة والتاريخ (2/284).
[15] تاريخ بغداد (13/103).
[16] الجرح والتعديل (1/355).
[17] معرفة الرجال، برواية ابن محرز (2/24).
[18] معرفة الرجال، برواية ابن محرز (2/28). وابن
علية من شيوخ يحيى، فيُنظر؛ هل حدَّثه أحدٌ عنه؟ أم أراد إعادة السائل إلى
أصل كلامه الذي ذكر فيه ابنَ علية؟
[19] معرفة علوم الحديث (ص423)، وذكر الحاكم نماذج من ذلك.
[20] طبقات المحدثين بأصبهان، لأبي الشيخ الأصبهاني (2/124).
[21] تاريخ بغداد (9/46، 47)، وانظر لفظًا آخر في تاريخ دمشق، لابن عساكر (38/26).
[22] تاريخ بغداد (9/27).
[23] المجروحين (1/53).
[24] سير أعلام النبلاء (9/177).
[25] تاريخ بغداد (10/70).
[26] تاريخ دمشق (38/26).
[27] تاريخ دمشق (38/27).
[28] تاريخ دمشق (32/374).
[29] معرفة علوم الحديث (ص427).
[30] المجروحين (1/292).
[31] أصل التهاون بالشيء: استحقاره، والمراد: أنهم لا يرونه شيئًا صحيحًا يُنظر إليه، بل هو غلط.
[32] المعرفة والتاريخ (1/428).
[33] انظر: الجرح والتعديل (5/395، 396).
[34] ضعفاء العقيلي (3/55)، الكامل (5/300).
[35] هدي الساري (ص422).
[36] الذي يُكتب فيه -كما في لسان العرب (2/269)-.
[37] المجروحين (1/54)، الجامع (2/39).
[38] انظر: الجرح والتعديل (9/40، 41).
[39] علل ابن أبي حاتم (1/317)، وقَولَةُ وكيعٍ في الجرح والتعديل (1/224، 9/248)، ولم أجد فيها: «بمكة».
[40] سؤالات البرذعي (2/407، 408).
[41] سؤالات البرذعي (2/744، 745).
[42] ضعفاء العقيلي (4/352).
[43] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[44] سؤالات البرذعي (2/371، 372).
[45] الجرح والتعديل (1/337).
[46] الجرح والتعديل (1/358).
[47] معرفة علوم الحديث (ص432).
[48] سير أعلام النبلاء (14/170).
[49] تاريخ بغداد (14/182).
[50] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (2/465)، المعرفة والتاريخ (2/232).
[51] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (1/357).
[52] الجرح والتعديل (1/373).
[53] وربما تذاكروا بالأبواب، أو بغيرها -كما سبق في المسألة الثالثة-.
- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3747
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
رد: المذاكرة عند المحدثين
الإثنين 14 نوفمبر 2011, 20:37
المسألة السادسة: التحمُّل عن الراوي في المذاكرة:
قد كان المحدثون - لشدة عنايتهم- يحملون عن الرواة أحاديثهم، حتى في المذاكرات بينهم.
وطريقتهم في ذلك طريقتان -كما في طرائق التحمُّل في الإملاء والسماع-:
إحداهما: الحفظ:
وهو الأصل، وقد سبق من أخبار المحدثين في صفاء أذهانهم، وسرعة حفظهم؛ ما لا يُعجَب معه مِن حفظهم ما يدور بينهم من مذاكرات.
ومن ذلك:
ما مرَّ في مذاكرة عبدالرحمن بن مهدي
وأبي عوانة، حيث فتَّش عن الحديث الذي ذاكر به، فلم يجده في كتبه، قال ابن
مهدي: «فقال -يعني: أبا عوانة-: "من أين أُتِيت يا أبا سعيد؟"، فقلت: هذا
ذوكرت به وأنت شاب، فعَلِق بقلبك، فظننتَ أنك قد سمعته»[1].
وقال يحيى بن معين: «لقيت علي بن عاصم
على الجسر، فقلت: كيف حديث مطرف عن الشعبي من زوج كريمته؟ فقال: "حدثنا
مطرف، عن الشعبي"، فقلت: لم تسمع هذا من مطرفٍ قطّ، وليس هذا من حديثك.
قال: "فأَكذب؟"، فاستحييت منه، وقلت: ذوكرت به، فوقع في قلبك، فظننت أنك
سمعته، ولم تسمعه، وليس من حديثك»[2].
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا نجتمع للمذاكرة...، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي عَلِقتُه...»[3].
وقال أبو زرعة الرازي: «قَعَدتُ إلى
أبي الوليد يومًا، فحملت عنه ثمانية عشر حديثًا -وحدثنا مذاكرةً-؛ من غير
أن كتبت منه حرفًا، وتحفَّظت عنه كله»[4].
وقال أبو زرعة -أيضًا، في أبي قتادة
عبدالله بن واقد-: «إنما كان أحمد حدثنا عنه في المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي
عن عكرمة، عن الهرماس...، قال أحمد: "وحدثنا عبدالله بن واقد، عن
عكرمة...، فذكر حديث الهرماس، فعَلِقتُه حفظًا»[5].
بل ربما حفظ الواحد منهم مذاكرةً حضرها وما كان يذاكر فيها.
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: «قال
أبي: "مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أحفظ من حديثه ما سمعته منه وما
لم أسمع"، فقلت له: كيف حفظتَ ما لم تسمع؟ فقال: "كنت أسمع أصحابنا
يتذاكرون"»[6].
ثاني الطريقتين: الكتابة:
مرَّ عن عبدالرحمن بن مهدي، أنه قدم عليهم عمر بن هارون البصرةَ، فذاكره عبدالرحمن، فكتب عنه ثلاثة أحاديث.
ومرَّ قول محمد بن المثنى: «سألت
عبدالرحمن -يعني: ابن مهدي- عن حديث، وعنده قوم، فساقه، فذهبت أكتبه،
فقال: "أيَّ شيءٍ تصنع؟"، فقلت: أكتبه...».
وقال أحمد بن حنبل: «كتبت عن يحيى بن سعيد عن شريك على غير وجه الحديث» -يعني: المذاكرة-[7].
وقال عبدالله بن أحمد: «سمعت أبي ذكر
حديثًا عن عبدالرحمن بن مالك بن مغول، عن أبي حصين في المذاكرة؛ على غير
وجه الحديث، فكتبته عنه»[8].
وروى محمد بن رافع النيسابوري، عن
يحيى بن آدم، عن أبي يعقوب إسحاق بن راهويه حديثًا، قال محمد: «فسألت أبا
يعقوب عن هذا الحديث، وأعلمته أن يحيى بن آدم حدثني به، فقال: "قد كتب عني
يحيى زُهاء ثلاثة آلاف حديث في المذاكرة"»[9].
وقال أبو إسماعيل الترمذي -وساق حديثًا-: «ذاكرت به بندارًا، ولم يكن عنده، فكَتَبَه»[10].
وكتب أبو حاتم الرازي عن بعض الرواة في المذاكرة[11].
وقال الأزدي: «كان ابن خراش شيخا عسرًا في الحديث، كتبتُ عنه في المذاكرة نحو عشرين حديثًا»[12].
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: «كَتَب عني أبو محمد ابن صاعد غيرَ حديثٍ في المذاكرة»[13].
وقال الحاكم -فيما سبق من وصف
المذاكرة في مجلس أبي الحسين القنطري-: «فلما بلغنا آخر الباب -يعني: طرق
حديث الغار-؛ قال لنا الشيخ: "عندكم عن جويرية بن أسماء، عن نافع؟"،
فقلنا: لا. فقال: حدثناه معاذ بن المثنى، قال: حدثني ابن أخي جويرية، عن
جويرية"، فكتبنا بأجمعنا الحديث...»[14].
هذا، وقد كان المحدثون ينهون عن الحمل عنهم في المذاكرة، ويُحَرِّجون على من يفعل ذلك.
روي عن أحمد بن محمد بن سليمان
التستري، قال: «حدثني أبو زرعة الرازي، حدثني إبراهيم بن موسى، نا
عبدالرحمن بن الحكم المروزي، عن نوفل بن المطهر، قال: قال لنا عبدالله بن
المبارك: "لا تحملوا عني في المذاكرة شيئًا". قال أبو زرعة: وقال إبراهيم:
"لا تحملوا عني في المذاكرة شيئًا"». قال أحمد: «وقال لي أبو زرعة: "لا
تحملوا عني في المذاكرة شيئًا"»[15].
وفي لفظٍ عن أحمد، قال أبو زرعة: «لا
تكتبوا عني بالمذاكرة؛ فإني أخاف أن تحملوا خطأً، هذا ابن المبارك كَرِه
أن يُحمَل عنه بالمذاكرة، وقال لي إبراهيم بن موسى: "لا تحملوا عني
بالمذاكرة شيئًا"»[16].
وقال عبدالرحمن بن مهدي: «حرامٌ عليكم أن تأخذوا عني في المذاكرة حديثًا؛ لأني إذا ذاكرت تساهلت في الحديث»[17].
وسبق عن ابن مهدي نهيُه محمدَ بنَ المثنى أن يكتب عنه في المذاكرة.
وقال أبو زرعة الرازي: «حرجٌ على [من كتب عني في] المذاكرة شيئًا»[18].
ويمكن تعليل نهيهم هذا، وتلمُّس مَرجعه من عباراتهم ومنهجهم في المذاكرة، وردُّه إلى أمور منها:
1- التساهل في المذاكرة:
وهذا نصُّ ابن مهدي المارُّ آنفًا؛ حين علَّل نَهيَه عن ذلك بتساهله في المذاكرة.
قال ابن الصلاح: «وكان جماعةٌ من حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء...؛ وذلك لما قد يقع فيها من المساهلة...»[19].
وقد سبق أن للتساهل في المذاكرة صورًا؛ كانوا يَحْذَرون أن تقع منهم في المذاكرة، فيُحمل عنهم الحديث خطأً، ويتحمَّلون هم تَبِعَته.
وقد مرَّ في قصة ابن مهدي مع عمر بن
هارون -وقد سبق طرفٌ منها-، أن ابن مهدي كتب عنه في المذاكرة ثلاثة
أحاديث، ثم لما روجع بها في قدمته التالية؛ بيَّن أنه تساهل في المذاكرة
بها، فتحمل تبعة ذلك، حيث أُخبر ابن مهدي بذلك، فنال منه وتكلم[20].
2- التحديث من الحفظ، وقرب الخطأ:
قال ابن الصلاح: «وكان جماعةٌ من
حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء...؛ وذلك لما قد يقع فيها
من المساهلة، مع أن الحفظ خوَّان»[21].
وقد مرَّ قول أبي زرعة الرازي: «لا تكتبوا عني بالمذاكرة؛ فإني أخاف أن تحملوا خطأً».
3- عدم إمكان تصحيح الخطأ -إذا وقع-، أو عُسر ذلك:
وقد مرَّ قول ابن مهدي لمحمد بن المثنى: «لو كنتَ وحدك لحدثتك به، فكيف أصنع بهؤلاء؟».
وقول الخطيب -معقِّبًا-: «كان أبو
موسى من الملازمين لعبدالرحمن، فقوله: "لو كنت وحدك لحدثتك به"؛ أراد: أنه
متى بَانَ له أن الحديث على غير ما حدثه به؛ أمكنه استدراكه لإصلاح غلطه،
ولا يمكنه ذلك مع الغرباء الذين حضروا عنده، والله أعلم».
ولأجل كل ذلك؛ كان المتحرُّون من المحدثين لا يرضون أن يُكتَب عنهم في المذاكرة إلا من كتبهم.
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد
بن صالح، قال ابن زنجويه: «إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "عند
الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف
المطيبين»". فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: "أنت الأستاذ وتذكر مثل
هذا!"، فجعل أحمد بن حنبل يبتسم، ويقول: "رواه عن الزهري رجلٌ مقبول أو
صالح؛ عبدالرحمن بن إسحاق"، قال: "من رواه عن عبدالرحمن بن إسحاق؟"، فقال:
"حدثناه رجلان ثقتان: إسماعيل بن علية، وبشر بن المفضل"، فقال أحمد بن
صالح لأحمد بن حنبل: "سألتك بالله إلا أمليته عليَّ!"، فقال أحمد: "من
الكتاب"، فقام، فدخل وأخرج الكتاب وأملاه عليه»[22].
وروي عن إبراهيم بن جابر المروزي،
قال: «كنا نجالس أبا عبدالله أحمد بن حنبل، فنذكر الحديث ونحفظه ونتقنه،
فإذا أردنا أن نكتبه قال: "الكتاب أحفظ"، فيَثِبُ وَثبةً، ويجيء
بالكتاب»[23].
وأما من لم يتحرَّ؛ فإنه ربما جرت له تبعاتٌ من الكتابة عن حفظه في المذاكرة، وسبق ذكر بعض نماذج ذلك.
وربما كان الراوي أحرص من شيخه، فلم يأخذ عنه في المذاكرة إلا من أصل كتابه.
حكى أبو عمرو ابن حمدان مذاكرةَ أبيه
مع عبيد العجل في حديثٍ، وفيه: قال أبوه: «فسألته، فحدثني به، قلت: الأصل!
فأخرج الأصلَ، فكتبته منه»[24].
المسألة السابعة: البحث عن العُلُوِّ بعد المذاكرة:
وهذه الفائدة الرئيسة الثانية من
المذاكرة -كما سبق في المسألة الثانية-، حيث كان من منهج بعضهم الاستفادة
من المذاكرة في تلمُّس الأحاديث الغريبة، وطلب ما لم يكن عنده من
الأسانيد، ثم سماعها من أصحابها -إن أمكن ذلك-.
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا نجتمع
للمذاكرة وفينا الشاذكوني، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي عَلِقته، فإن
كان صاحبه الذي سمع منه حَيّ؛ سمعت منه...»[25].
وقال ابن عدي: أخبرنا محمد بن أحمد بن
عثمان المديني، حدثنا حرملة، حدثنا ابن وهب، عن حاتم بن إسماعيل، عن شريك،
عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها... فذكر الحديث».
قال ابن عدي: «قال لنا ابن عثمان: "ذاكرت هذا الحديث أبا حاتم الرازي بمكة، فجاء إلى مصر، حتى سمعه من حرملة"»[26].
وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم:
«ذاكرت يحيى بن معين يومًا وهو بمصر عن أبي مودود، عن سليمان بن يسار،
قال: "مرضت، فعادني ابنُ عمر في يومٍ مرتين"، فأعجَبَ يحيى هذا الحديثُ،
وقال لي: "أَفِدنيه، عمَّن كتبتَه؟"، فَصِرت مَعَه إلى عبدالمنعم -يعني:
ابن بشير-، فسأله يحيى...»[27].
وقال أبو حاتم الرازي: «قلت على باب
أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع
به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدق به. وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق؛
أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي: أن يُلقَى عليَّ ما لم أسمع به،
فيقولون: هو عند فلان، فأذهب، فأسمع، وكان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس
عندي...»[28].
المبحث الثاني: أثر تصوُّر المذاكرة عند المحدثين في النقد الحديثي
لا بُدَّ -بعد هذا التطواف في مفهوم
المذاكرة وأساليبها- أن نعرِّج على أثر تصوُّر تلك المفاهيم والأساليب في
النقد الحديثي، وما يؤدي ذلك إليه من فهمٍ لكلام الأئمة النُّقَّاد، وسيرٍ
على منهجهم في النقد الحديثي.
ويمكن إبراز عددٍ من النقاط في هذا المبحث:
1- تقدير أئمة الحديث ونقَّاده:
تبيَّن في المبحث الأول أن مدارَ المذاكرة ومناطَها على الحفظ الواسع، والاستحضار السريع، والضبط والإتقان.
والمُطالِع في حكايات الأئمة
النُّقَّاد في مذاكراتهم ومدارساتهم فيما بينهم؛ يلمس -جليًّا- مدى حفظهم
وتمكُّنهم في علومهم، وهذا يظهر في أمور، منها:
أ- استعدادهم النفسي للمذاكرة، واقتحامهم منافساتها ومطارحاتها.
ب- مذاكرتهم مئات -بل آلاف- الأحاديث فيما بينهم حفظًا، واستمرار المذاكرة بينهم ساعاتٍ طويلة.
ج- عدم إغراب بعضهم على بعض.
د- عجز عامة المحدِّثين عن مذاكرتهم، وانفرادهم بجودة المذاكرة وحُسنها والغَلَبَة فيها.
هـ- ردُّهم على المخطئ من المذاكِرِين خطأه، وهذا يدل على استحضارهم القوي، ومعرفتهم للصواب من الخطأ.
و- حرصهم على ضبط المحفوظ عن المشايخ بالتذاكر فيه عقب حفظه.
ومن ثم؛ فإنه يتبيَّن بهذا عظيم موقع
كلامهم في النقد الحديثي، وأنهم إذا تكلَّموا في ذلك؛ فإنما يتكلمون بهذه
الخلفية العلمية الفائقة حفظًا وضبطًا وتمكُّنًا وسعةَ اطِّلاع.
ولذا؛ فإن من الواجب احترام نقدهم، وإحلاله ما يستحقُّه من محل، وعدم التسرُّع في تخطئتهم وتغليطهم.
وهذا لا يعني -بلا شك- التقليد الأعمى، وتسليم القياد، وسد باب الاجتهاد، وإنما هو الاعتراف بالعجز والقصور أمام أولئك الكبار.
2- التحرِّي في الأحاديث المرويَّة في المذاكرة:
إذا تبيَّن من حديث بعض الرواة أنه
حدَّث به مذاكرةً، فإن من الواجب التحرِّي والتدقيق في روايته، فيُتَوقَّف
في تصحيحها -ما لم تدلَّ القرائن على صحتها-، وتُضعَّف -رأسًا- إن خولف
فيها، أو دلَّت القرائن على غلطه فيها.
وقد سبق من عادات المحدِّثين في
المذاكرة ما يلزم معه هذا التحرِّي؛ مِن تساهلهم فيها، واختصارهم في
الإسناد والمتن، وروايتهم عمَّن لا يرضون، وغير ذلك.
قال الذهبي: «إذا قال: "حدثنا فلان مذاكرةً"؛ دلَّ على وهنٍ ما؛ إذ المذاكرة يُتَسمَّح فيها»[29].
ومما يدخل في ذلك: التحرِّي في صحة سماع الرواة من بعضهم إذا روى أحدهم عن شيخه مذاكرةً، أو ورد سماع راوٍ من آخر في المذاكرة.
3- إرجاع ما لم تتبيَّن عِلَّته إلى المذاكرة:
قد يتبيَّن لدى الناقد أنه قد وقع في
الحديث غلطٌ ما، وأنه لا يمكن أن يكون من صحيح حديث المحدِّث، فربما أرجع
ذلك إلى أنه حدَّث به مذاكرةً.
روى محمد بن العلاء أبو كريب، عن أبي
أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده، عن أبيه أبي موسى، عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في
سبعة أمعاء».
وهذا تفرد به أبو كريب -في حكم عددٍ من الأئمة-، وتقرَّر عندهم أنه حديثٌ خطأ.
ثم نقل الترمذي عن البخاري قوله: «وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة»[30].
فأرجع البخاري علَّةَ الحديث إلى كونه جرى من أبي أسامة مذاكرةً.
قال ابن رجب: «وما حكاه الترمذي عن
البخاري... فهو تعليلٌ للحديث...؛ والمذاكرة يحصل فيها تسامح، بخلاف حال
السماع أو الإملاء، ولذلك لم يَروِه عن بريدٍ غيرُ أبي أسامة»[31].
والظاهر أن الخلل في هذا الحديث وقع من إحدى جهتين محتملتين:
الأولى: جهة أن أبا أسامة لم يسمعه من
بريد، وإنما كان بلغه عنه، فتسامح في أدائه في المذاكرة، واختصر الإسناد؛
فذكره عن بريدٍ مباشرةً، فحمله أبو كريب عنه كذلك، وصار يتفرَّد به أبو
أسامة عن بريد.
الثانية: جهة أن أبا أسامة حدَّث به
متساهلاً في المذاكرة؛ ولم يكن مستيقنًا منه ولا متوثِّقًا ولا متثبِّتًا،
فتبيَّن أنه ليس من حديثه، وأنه إسنادٌ غلط، إلا أن أبا كريب حمله عنه
كذلك، فصار يتفرَّد به أبو أسامة عن بريد.
ومن نماذج إرجاع ما لم تتبيَّن علَّتُه إلى المذاكرة -كذلك-:
قول الحافظ ابن حجر: «حديث: أنه -صلى
الله عليه وسلم- قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح
الشيطان»: ابن أبي حاتم في كتاب العلل من حديث البختري بن عبيد، عن أبيه،
عن أبي هريرة، وزاد في أوله: «إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء»، ورواه
ابن حبان في الضعفاء في ترجمة البختري بن عبيد، وضعفه به، وقال: "لا يحل
الاحتجاج به".
ولم ينفرد به البختري؛ فقد رواه ابن
طاهر في صفة التصوف من طريق ابن أبي السري، قال: حدثنا عبيدالله بن محمد
الطائي، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وهذا إسنادٌ مجهول، ولعل ابن أبي السري حدَّث به من حفظه في المذاكرة؛ فوَهِم في اسم البختري بن عبيد، والله أعلم»[32].
4- حمل رواية المتثبِّتين من الأئمة عن الرواة الواهين على المذاكرة:
قال الشيخ المعلمي: «وفي "فتح المغيث" : "تتمة: ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وبقي بن مخلد...".
وقوله: "إلا في النادر" لا يضرُّنا،
إنما احترز بها لأن بعض أولئك المحتاطين قد يُخطئ في التوثيق، فيروي عمَّن
يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى حكاية شيءٍ عمَّن ليس بثقة، فيحكيه،
ويبين أنه ليس بثقة، والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين: أن يُبحَث
عنه؛ فإن وُجد أن الذي روى عنه قد جرحه؛ تبيَّن أن روايته عنه كانت على
وجه الحكاية، فلا تكون توثيقًا...»[33].
ومن أولى مواضع الحكاية عن هؤلاء:
موضع المذاكرة؛ حيث سبق أنهم كانوا يروون فيها عمَّن لا يرضونه من الرواة،
وأنَّ روايتهم عنهم في المذاكرة غير معتبرة في مقابلة تضعيفهم وجرحهم.
5- استبانة حال الراوي في المذاكرة:
مرَّ -في الكلام على الإغراب في
المذاكرة- أنها موضعٌ ظاهرٌ من مواضع افتضاح الكذابين والمجازفين بافتعال
الأسانيد والمتون؛ للإغراب بها.
قال د. إبراهيم اللاحم: «يستفاد من
المذاكرة في معرفة سعة حفظ الراوي، واكتشاف أخطائه، بل والتأكد من صدقه،
فإن بعض المذاكِرِين قد يدَّعي -أنفةً- أشياء لا وجود لها...، وأما الصادق
منهم؛ فلا يدَّعي سماع ما لم يسمع...»[34].
6- حمل ما لم يقل فيه المحدِّث: «حدثنا» على المذاكرة:
ومنه الكلام في معلَّقات البخاري عن شيوخه بقوله: «قال لي»، أو: «قال لنا».
وهو قولٌ لبعض العلماء.
قال ابن الصلاح -حكايةً عن "بعض
المتأخرين من أهل المغرب"-: «وقال: "متى رأيت البخاري يقول: «وقال لي،
وقال لنا»؛ فاعلم أنه إسنادٌ لم يذكره للاحتجاج به، وإنما ذكره للاستشهاد
به، وكثيرا ما يعبِّر المحدثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات
والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجُّون بها"»[35].
وقال -في موضع آخر-: «وأما قوله: "قال
لنا فلان"، أو: "ذكر لنا فلان"؛ فهو من قبيل قوله: "حدثنا فلان"؛ غيرَ أنه
لائقٌ بما سَمِعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من "حدثنا"»، ثم أحال إلى
ما سبق نقله عنه عن بعض المغاربة[36].
وناقش ابن حجر هذا القول، ونظر فيه، فقال: «قوله -أي: البخاري-: "وقال لنا محمد بن يوسف"؛ هو الفريابي.
قيل: "عبَّر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة؛ فلم يقل فيه: «حدثنا»".
وقيل: "إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض".
وقيل: "هو متصل من حيث اللفظ، منقطع من حيث المعنى".
والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك،
وهو: أنه متصل، لكنه لا يعبِّر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفًا، أو
كان فيه راوٍ ليس على شرطه...»[37].
وقال: «قوله -أي: البخاري-: "وقال لي
علي بن عبدالله"؛ أي: ابن المديني، كذا لأبي ذر والأكثر...، لكن أخرجه
المصنف في التاريخ، فقال: "حدثنا علي بن المديني"، وهذا مما يقوِّي ما
قرَّرته غيرَ مرة؛ من أنه يعبِّر بقوله: "وقال لي" في الأحاديث التي
سمعها؛ لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر، أو حيث تكون موقوفة، وأما من
زعم أنه يعبِّر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة؛ فليس عليه
دليل»[38].
آخره، والله -تعالى- أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسلَّم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المجروحين (1/54)، الجامع (2/39).
[2] سؤالات البرذعي (2/395، 396).
[3] طبقات المحدثين بأصبهان (2/124)، ومراده
بـ«عَلِقته»: حفظته، ومنه قول يحيى بن سعيد القطان -كما في مراسيل ابن أبي
حاتم (ص3)-: «هؤلاء قومٌ حفاظ؛ كانوا إذا سمعوا الشيءَ علقوه».
[4] الجرح والتعديل (1/332).
[5] سؤالات البرذعي (2/348، 349).
[6] العلل ومعرفة الرجال (2/250).
[7] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (3/298).
[8] العلل ومعرفة الرجال (3/454).
[9] تاريخ بغداد (1/245).
[10] تاريخ بغداد (2/44).
[11] الجرح والتعديل (7/115، 187، 8/110).
[12] تاريخ بغداد (1/288).
[13] تاريخ بغداد (8/71)، تاريخ دمشق (14/275).
[14] معرفة علوم الحديث (ص431، 432).
[15] الجامع (2/37).
[16] سير أعلام النبلاء (13/80).
[17] الجامع (2/37).
[18] الجامع (2/37)، وانظر طبعة محمد عجاج الخطيب (2/30).
[19] علوم الحديث (المقدمة) (ص234).
[20] العلل ومعرفة الرجال، برواية المروذي (ص54-56).
[21] علوم الحديث (ص234).
[22] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[23] الجامع (2/12)، وانظر طبعة الخطيب (1/666، 667).
[24] تاريخ بغداد (7/370).
[25] طبقات المحدثين بأصبهان (2/124).
[26] الكامل (2/459).
[27] ضعفاء العقيلي (3/112).
[28] الجرح والتعديل (1/355).
[29] الموقظة (ص64).
[30] العلل الصغير، للترمذي (ص70 ط. الزرقي).
[31] شرح علل الترمذي (2/647).
[32] التلخيص الحبير (1/99، 100).
[33] التنكيل (2/659، 660).
[34] الجرح والتعديل (ص64).
[35] علوم الحديث (ص69، 70).
[36] علوم الحديث (ص136).
[37] فتح الباري (2/188)، وهو مما كرر نحوه ابن حجر
في عدة مواضع، انظر: (335، 513، 5/394، 9/154، 433-434، 10/53، 11/128،
256-257، 13/334).
[38] الفتح (5/410).
قد كان المحدثون - لشدة عنايتهم- يحملون عن الرواة أحاديثهم، حتى في المذاكرات بينهم.
وطريقتهم في ذلك طريقتان -كما في طرائق التحمُّل في الإملاء والسماع-:
إحداهما: الحفظ:
وهو الأصل، وقد سبق من أخبار المحدثين في صفاء أذهانهم، وسرعة حفظهم؛ ما لا يُعجَب معه مِن حفظهم ما يدور بينهم من مذاكرات.
ومن ذلك:
ما مرَّ في مذاكرة عبدالرحمن بن مهدي
وأبي عوانة، حيث فتَّش عن الحديث الذي ذاكر به، فلم يجده في كتبه، قال ابن
مهدي: «فقال -يعني: أبا عوانة-: "من أين أُتِيت يا أبا سعيد؟"، فقلت: هذا
ذوكرت به وأنت شاب، فعَلِق بقلبك، فظننتَ أنك قد سمعته»[1].
وقال يحيى بن معين: «لقيت علي بن عاصم
على الجسر، فقلت: كيف حديث مطرف عن الشعبي من زوج كريمته؟ فقال: "حدثنا
مطرف، عن الشعبي"، فقلت: لم تسمع هذا من مطرفٍ قطّ، وليس هذا من حديثك.
قال: "فأَكذب؟"، فاستحييت منه، وقلت: ذوكرت به، فوقع في قلبك، فظننت أنك
سمعته، ولم تسمعه، وليس من حديثك»[2].
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا نجتمع للمذاكرة...، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي عَلِقتُه...»[3].
وقال أبو زرعة الرازي: «قَعَدتُ إلى
أبي الوليد يومًا، فحملت عنه ثمانية عشر حديثًا -وحدثنا مذاكرةً-؛ من غير
أن كتبت منه حرفًا، وتحفَّظت عنه كله»[4].
وقال أبو زرعة -أيضًا، في أبي قتادة
عبدالله بن واقد-: «إنما كان أحمد حدثنا عنه في المذاكرة؛ ذكرنا ما رُوي
عن عكرمة، عن الهرماس...، قال أحمد: "وحدثنا عبدالله بن واقد، عن
عكرمة...، فذكر حديث الهرماس، فعَلِقتُه حفظًا»[5].
بل ربما حفظ الواحد منهم مذاكرةً حضرها وما كان يذاكر فيها.
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: «قال
أبي: "مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أحفظ من حديثه ما سمعته منه وما
لم أسمع"، فقلت له: كيف حفظتَ ما لم تسمع؟ فقال: "كنت أسمع أصحابنا
يتذاكرون"»[6].
ثاني الطريقتين: الكتابة:
مرَّ عن عبدالرحمن بن مهدي، أنه قدم عليهم عمر بن هارون البصرةَ، فذاكره عبدالرحمن، فكتب عنه ثلاثة أحاديث.
ومرَّ قول محمد بن المثنى: «سألت
عبدالرحمن -يعني: ابن مهدي- عن حديث، وعنده قوم، فساقه، فذهبت أكتبه،
فقال: "أيَّ شيءٍ تصنع؟"، فقلت: أكتبه...».
وقال أحمد بن حنبل: «كتبت عن يحيى بن سعيد عن شريك على غير وجه الحديث» -يعني: المذاكرة-[7].
وقال عبدالله بن أحمد: «سمعت أبي ذكر
حديثًا عن عبدالرحمن بن مالك بن مغول، عن أبي حصين في المذاكرة؛ على غير
وجه الحديث، فكتبته عنه»[8].
وروى محمد بن رافع النيسابوري، عن
يحيى بن آدم، عن أبي يعقوب إسحاق بن راهويه حديثًا، قال محمد: «فسألت أبا
يعقوب عن هذا الحديث، وأعلمته أن يحيى بن آدم حدثني به، فقال: "قد كتب عني
يحيى زُهاء ثلاثة آلاف حديث في المذاكرة"»[9].
وقال أبو إسماعيل الترمذي -وساق حديثًا-: «ذاكرت به بندارًا، ولم يكن عنده، فكَتَبَه»[10].
وكتب أبو حاتم الرازي عن بعض الرواة في المذاكرة[11].
وقال الأزدي: «كان ابن خراش شيخا عسرًا في الحديث، كتبتُ عنه في المذاكرة نحو عشرين حديثًا»[12].
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: «كَتَب عني أبو محمد ابن صاعد غيرَ حديثٍ في المذاكرة»[13].
وقال الحاكم -فيما سبق من وصف
المذاكرة في مجلس أبي الحسين القنطري-: «فلما بلغنا آخر الباب -يعني: طرق
حديث الغار-؛ قال لنا الشيخ: "عندكم عن جويرية بن أسماء، عن نافع؟"،
فقلنا: لا. فقال: حدثناه معاذ بن المثنى، قال: حدثني ابن أخي جويرية، عن
جويرية"، فكتبنا بأجمعنا الحديث...»[14].
هذا، وقد كان المحدثون ينهون عن الحمل عنهم في المذاكرة، ويُحَرِّجون على من يفعل ذلك.
روي عن أحمد بن محمد بن سليمان
التستري، قال: «حدثني أبو زرعة الرازي، حدثني إبراهيم بن موسى، نا
عبدالرحمن بن الحكم المروزي، عن نوفل بن المطهر، قال: قال لنا عبدالله بن
المبارك: "لا تحملوا عني في المذاكرة شيئًا". قال أبو زرعة: وقال إبراهيم:
"لا تحملوا عني في المذاكرة شيئًا"». قال أحمد: «وقال لي أبو زرعة: "لا
تحملوا عني في المذاكرة شيئًا"»[15].
وفي لفظٍ عن أحمد، قال أبو زرعة: «لا
تكتبوا عني بالمذاكرة؛ فإني أخاف أن تحملوا خطأً، هذا ابن المبارك كَرِه
أن يُحمَل عنه بالمذاكرة، وقال لي إبراهيم بن موسى: "لا تحملوا عني
بالمذاكرة شيئًا"»[16].
وقال عبدالرحمن بن مهدي: «حرامٌ عليكم أن تأخذوا عني في المذاكرة حديثًا؛ لأني إذا ذاكرت تساهلت في الحديث»[17].
وسبق عن ابن مهدي نهيُه محمدَ بنَ المثنى أن يكتب عنه في المذاكرة.
وقال أبو زرعة الرازي: «حرجٌ على [من كتب عني في] المذاكرة شيئًا»[18].
ويمكن تعليل نهيهم هذا، وتلمُّس مَرجعه من عباراتهم ومنهجهم في المذاكرة، وردُّه إلى أمور منها:
1- التساهل في المذاكرة:
وهذا نصُّ ابن مهدي المارُّ آنفًا؛ حين علَّل نَهيَه عن ذلك بتساهله في المذاكرة.
قال ابن الصلاح: «وكان جماعةٌ من حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء...؛ وذلك لما قد يقع فيها من المساهلة...»[19].
وقد سبق أن للتساهل في المذاكرة صورًا؛ كانوا يَحْذَرون أن تقع منهم في المذاكرة، فيُحمل عنهم الحديث خطأً، ويتحمَّلون هم تَبِعَته.
وقد مرَّ في قصة ابن مهدي مع عمر بن
هارون -وقد سبق طرفٌ منها-، أن ابن مهدي كتب عنه في المذاكرة ثلاثة
أحاديث، ثم لما روجع بها في قدمته التالية؛ بيَّن أنه تساهل في المذاكرة
بها، فتحمل تبعة ذلك، حيث أُخبر ابن مهدي بذلك، فنال منه وتكلم[20].
2- التحديث من الحفظ، وقرب الخطأ:
قال ابن الصلاح: «وكان جماعةٌ من
حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء...؛ وذلك لما قد يقع فيها
من المساهلة، مع أن الحفظ خوَّان»[21].
وقد مرَّ قول أبي زرعة الرازي: «لا تكتبوا عني بالمذاكرة؛ فإني أخاف أن تحملوا خطأً».
3- عدم إمكان تصحيح الخطأ -إذا وقع-، أو عُسر ذلك:
وقد مرَّ قول ابن مهدي لمحمد بن المثنى: «لو كنتَ وحدك لحدثتك به، فكيف أصنع بهؤلاء؟».
وقول الخطيب -معقِّبًا-: «كان أبو
موسى من الملازمين لعبدالرحمن، فقوله: "لو كنت وحدك لحدثتك به"؛ أراد: أنه
متى بَانَ له أن الحديث على غير ما حدثه به؛ أمكنه استدراكه لإصلاح غلطه،
ولا يمكنه ذلك مع الغرباء الذين حضروا عنده، والله أعلم».
ولأجل كل ذلك؛ كان المتحرُّون من المحدثين لا يرضون أن يُكتَب عنهم في المذاكرة إلا من كتبهم.
وفي حكاية مذاكرة أحمد بن حنبل وأحمد
بن صالح، قال ابن زنجويه: «إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: "عند
الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف
المطيبين»". فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: "أنت الأستاذ وتذكر مثل
هذا!"، فجعل أحمد بن حنبل يبتسم، ويقول: "رواه عن الزهري رجلٌ مقبول أو
صالح؛ عبدالرحمن بن إسحاق"، قال: "من رواه عن عبدالرحمن بن إسحاق؟"، فقال:
"حدثناه رجلان ثقتان: إسماعيل بن علية، وبشر بن المفضل"، فقال أحمد بن
صالح لأحمد بن حنبل: "سألتك بالله إلا أمليته عليَّ!"، فقال أحمد: "من
الكتاب"، فقام، فدخل وأخرج الكتاب وأملاه عليه»[22].
وروي عن إبراهيم بن جابر المروزي،
قال: «كنا نجالس أبا عبدالله أحمد بن حنبل، فنذكر الحديث ونحفظه ونتقنه،
فإذا أردنا أن نكتبه قال: "الكتاب أحفظ"، فيَثِبُ وَثبةً، ويجيء
بالكتاب»[23].
وأما من لم يتحرَّ؛ فإنه ربما جرت له تبعاتٌ من الكتابة عن حفظه في المذاكرة، وسبق ذكر بعض نماذج ذلك.
وربما كان الراوي أحرص من شيخه، فلم يأخذ عنه في المذاكرة إلا من أصل كتابه.
حكى أبو عمرو ابن حمدان مذاكرةَ أبيه
مع عبيد العجل في حديثٍ، وفيه: قال أبوه: «فسألته، فحدثني به، قلت: الأصل!
فأخرج الأصلَ، فكتبته منه»[24].
المسألة السابعة: البحث عن العُلُوِّ بعد المذاكرة:
وهذه الفائدة الرئيسة الثانية من
المذاكرة -كما سبق في المسألة الثانية-، حيث كان من منهج بعضهم الاستفادة
من المذاكرة في تلمُّس الأحاديث الغريبة، وطلب ما لم يكن عنده من
الأسانيد، ثم سماعها من أصحابها -إن أمكن ذلك-.
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: «كنا نجتمع
للمذاكرة وفينا الشاذكوني، وكان إذا مرَّ حديثٌ لم يكن عندي عَلِقته، فإن
كان صاحبه الذي سمع منه حَيّ؛ سمعت منه...»[25].
وقال ابن عدي: أخبرنا محمد بن أحمد بن
عثمان المديني، حدثنا حرملة، حدثنا ابن وهب، عن حاتم بن إسماعيل، عن شريك،
عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها... فذكر الحديث».
قال ابن عدي: «قال لنا ابن عثمان: "ذاكرت هذا الحديث أبا حاتم الرازي بمكة، فجاء إلى مصر، حتى سمعه من حرملة"»[26].
وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم:
«ذاكرت يحيى بن معين يومًا وهو بمصر عن أبي مودود، عن سليمان بن يسار،
قال: "مرضت، فعادني ابنُ عمر في يومٍ مرتين"، فأعجَبَ يحيى هذا الحديثُ،
وقال لي: "أَفِدنيه، عمَّن كتبتَه؟"، فَصِرت مَعَه إلى عبدالمنعم -يعني:
ابن بشير-، فسأله يحيى...»[27].
وقال أبو حاتم الرازي: «قلت على باب
أبي الوليد الطيالسي: مَن أغرب عليَّ حديثًا غريبًا مسندًا صحيحًا لم أسمع
به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدق به. وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق؛
أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي: أن يُلقَى عليَّ ما لم أسمع به،
فيقولون: هو عند فلان، فأذهب، فأسمع، وكان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس
عندي...»[28].
المبحث الثاني: أثر تصوُّر المذاكرة عند المحدثين في النقد الحديثي
لا بُدَّ -بعد هذا التطواف في مفهوم
المذاكرة وأساليبها- أن نعرِّج على أثر تصوُّر تلك المفاهيم والأساليب في
النقد الحديثي، وما يؤدي ذلك إليه من فهمٍ لكلام الأئمة النُّقَّاد، وسيرٍ
على منهجهم في النقد الحديثي.
ويمكن إبراز عددٍ من النقاط في هذا المبحث:
1- تقدير أئمة الحديث ونقَّاده:
تبيَّن في المبحث الأول أن مدارَ المذاكرة ومناطَها على الحفظ الواسع، والاستحضار السريع، والضبط والإتقان.
والمُطالِع في حكايات الأئمة
النُّقَّاد في مذاكراتهم ومدارساتهم فيما بينهم؛ يلمس -جليًّا- مدى حفظهم
وتمكُّنهم في علومهم، وهذا يظهر في أمور، منها:
أ- استعدادهم النفسي للمذاكرة، واقتحامهم منافساتها ومطارحاتها.
ب- مذاكرتهم مئات -بل آلاف- الأحاديث فيما بينهم حفظًا، واستمرار المذاكرة بينهم ساعاتٍ طويلة.
ج- عدم إغراب بعضهم على بعض.
د- عجز عامة المحدِّثين عن مذاكرتهم، وانفرادهم بجودة المذاكرة وحُسنها والغَلَبَة فيها.
هـ- ردُّهم على المخطئ من المذاكِرِين خطأه، وهذا يدل على استحضارهم القوي، ومعرفتهم للصواب من الخطأ.
و- حرصهم على ضبط المحفوظ عن المشايخ بالتذاكر فيه عقب حفظه.
ومن ثم؛ فإنه يتبيَّن بهذا عظيم موقع
كلامهم في النقد الحديثي، وأنهم إذا تكلَّموا في ذلك؛ فإنما يتكلمون بهذه
الخلفية العلمية الفائقة حفظًا وضبطًا وتمكُّنًا وسعةَ اطِّلاع.
ولذا؛ فإن من الواجب احترام نقدهم، وإحلاله ما يستحقُّه من محل، وعدم التسرُّع في تخطئتهم وتغليطهم.
وهذا لا يعني -بلا شك- التقليد الأعمى، وتسليم القياد، وسد باب الاجتهاد، وإنما هو الاعتراف بالعجز والقصور أمام أولئك الكبار.
2- التحرِّي في الأحاديث المرويَّة في المذاكرة:
إذا تبيَّن من حديث بعض الرواة أنه
حدَّث به مذاكرةً، فإن من الواجب التحرِّي والتدقيق في روايته، فيُتَوقَّف
في تصحيحها -ما لم تدلَّ القرائن على صحتها-، وتُضعَّف -رأسًا- إن خولف
فيها، أو دلَّت القرائن على غلطه فيها.
وقد سبق من عادات المحدِّثين في
المذاكرة ما يلزم معه هذا التحرِّي؛ مِن تساهلهم فيها، واختصارهم في
الإسناد والمتن، وروايتهم عمَّن لا يرضون، وغير ذلك.
قال الذهبي: «إذا قال: "حدثنا فلان مذاكرةً"؛ دلَّ على وهنٍ ما؛ إذ المذاكرة يُتَسمَّح فيها»[29].
ومما يدخل في ذلك: التحرِّي في صحة سماع الرواة من بعضهم إذا روى أحدهم عن شيخه مذاكرةً، أو ورد سماع راوٍ من آخر في المذاكرة.
3- إرجاع ما لم تتبيَّن عِلَّته إلى المذاكرة:
قد يتبيَّن لدى الناقد أنه قد وقع في
الحديث غلطٌ ما، وأنه لا يمكن أن يكون من صحيح حديث المحدِّث، فربما أرجع
ذلك إلى أنه حدَّث به مذاكرةً.
روى محمد بن العلاء أبو كريب، عن أبي
أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده، عن أبيه أبي موسى، عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في
سبعة أمعاء».
وهذا تفرد به أبو كريب -في حكم عددٍ من الأئمة-، وتقرَّر عندهم أنه حديثٌ خطأ.
ثم نقل الترمذي عن البخاري قوله: «وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة»[30].
فأرجع البخاري علَّةَ الحديث إلى كونه جرى من أبي أسامة مذاكرةً.
قال ابن رجب: «وما حكاه الترمذي عن
البخاري... فهو تعليلٌ للحديث...؛ والمذاكرة يحصل فيها تسامح، بخلاف حال
السماع أو الإملاء، ولذلك لم يَروِه عن بريدٍ غيرُ أبي أسامة»[31].
والظاهر أن الخلل في هذا الحديث وقع من إحدى جهتين محتملتين:
الأولى: جهة أن أبا أسامة لم يسمعه من
بريد، وإنما كان بلغه عنه، فتسامح في أدائه في المذاكرة، واختصر الإسناد؛
فذكره عن بريدٍ مباشرةً، فحمله أبو كريب عنه كذلك، وصار يتفرَّد به أبو
أسامة عن بريد.
الثانية: جهة أن أبا أسامة حدَّث به
متساهلاً في المذاكرة؛ ولم يكن مستيقنًا منه ولا متوثِّقًا ولا متثبِّتًا،
فتبيَّن أنه ليس من حديثه، وأنه إسنادٌ غلط، إلا أن أبا كريب حمله عنه
كذلك، فصار يتفرَّد به أبو أسامة عن بريد.
ومن نماذج إرجاع ما لم تتبيَّن علَّتُه إلى المذاكرة -كذلك-:
قول الحافظ ابن حجر: «حديث: أنه -صلى
الله عليه وسلم- قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح
الشيطان»: ابن أبي حاتم في كتاب العلل من حديث البختري بن عبيد، عن أبيه،
عن أبي هريرة، وزاد في أوله: «إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء»، ورواه
ابن حبان في الضعفاء في ترجمة البختري بن عبيد، وضعفه به، وقال: "لا يحل
الاحتجاج به".
ولم ينفرد به البختري؛ فقد رواه ابن
طاهر في صفة التصوف من طريق ابن أبي السري، قال: حدثنا عبيدالله بن محمد
الطائي، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وهذا إسنادٌ مجهول، ولعل ابن أبي السري حدَّث به من حفظه في المذاكرة؛ فوَهِم في اسم البختري بن عبيد، والله أعلم»[32].
4- حمل رواية المتثبِّتين من الأئمة عن الرواة الواهين على المذاكرة:
قال الشيخ المعلمي: «وفي "فتح المغيث" : "تتمة: ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وبقي بن مخلد...".
وقوله: "إلا في النادر" لا يضرُّنا،
إنما احترز بها لأن بعض أولئك المحتاطين قد يُخطئ في التوثيق، فيروي عمَّن
يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى حكاية شيءٍ عمَّن ليس بثقة، فيحكيه،
ويبين أنه ليس بثقة، والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين: أن يُبحَث
عنه؛ فإن وُجد أن الذي روى عنه قد جرحه؛ تبيَّن أن روايته عنه كانت على
وجه الحكاية، فلا تكون توثيقًا...»[33].
ومن أولى مواضع الحكاية عن هؤلاء:
موضع المذاكرة؛ حيث سبق أنهم كانوا يروون فيها عمَّن لا يرضونه من الرواة،
وأنَّ روايتهم عنهم في المذاكرة غير معتبرة في مقابلة تضعيفهم وجرحهم.
5- استبانة حال الراوي في المذاكرة:
مرَّ -في الكلام على الإغراب في
المذاكرة- أنها موضعٌ ظاهرٌ من مواضع افتضاح الكذابين والمجازفين بافتعال
الأسانيد والمتون؛ للإغراب بها.
قال د. إبراهيم اللاحم: «يستفاد من
المذاكرة في معرفة سعة حفظ الراوي، واكتشاف أخطائه، بل والتأكد من صدقه،
فإن بعض المذاكِرِين قد يدَّعي -أنفةً- أشياء لا وجود لها...، وأما الصادق
منهم؛ فلا يدَّعي سماع ما لم يسمع...»[34].
6- حمل ما لم يقل فيه المحدِّث: «حدثنا» على المذاكرة:
ومنه الكلام في معلَّقات البخاري عن شيوخه بقوله: «قال لي»، أو: «قال لنا».
وهو قولٌ لبعض العلماء.
قال ابن الصلاح -حكايةً عن "بعض
المتأخرين من أهل المغرب"-: «وقال: "متى رأيت البخاري يقول: «وقال لي،
وقال لنا»؛ فاعلم أنه إسنادٌ لم يذكره للاحتجاج به، وإنما ذكره للاستشهاد
به، وكثيرا ما يعبِّر المحدثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات
والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجُّون بها"»[35].
وقال -في موضع آخر-: «وأما قوله: "قال
لنا فلان"، أو: "ذكر لنا فلان"؛ فهو من قبيل قوله: "حدثنا فلان"؛ غيرَ أنه
لائقٌ بما سَمِعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من "حدثنا"»، ثم أحال إلى
ما سبق نقله عنه عن بعض المغاربة[36].
وناقش ابن حجر هذا القول، ونظر فيه، فقال: «قوله -أي: البخاري-: "وقال لنا محمد بن يوسف"؛ هو الفريابي.
قيل: "عبَّر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة؛ فلم يقل فيه: «حدثنا»".
وقيل: "إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض".
وقيل: "هو متصل من حيث اللفظ، منقطع من حيث المعنى".
والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك،
وهو: أنه متصل، لكنه لا يعبِّر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفًا، أو
كان فيه راوٍ ليس على شرطه...»[37].
وقال: «قوله -أي: البخاري-: "وقال لي
علي بن عبدالله"؛ أي: ابن المديني، كذا لأبي ذر والأكثر...، لكن أخرجه
المصنف في التاريخ، فقال: "حدثنا علي بن المديني"، وهذا مما يقوِّي ما
قرَّرته غيرَ مرة؛ من أنه يعبِّر بقوله: "وقال لي" في الأحاديث التي
سمعها؛ لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر، أو حيث تكون موقوفة، وأما من
زعم أنه يعبِّر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة؛ فليس عليه
دليل»[38].
آخره، والله -تعالى- أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسلَّم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المجروحين (1/54)، الجامع (2/39).
[2] سؤالات البرذعي (2/395، 396).
[3] طبقات المحدثين بأصبهان (2/124)، ومراده
بـ«عَلِقته»: حفظته، ومنه قول يحيى بن سعيد القطان -كما في مراسيل ابن أبي
حاتم (ص3)-: «هؤلاء قومٌ حفاظ؛ كانوا إذا سمعوا الشيءَ علقوه».
[4] الجرح والتعديل (1/332).
[5] سؤالات البرذعي (2/348، 349).
[6] العلل ومعرفة الرجال (2/250).
[7] العلل ومعرفة الرجال، برواية عبدالله (3/298).
[8] العلل ومعرفة الرجال (3/454).
[9] تاريخ بغداد (1/245).
[10] تاريخ بغداد (2/44).
[11] الجرح والتعديل (7/115، 187، 8/110).
[12] تاريخ بغداد (1/288).
[13] تاريخ بغداد (8/71)، تاريخ دمشق (14/275).
[14] معرفة علوم الحديث (ص431، 432).
[15] الجامع (2/37).
[16] سير أعلام النبلاء (13/80).
[17] الجامع (2/37).
[18] الجامع (2/37)، وانظر طبعة محمد عجاج الخطيب (2/30).
[19] علوم الحديث (المقدمة) (ص234).
[20] العلل ومعرفة الرجال، برواية المروذي (ص54-56).
[21] علوم الحديث (ص234).
[22] الكامل (1/181)، تاريخ بغداد (4/197).
[23] الجامع (2/12)، وانظر طبعة الخطيب (1/666، 667).
[24] تاريخ بغداد (7/370).
[25] طبقات المحدثين بأصبهان (2/124).
[26] الكامل (2/459).
[27] ضعفاء العقيلي (3/112).
[28] الجرح والتعديل (1/355).
[29] الموقظة (ص64).
[30] العلل الصغير، للترمذي (ص70 ط. الزرقي).
[31] شرح علل الترمذي (2/647).
[32] التلخيص الحبير (1/99، 100).
[33] التنكيل (2/659، 660).
[34] الجرح والتعديل (ص64).
[35] علوم الحديث (ص69، 70).
[36] علوم الحديث (ص136).
[37] فتح الباري (2/188)، وهو مما كرر نحوه ابن حجر
في عدة مواضع، انظر: (335، 513، 5/394، 9/154، 433-434، 10/53، 11/128،
256-257، 13/334).
[38] الفتح (5/410).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى