- حمدي عبد الجليلالمشرف العام
- عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28468
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
بحر الدموع - الفصل السادس عشر
الجمعة 16 سبتمبر 2011 - 9:28
ص -74- بحر الدموع - الفصل السادس عشر
يا تائها في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا زاد ولا راحلة. ستندم إذ حان الرحيل، وأمسيت مريضا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاذ، تغدو عليك الحسرات وتروح إلى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد.
فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} القيامة 20ـ21.
وأنشدوا:
ص -76- من هذه؟ فقالت: خالتك عانية أم جعفر بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، فسلكت عليها، وسلمت علي، فسألتها عن حالها، وقلت لها: صيّرك الدهر إلى ما أرى!.
قالت: نعم يا بنيّ، إنما كنا في عوار ارتجعها الدّهر منا.
فقلت لها: حدّثني ببعض شأنك.
قالت: خذ جملة، وقس على ذلك. لقد مضى عليّ عيد مثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد كان بعث إليّ برسم الضاحي ألف رأس من الغنم، وثلاثمائة رأس من البقر، دون ما يتبع ذلك من الزينة واللباس، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاتين أجعل إحداهما شعارا، والآخر دثارا1، تعني غطاء بليل.
قال: فغمّني ذلك من قولها، وكربني ما رأيت من حالها، وأبكاني والله قولها، فوهبت لها دنانير كانت عندي.
فانظر أخي حال الدنيا، وكيف يحوّل نعيمها وكيف يذهب ويزول، فالمغرور، والله من اغترّ بها، والمسعود من رأى عيبها وفرّ منها والمصائب في الدنيا أعداد: فواحد يصاب في الأموال والأولاد، والآخر يعرى من الإسلام بالطرد والإبعاد.
قال: بعض السادات: كنت جالسا عند الحسن البصري رضي الله عنه، فمرّ بنا قوم يجرون قتيلاـ، فلما رآه الحسن البصري، وقع مغشيا عليه، فلما أفاق من غشيته، سألته عن أمره فقال: إن هذا الرجل كان من أفضل العبّاد والزهاد وكبار السادات، فقلت له: يا أبا سعيد أخبرنا بخبره، وأطلعنا على أمره.
قال: إن هذا الشيخ خرج من بيته يريد المسجد ليصلي فيه، فرأى في طريقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشعار: ما يغطي جسد الإنسان، والدثار: ما يلتحف به وهو ما فوق الثياب.
ص -77- جارية نصرانية، فافتتن بها، فامتنعت عليه، فقالت: لا أتزوجك حتى تدخل في ديني، فلما طالت المدة، وزاد به الأمر جبذته شهوته، ثم غلبت عليه شقوته، فأجاب إلى ذلك، وبريء من دين الحنيفية.
فلما صار نصرانيا، وكان منه ما كان، خرجت المرأة من خف الستر، وقالت: يا هذا، لا خير فيك، خرجت من دينك الذي صحبته عمرك من أحل شهوة لا قدر لها، لكن أنا أترك دين النصرانية طلبا لنعيم لا يفنى عني طول الأبد في جوار الواحد الصمد، ثم قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} سورة الإخلاص.
فتعجب الناس من أمرها، وقالوا لها: أكنت تحفظين هذه السورة قبل هذا؟! قالت: لا والله ما عرفتها قط، ولكن هذا الرجل لما ألحّ عليّ، رأيت في النوم كأني دخلت النار، فعرض عليّ مكاني منها، فارتعبت وخفت خوفا شديدا، فقال لي مالك: لا تخافي ولا تحزني، فقد فداك الله بهذا الرجل منها، ثم أخذ بيدي، وأدخلني الجنة، فوجدت فيها سطرا مكتوبا. فقرأته، فوجدت فيه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد 39. ثم أقرأني سورة الإخلاص، فأقبلت أردّدها، ثم انبتهت وأنا أحفظها.
قال الحسن: فأسلمت المرأة، وقتل الشيخ على ردّته نصرانيا. نسأل الله العافية.
يا تائها في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا زاد ولا راحلة. ستندم إذ حان الرحيل، وأمسيت مريضا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاذ، تغدو عليك الحسرات وتروح إلى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد.
فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} القيامة 20ـ21.
وأنشدوا:
احذر دنياك وغرّتها واحذر إن تبد لها طلبا
تبغى ودّا ممن قدما لك قد قتلت أمّا وأبا
وعلى الجيران فقد جارت كلا قهرت أولت عطبا
كم من ملك ذي مملكة قد مال لها سكرا وصبا
أضحى في اللحد ومقعده بتراب اللحد قد احتجبا
اطلب مولاك ودع دنياك ففي أخراك ترى عجبا
كم من قصر قد شيد بنا بالموت وها أضحى خربا
يا طالبها لا تله بها كم من تاه ملك غضبا
أين الماضون قد سكنوا لحدا فردا خربا تربا
كانوا ومضوا ثم انقرضوا فتأدب أنت بهم أدبا
ص -75- فالعمر مضى والشيب أتى والموت لجينك قد قربا
فأعدّ الزاد فما سفر عمر الأيام قد انتهبا
بادر بالتوب وكن فطنا لا تلق بجريتك النصبا
فلعل الله برحمته يلقي بالعفو لنا سببا
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: كنت أحمل الحطب من الجبال وأتقوّت به، وكان طريقي فيه التقوى والتحري، فرأيت جماعة من صلحاء البصرة في النوم، منهم الحسن ومالك بن دينار، وفرقد السّبخي.
فقلت لهم: أنتم أئمة المسلمين فدلوني على الحلال الذي ليس فيه تبعة، ولا للخلق فيه منّة، فأخذوا بيدي وأخرجوني من طرسوس إلى مرج فيه خبّازي، فقالوا لي: هذا هو الحلال الذي ليس فيه لله تبعة، ولا للخلق فيه منة.
قال: قعدت آكل منه دهرا نيئا، وآكل منه مطبوخا، فأوجدني الله تعالى قلبا طيبا.
قلت: إن كان أهل الجنة بالقلب الذي لي، فهم والله في عيش.
فخرجت يوما على باب البلد، وإذا بفتى يريد البلد، وكانت لي قطيعات بقيت لي من الحطب الذي كنت أبيعه قبل ذلك، فقلت: هذه لا أحتاج إليها، أدفعها لهذا الفقير ينفقها.
فلما دنا مني، أدخلت يدي لأخرجها له، فرأيته قد حرّك شفتيه، وإذا كل ما حولي من الأرض ذهب وفضة، حتى كاد يخطف بصري.
قال: ثم خرجت مرة أخرى، فرأيته قاعدا وبين يديه ركوة وفيها ماء، فسلمت عليه، ثم طلبت منه أن يكلمني فمدّ رجله، فقلب الركوة بمائها، ثم قال: كثرة الكلام تنشفّ الحسنات، كما تنشف هذه الأرض الماء، يكفيك.
قال محمد بن غسان صاحب الكوفة وقاضيها: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمي
فقلت لهم: أنتم أئمة المسلمين فدلوني على الحلال الذي ليس فيه تبعة، ولا للخلق فيه منّة، فأخذوا بيدي وأخرجوني من طرسوس إلى مرج فيه خبّازي، فقالوا لي: هذا هو الحلال الذي ليس فيه لله تبعة، ولا للخلق فيه منة.
قال: قعدت آكل منه دهرا نيئا، وآكل منه مطبوخا، فأوجدني الله تعالى قلبا طيبا.
قلت: إن كان أهل الجنة بالقلب الذي لي، فهم والله في عيش.
فخرجت يوما على باب البلد، وإذا بفتى يريد البلد، وكانت لي قطيعات بقيت لي من الحطب الذي كنت أبيعه قبل ذلك، فقلت: هذه لا أحتاج إليها، أدفعها لهذا الفقير ينفقها.
فلما دنا مني، أدخلت يدي لأخرجها له، فرأيته قد حرّك شفتيه، وإذا كل ما حولي من الأرض ذهب وفضة، حتى كاد يخطف بصري.
قال: ثم خرجت مرة أخرى، فرأيته قاعدا وبين يديه ركوة وفيها ماء، فسلمت عليه، ثم طلبت منه أن يكلمني فمدّ رجله، فقلب الركوة بمائها، ثم قال: كثرة الكلام تنشفّ الحسنات، كما تنشف هذه الأرض الماء، يكفيك.
قال محمد بن غسان صاحب الكوفة وقاضيها: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمي
ص -76- من هذه؟ فقالت: خالتك عانية أم جعفر بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، فسلكت عليها، وسلمت علي، فسألتها عن حالها، وقلت لها: صيّرك الدهر إلى ما أرى!.
قالت: نعم يا بنيّ، إنما كنا في عوار ارتجعها الدّهر منا.
فقلت لها: حدّثني ببعض شأنك.
قالت: خذ جملة، وقس على ذلك. لقد مضى عليّ عيد مثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد كان بعث إليّ برسم الضاحي ألف رأس من الغنم، وثلاثمائة رأس من البقر، دون ما يتبع ذلك من الزينة واللباس، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاتين أجعل إحداهما شعارا، والآخر دثارا1، تعني غطاء بليل.
قال: فغمّني ذلك من قولها، وكربني ما رأيت من حالها، وأبكاني والله قولها، فوهبت لها دنانير كانت عندي.
فانظر أخي حال الدنيا، وكيف يحوّل نعيمها وكيف يذهب ويزول، فالمغرور، والله من اغترّ بها، والمسعود من رأى عيبها وفرّ منها والمصائب في الدنيا أعداد: فواحد يصاب في الأموال والأولاد، والآخر يعرى من الإسلام بالطرد والإبعاد.
قال: بعض السادات: كنت جالسا عند الحسن البصري رضي الله عنه، فمرّ بنا قوم يجرون قتيلاـ، فلما رآه الحسن البصري، وقع مغشيا عليه، فلما أفاق من غشيته، سألته عن أمره فقال: إن هذا الرجل كان من أفضل العبّاد والزهاد وكبار السادات، فقلت له: يا أبا سعيد أخبرنا بخبره، وأطلعنا على أمره.
قال: إن هذا الشيخ خرج من بيته يريد المسجد ليصلي فيه، فرأى في طريقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشعار: ما يغطي جسد الإنسان، والدثار: ما يلتحف به وهو ما فوق الثياب.
ص -77- جارية نصرانية، فافتتن بها، فامتنعت عليه، فقالت: لا أتزوجك حتى تدخل في ديني، فلما طالت المدة، وزاد به الأمر جبذته شهوته، ثم غلبت عليه شقوته، فأجاب إلى ذلك، وبريء من دين الحنيفية.
فلما صار نصرانيا، وكان منه ما كان، خرجت المرأة من خف الستر، وقالت: يا هذا، لا خير فيك، خرجت من دينك الذي صحبته عمرك من أحل شهوة لا قدر لها، لكن أنا أترك دين النصرانية طلبا لنعيم لا يفنى عني طول الأبد في جوار الواحد الصمد، ثم قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} سورة الإخلاص.
فتعجب الناس من أمرها، وقالوا لها: أكنت تحفظين هذه السورة قبل هذا؟! قالت: لا والله ما عرفتها قط، ولكن هذا الرجل لما ألحّ عليّ، رأيت في النوم كأني دخلت النار، فعرض عليّ مكاني منها، فارتعبت وخفت خوفا شديدا، فقال لي مالك: لا تخافي ولا تحزني، فقد فداك الله بهذا الرجل منها، ثم أخذ بيدي، وأدخلني الجنة، فوجدت فيها سطرا مكتوبا. فقرأته، فوجدت فيه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد 39. ثم أقرأني سورة الإخلاص، فأقبلت أردّدها، ثم انبتهت وأنا أحفظها.
قال الحسن: فأسلمت المرأة، وقتل الشيخ على ردّته نصرانيا. نسأل الله العافية.
________________________________________________
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى