- إيمان إبراهيم مساعد
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3903
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
الرد على قبـوري محتج بشبهة إجماع الصحابة رضي الله عنهم
الأربعاء 17 أغسطس 2011, 20:23
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد احتجَّ من يستحبُّ الصلاةَ في المساجد المبنية على الأضرحة والقبور ‑هداه الله‑ بشُبهة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء نصُّ احتجاجه على ما يلي:
«أمَّا فِعل الصحابة رضي الله عنهم يتَّضح في موقف دفن سيِّدنا رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم واختلافهم فيه، وهو ما حكاه الإمام مالك رضي الله عنه عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكانِ دَفْنِ الحبيب صَلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «فقال ناسٌ: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِيَّ فِيهِ فَحفرَ لَهُ فِيهِ»(١- رواه مالك في «الموطأ»: (1/231).)، ووجه الاستدلال أنَّ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم اقترحوا أن يدفن صَلَّى الله عليه وآله وسلم عند المنبر وهو داخل المسجد قطعًا، ولم ينكر عليهم أحدٌ هذا الاقتراح، بل إنَّ أبا بكر رضي الله عنه اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وإنما تطبيقًا لأمره صَلَّى الله عليه وآله وسلم بأن يُدفن في مكانِ قَبْضِ روحه الشريف صَلَّى الله عليه وآله وسلم.
وبتأمُّلنا إلى دفنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان؛ نجد أنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم قُبض في حجرة السيِّدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الحجرة كانت متصلةً بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون. فوضع الحجرة بالنسبة للمسجد كان -تقريبًا- هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرة فيها ضريح لأحد الأولياء في زماننا، بأن يكون ضريحه متصلاً بالمسجد والناس يصلون في صحن المسجد بالخارج.
وهناك من يعترض على هذا الكلام ويقول: إنَّ هذا خاصٌّ بالنبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم، والردُّ عليه أنَّ الخصوصية في الأحكام بالنبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم تحتاج إلى دليل، والأصل أنَّ الحكم عامٌّ ما لم يرد دليلٌ يثبت الخصوصيةَ، ولا دليل، فَبَطَلَتْ الخصوصية المزعومة في هذا الموطن، ونزولاً على قول الخصم من أنَّ هذه خصوصية للنبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم -وهو باطل كما بيَّـنَّا- فالجواب أنَّ هذه الحجرة دفن فيها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، ومن بعده سيدنا عمر رضي الله عنه، والحجرة متَّصلة بالمسجد، فهل الخصوصية انسحبت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أم ماذا؟ والصحابة يصلون في المسجد المتصل بهذه الحجرة التي بها ثلاثة قبور، والسيدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، ألا يُعدُّ هذا فعل الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
فالجواب عنه على التفصيل التالي:
- إنَّ ما استند إليه القبوريُّ ‑هداه الله‑ من حديث مالكِ بن أنسٍ ‑رحمه الله‑ بقوله: «وهو ما حكاه مالك ‑رحمه الله‑ عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم» فإنما أورده مالك ‑رحمه الله‑ في «الموطأ» بلاغًا منقطعًا دون إسناد، وجاء في سياقه «أنه بلغه أنَّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء وصَلَّى الناس عليه أفذاذًا، لا يؤمُّهم أحد، فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ..»(٢- «موطأ مالك بشرح تنوير الحوالك» للسيوطي: (1/229-231).).
وهذا الحديث معضلٌ، قال الحافظ ابن عبد البر ‑رحمه الله‑: «هذا الحديث لا يُروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالكٍ هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة وأحاديثُ شتى جمعها مالك»(٣- «التمهيد» لابن عبد البر: (24/398-399).)، ثم تناول الحافظ ابن عبد البر ‑رحمه الله‑ الحديث ببيان جميع شواهد فقراته ما عدا تلك المتعلقة بالدفن عند المنبر فلم يذكر لها ما يشهد لها بالصحة.
وقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قال أبو بكر أين يدفن رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم؟ قال قائلٌ منهم: عند المنبر، وقال قائل منهم: حيث كان يصلي يؤمُّ الناس، فقال أبو بكر: بل يدفنُ حيث توفى الله نفسَه، فأخَّر الفراش ثمَّ حفر له تحته»(٤- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/552).).
وسنده ضعيفٌ لإرساله، فأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبي بكر، «قال أبو زرعة: هو عن أبي بكر مرسلٌ»(٥- «تهذيب التهذيب» لابن حجر: (12/117).)، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب كانت ولادته في خلافة عثمان ولم يسمع من أبي بكر(٦- المصدر السابق نفسه: (11/250).)، ومحمَّد بن عمرو بن علقمة صدوقٌ له أوهام(٧- المصدر السابق: (9/375)، و«تقريب التهذيب» لابن حجر: (2/196).).
والحديث رواه محمَّد بن إسحاق موصولاً، أخرجه ابن ماجه في «السنن»(٨- «سنن ابن ماجه» (1/520) (رقم: 1628).) والبزار(٩- «مسند البزار» (1/70) (رقم: 18).) وأبو يعلى(١٠- «مسند أبي يعلى» (1/45، 46) (رقم: 22، 23).) والبيهقي في «دلائل النبوة»(١١- «دلائل النبوة» للبيهقي (7/260).)، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر(١٢- «مسند أبي بكر» (66) (رقم: 26، 27).)، وابن هشام(١٣- «السيرة النبوية» لابن هشام (2/663).)، وابن كثير(١٤- «البداية والنهاية» لابن كثير (5/266).) قال: «حدثني حسين بنُ عبد الله عن عكرمة عن ابن عباسٍ قال: .. وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ».
والحديث ضعيف لأنَّ في سنده حسين بن عبد الله بن عبيد ضعَّفه ابنُ معينٍ والنسائي وأبو زرعة والبخاري، وكثيرٌ من أهل الحديث لم يحتجوا بحديثه(١٥- انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي: (1/537)، و«تهذيب التهذيب»: (2/341)، و«تقريب التهذيب» كلاهما لابن حجر: (1/176).)، والحديث ضعَّفه الألباني(١٦- «ضعيف سنن بن ماجه» للألباني (127-128).).
وتابعه من هو دونه وأوهى منه، قال السيوطي: «وصله ابن سعد من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة»(١٧- الته«تنوير الحوالك» للسيوطي: (1/230).ميش).
قلت: فقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عمر، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحُصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما فرغ من جهاز رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يوم الثلاثاء وُضع على سرير في بيته، وكان المسلمون قد اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه بالبقيع، قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ»، فرفع فراش النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الذي توفي عليه ثم حفر له تحته»(١٨- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/552).).
وسند هذا الحديث ضعيف جدًّا، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيف وعنده مناكير(١٩- انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي: (1/19)، و«تقريب التهذيب» لابن حجر: (1/31).)، وداود بن الحُصين ثقة إلا في عكرمة ورمي برأي الخوارج كما صرح ابن حجر في «التقريب»(٢٠- «تقريب التهذيب» لابن حجر: (1/231).)، ومحمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي هو الواقدي متروك الحديث، فلا يصلح هذا الطريق لا في المتابعات ولا في الشواهد.
ولا يشفع لحال الواقدي إسناده الآخر الذي ذكره الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: «قال الواقدي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمَّد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد قال: لما توفي النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اختلفوا في موضع قبره، قال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم، وقال قائل: عند قبره، وقال قائل، في مُصلاَّه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرًا وعلمًا، سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ»(٢١- «البداية والنهاية» لابن كثير: (5/267).).
وهذا الحديث مرسل، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي لم يدرك أبا بكر، وفيه الواقدي ‑كما ترى‑.
وأمَّا طريق ابن هشام بن عروة فليس فيه ذكر لمحلِّ الشاهد.
هذا، والناظر في مجموع طرق الحديث يدرك أنَّ الطريق الأول وإن كان ضعيفًا من جهة الإرسال وليس فيه تهمة في صدق الراوي وديانته إلاَّ أنَّ الطرق الأخرى لا تخلو من ذلك, فإنَّ طريق عكرمة عن ابن عباس فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس تركه أحمد وله أشياء منكرة، وقال النسائي: متروك، وتركه البخاري، وقال: يقال إنه متهم بالزندقة(٢٢- «تهذيب التهذيب» لابن حجر (2/341-342).).
أمَّا الطريق الثالث ففيه إبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف له مناكير، وفيه الواقدي متروك الحديث، وكذا الطرق الأخرى.
وعليه، فلا يتقوى الحديث بكثرة طرقه مهما تعدَّدت؛ لأنها ناشئة من تهمة في صدق الرواة ودينهم، وإنما يرتقي ويتقوَّى بكثرة الطرق إذا كان ضعف رواته في مختلف الطرق ناشئًا من جهة سوء حفظهم كما نبَّه إليه أهلُ الحديث.
هذا، وعلى فرض صحة الأثر فإنَّ قول القائل: «ندفنه في مسجده» أو «عند المنبر» معارض بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لما نزل برسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبْرِزَ قبرُه، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا»(٢٣- أخرجه البخاري (3/628) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومسلم (1/239)، كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» رقم: (529).).
والمرادُ أنه لولا تحذير النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما صنعوا ولعن مَن يفعل ذلك لدفن خارج بيته، غير أنه خَشِي [أي النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم] أن يُتخذ قبرُه مسجدًا على رواية الفتح، أمَّا «خُشِيَ» على رواية الضم فهي خشية واقعة من الصحابة رضي الله عنهم، ولا تعارضها روايةُ عائشة رضي الله عنها: «غير أني أخشى»؛ لأنَّ إخبار وقوع الخشية من فرد لا ينافي وقوعها في مجموع الأفراد.
ومن جهة أخرى: يجوز أن يشير أحدُهم بأن يدفن في بيته ‑قطعًا لذريعة الشرك‑ وليس في ذهنه إلاَّ تلك الخشية، وبعضهم يشير إلى الرأي نفسه ومعه علم بأن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ»، كما يجوز على بعضهم أن لا يتفطن إلى هذا المعنى لغلبة معنى آخر في الرأي فيشير إلى دفنه بالبقيع لعلة أنه كان كثيرًا ما يستغفر لهم فيدفن مع أصحابه، أو يشير بعضهم إلى أنَّ دفنه في مسجده أو عند منبره لعلة موضع خطابته وصلاته وإمامته بالناس مع غياب المعنى الأول، وهو ‑بلا شك‑ قول موقوف على اجتهاد صحابي لم يعينه الحديث مع احتمال أنه لم يبلغه التحريم، وخاصة أن أحاديث التحريم كانت قريبة العهد بوفاته صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولا يلزم من سكوت الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت سكوتهم في أي وقت وإقرارهم على مبلغ اجتهاده، فهم أعلم بذلك الظرف ومناسبته لمقام الإنكار فيه من عدمه، علمًا بأنَّ جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد بيَّنوا الحكمَ بيانًا يسقط وجوب الإنكار فيما نقلوا من أحاديثَ مرفوعةٍ ومتواترة وصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور، وهي نصٌّ في المسألة. ويؤيِّد قيام الإنكار من النبيِّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن (وهو البصري) قال: «ائتمروا(٢٤- أي: تشاوروا. انظر: «النهاية» لابن الأثير (1/66).) أن يدفنوه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في المسجد فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان واضعًا رأسه في حجري إذ قال: «قَاتَلَ اللهُ أَقْوَامًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة(٢٥- «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/516).).
- وفي قوله ‑هداه الله‑: «وبتأمُّلنا إلى دفنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في ذلك المكان، نجد أنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قبض في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها…».
فجوابه من وجوه:
• الوجه الأول: أنَّ النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم يدفن في مسجده، إذ المسجد بناه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حياته، وإنما دفن حيث قبض في أحد بيوته صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وهي حجرة عائشة رضي الله عنها التي كانت بجوار المسجد وخارجة عنه، يفصل بينهما جدار فيه باب، وإنما دفنه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك المكان عملاً بمقتضى الحديث، وحتى لا يتركوا مجالاً لمن بعدهم أن يتخذ قبره عيدًا ومسجدًا.
• الوجه الثاني: أن توسيع مسجده صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في عهد خلافة عمر بن الخطاب ثمَّ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما لم يُدخِلاَ القبر فيه، وإنما تَمَّ توسيعهما للمسجد من الجهات الأخرى دون تعرُّض للحجرة الشريفة عملاً بمقتضى الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد، وإنما أدخلت الحجرة النبوية في المسجد في أواخر القرن الأول في عهد خلافة الوليد بن عبد الملك الذي أمر بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجُرِ أزواج رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إليه، وذلك سنة ثمان وثمانين من الهجرة (88ﻫ)، كما صرَّح بذلك الطبري(٢٦- «تاريخ الطبري» (5/222-223).) وابن كثير(٢٧- «البداية والنهاية» لابن كثير: (9/74-75).)، وعليه يتجلَّى بوضوح أنَّ إدخال الحجرة الشريفة في المسجد ليس ممَّا أجازه الصحابة رضي الله عنهم، ولا أجمعوا عليه كما يَدَّعي ‑هداه الله‑ إذ لم يكن ‑آنذاك بالمدينة النبوية‑ أحدٌ من الصحابة على قيد الحياة، وكان آخرهم موتًا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سنة ثمان وسبعين (78ﻫ)، ومع ذلك أنكر هذا العمل بعض كبار التابعين كسعيد بن المسيب ‑رحمه الله‑(٢٨- لمصدر السابق: (9/75).).
قال الحافظ محمَّد بن عبد الهادي: «وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتًا جابر بن عبد الله، وتوفي في خلافة عبد الملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وقذ ذكر أبو زيد عمر بن شبَّة النميري في كتاب «أخبار المدينة» مدينة رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن أشياخه عمن حدثوا عنه أنَّ عمر بن عبد العزيز لما كان نائبًا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه»(٢٩- «الصارم المنكي» لابن عبد الهادي: (136-137).)، فأين حصل إجماع الصحابة رضي الله عنهم المزعوم يا ترى؟!
- وقوله ‑هداه الله‑: «والسيدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، ألا يُعدُّ هذا فعل الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
فجوابه: أنَّ حجرة عائشة رضي الله عنها كانت مفصولةً بجدارٍ بينها وبين قبرِ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ويدلُّ عليه ما أخرجه أحمد في «مسنده» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وإني واضعٌ ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلاَّ وأنا مشدودة على ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه»(٣٠- أخرجه أحمد في أخرجه أحمد في «مسنده»: (6/202)، والحاكم في «المستدرك»: (3/63)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/57): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح»، وصححه الألباني في «دفاع عن الحديث النبوي»: (95).).
فالحديث يشير إلى أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تدخل حجرتها بعدما فصلت بجدار عن قبر النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: إذ لا يستقيم في العادة أن تبقى مشدودة على ثيابها فلا تضعه ولو في وقت راحتها. ويؤيِّده ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنَّ مالك بن أنس قال: «قُسم بين عائشة باثنين: قسم كان فيه القبرُ، وقسم كان تكون فيه عائشة، وبينهما حائط، فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فُضُلاً، فلما دُفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها»(٣١- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/553).).
• الوجه الثالث:
والذين أدخلوا القبر النبوي في المسجد مع اعترافهم بمخالفة الهدي الصريح في النهي عن بناء المساجد على القبور ومخالفة سنة الخلفاء الراشدين المهديين وسيرة الصحابة الكرام لذلك حاولوا تقليل المخالفة ما وسعهم بالمبالغة في الاحتياط درءًا للفتنة وصيانة لجناب التوحيد لئلاَّ يتخذ قبره عيدًا ووثنًا يعبد.
قال ابن رجب ‑رحمه الله‑: «قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سدِّ الذريعة في قبر النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ثمَّ خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلةً إذا كان مستقبل المصلين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره»(٣٢- «فتح الباري» لابن رجب: (3/217).).
فهذا الاحتياط المبالغ فيه حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه إنما هو استجابة دعائه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»(٣٣- أخرجه أحمد في «مسنده»: (7352)، وأبو يعلى في « مسنده»: (1/312)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده الألباني في «تحذير الساجد»: (22))، فحماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية ‑رحمه الله‑: «ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك ‑كما تقدم‑ بنوا عليها حائطًا وسنموه وحرفوه لئلاَّ يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وفي موطأ مالك عنه أنه قال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمِ مَسَاجِدَ»، وقد استجاب الله دعوته فلم يُتخذ ‑ولله الحمد‑ وثنًا كما اتخذ قبر غيره، بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة، وقبل ذلك ما كانوا يمكِّنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك ممَّا يفعل عند قبر غيره، لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنما يفعل خارجًا عن حجرته لا عند قبره، وإلا فهو ‑ولله الحمد‑ استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلاَّ لأجلها، ولم تكن تمكِّن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئًا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسدَّ بابها وبني عليها حائط آخر، كلُّ ذلك صيانة له صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنًا، وإلاَّ فالمعلوم أنَّ أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم مُعظِّمون للرسول صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلاَّ يتخذ وثنًا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدًا، ولئلاَّ يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم»(٣٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (27/237-328).).
وفي هذا السياق نختم بقول ابن القيم ‑في نونيته‑ وهو من أشد الناس إنكارًا على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية ‑رحمهم الله تعالى‑ قال:
وَلَقَدْ نَهَانَا أَنْ نُصَيِّرَ قَبْرَهُ
وَدَعَا بِأَنْ لاَ يُجْعَلَ القَبْرُ الَّذِي
فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءَهُ
حَتَّى اغْتَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ
وَلَقَدْ غَدَا عِنْدَ الوَفَاةِ مُصَرِّحًا
وَعَنَى الأُلَى جَعَلُوا القُبُورَ مَسَاجِدًا
وَاللهِ لَوْلاَ ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ
قَصَدُوا إِلَى تَسْنِيمِ حُجْرَتِهِ ليمـ
قَصَدُوا مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَقَصْدُهُ
عِيدًا حَذَارِ الشِّرْكَ بِالرَّحْمَنِ
قَدْ ضَمَّهُ وَثَنًا مِنَ الأَوْثَانِ
وَأَحَاطَهُ بِثَلاَثَةِ الجُدْرَانِ
فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ
بِاللَّعْنِ يَصْرُخُ فِيهِمْ بِأَذَانِ
وَهُمُ اليَهُودُ وَعَابِدُوا الصُّلْبَانِ
لَكِنْ حَجَبُوهُ بِالحِيطَانِ
ـتنع السُّجُودُ لَهُ عَلَى الأَذْقَانِ
التَّجْرِيدُ لِلتَّوْحِيدِ لِلرَّحْمَنِ(٣٥- «الكافية الشافية» لابن القيم: (2/352-354).)
فقد احتجَّ من يستحبُّ الصلاةَ في المساجد المبنية على الأضرحة والقبور ‑هداه الله‑ بشُبهة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء نصُّ احتجاجه على ما يلي:
«أمَّا فِعل الصحابة رضي الله عنهم يتَّضح في موقف دفن سيِّدنا رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم واختلافهم فيه، وهو ما حكاه الإمام مالك رضي الله عنه عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكانِ دَفْنِ الحبيب صَلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «فقال ناسٌ: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِيَّ فِيهِ فَحفرَ لَهُ فِيهِ»(١- رواه مالك في «الموطأ»: (1/231).)، ووجه الاستدلال أنَّ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم اقترحوا أن يدفن صَلَّى الله عليه وآله وسلم عند المنبر وهو داخل المسجد قطعًا، ولم ينكر عليهم أحدٌ هذا الاقتراح، بل إنَّ أبا بكر رضي الله عنه اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وإنما تطبيقًا لأمره صَلَّى الله عليه وآله وسلم بأن يُدفن في مكانِ قَبْضِ روحه الشريف صَلَّى الله عليه وآله وسلم.
وبتأمُّلنا إلى دفنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان؛ نجد أنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم قُبض في حجرة السيِّدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الحجرة كانت متصلةً بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون. فوضع الحجرة بالنسبة للمسجد كان -تقريبًا- هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرة فيها ضريح لأحد الأولياء في زماننا، بأن يكون ضريحه متصلاً بالمسجد والناس يصلون في صحن المسجد بالخارج.
وهناك من يعترض على هذا الكلام ويقول: إنَّ هذا خاصٌّ بالنبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم، والردُّ عليه أنَّ الخصوصية في الأحكام بالنبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم تحتاج إلى دليل، والأصل أنَّ الحكم عامٌّ ما لم يرد دليلٌ يثبت الخصوصيةَ، ولا دليل، فَبَطَلَتْ الخصوصية المزعومة في هذا الموطن، ونزولاً على قول الخصم من أنَّ هذه خصوصية للنبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم -وهو باطل كما بيَّـنَّا- فالجواب أنَّ هذه الحجرة دفن فيها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، ومن بعده سيدنا عمر رضي الله عنه، والحجرة متَّصلة بالمسجد، فهل الخصوصية انسحبت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أم ماذا؟ والصحابة يصلون في المسجد المتصل بهذه الحجرة التي بها ثلاثة قبور، والسيدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، ألا يُعدُّ هذا فعل الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
فالجواب عنه على التفصيل التالي:
- إنَّ ما استند إليه القبوريُّ ‑هداه الله‑ من حديث مالكِ بن أنسٍ ‑رحمه الله‑ بقوله: «وهو ما حكاه مالك ‑رحمه الله‑ عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم» فإنما أورده مالك ‑رحمه الله‑ في «الموطأ» بلاغًا منقطعًا دون إسناد، وجاء في سياقه «أنه بلغه أنَّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء وصَلَّى الناس عليه أفذاذًا، لا يؤمُّهم أحد، فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ..»(٢- «موطأ مالك بشرح تنوير الحوالك» للسيوطي: (1/229-231).).
وهذا الحديث معضلٌ، قال الحافظ ابن عبد البر ‑رحمه الله‑: «هذا الحديث لا يُروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالكٍ هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة وأحاديثُ شتى جمعها مالك»(٣- «التمهيد» لابن عبد البر: (24/398-399).)، ثم تناول الحافظ ابن عبد البر ‑رحمه الله‑ الحديث ببيان جميع شواهد فقراته ما عدا تلك المتعلقة بالدفن عند المنبر فلم يذكر لها ما يشهد لها بالصحة.
وقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قال أبو بكر أين يدفن رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم؟ قال قائلٌ منهم: عند المنبر، وقال قائل منهم: حيث كان يصلي يؤمُّ الناس، فقال أبو بكر: بل يدفنُ حيث توفى الله نفسَه، فأخَّر الفراش ثمَّ حفر له تحته»(٤- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/552).).
وسنده ضعيفٌ لإرساله، فأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبي بكر، «قال أبو زرعة: هو عن أبي بكر مرسلٌ»(٥- «تهذيب التهذيب» لابن حجر: (12/117).)، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب كانت ولادته في خلافة عثمان ولم يسمع من أبي بكر(٦- المصدر السابق نفسه: (11/250).)، ومحمَّد بن عمرو بن علقمة صدوقٌ له أوهام(٧- المصدر السابق: (9/375)، و«تقريب التهذيب» لابن حجر: (2/196).).
والحديث رواه محمَّد بن إسحاق موصولاً، أخرجه ابن ماجه في «السنن»(٨- «سنن ابن ماجه» (1/520) (رقم: 1628).) والبزار(٩- «مسند البزار» (1/70) (رقم: 18).) وأبو يعلى(١٠- «مسند أبي يعلى» (1/45، 46) (رقم: 22، 23).) والبيهقي في «دلائل النبوة»(١١- «دلائل النبوة» للبيهقي (7/260).)، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر(١٢- «مسند أبي بكر» (66) (رقم: 26، 27).)، وابن هشام(١٣- «السيرة النبوية» لابن هشام (2/663).)، وابن كثير(١٤- «البداية والنهاية» لابن كثير (5/266).) قال: «حدثني حسين بنُ عبد الله عن عكرمة عن ابن عباسٍ قال: .. وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ».
والحديث ضعيف لأنَّ في سنده حسين بن عبد الله بن عبيد ضعَّفه ابنُ معينٍ والنسائي وأبو زرعة والبخاري، وكثيرٌ من أهل الحديث لم يحتجوا بحديثه(١٥- انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي: (1/537)، و«تهذيب التهذيب»: (2/341)، و«تقريب التهذيب» كلاهما لابن حجر: (1/176).)، والحديث ضعَّفه الألباني(١٦- «ضعيف سنن بن ماجه» للألباني (127-128).).
وتابعه من هو دونه وأوهى منه، قال السيوطي: «وصله ابن سعد من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة»(١٧- الته«تنوير الحوالك» للسيوطي: (1/230).ميش).
قلت: فقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عمر، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحُصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما فرغ من جهاز رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يوم الثلاثاء وُضع على سرير في بيته، وكان المسلمون قد اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه بالبقيع، قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ»، فرفع فراش النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الذي توفي عليه ثم حفر له تحته»(١٨- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/552).).
وسند هذا الحديث ضعيف جدًّا، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيف وعنده مناكير(١٩- انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي: (1/19)، و«تقريب التهذيب» لابن حجر: (1/31).)، وداود بن الحُصين ثقة إلا في عكرمة ورمي برأي الخوارج كما صرح ابن حجر في «التقريب»(٢٠- «تقريب التهذيب» لابن حجر: (1/231).)، ومحمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي هو الواقدي متروك الحديث، فلا يصلح هذا الطريق لا في المتابعات ولا في الشواهد.
ولا يشفع لحال الواقدي إسناده الآخر الذي ذكره الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: «قال الواقدي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمَّد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد قال: لما توفي النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اختلفوا في موضع قبره، قال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم، وقال قائل: عند قبره، وقال قائل، في مُصلاَّه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرًا وعلمًا، سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ»(٢١- «البداية والنهاية» لابن كثير: (5/267).).
وهذا الحديث مرسل، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي لم يدرك أبا بكر، وفيه الواقدي ‑كما ترى‑.
وأمَّا طريق ابن هشام بن عروة فليس فيه ذكر لمحلِّ الشاهد.
هذا، والناظر في مجموع طرق الحديث يدرك أنَّ الطريق الأول وإن كان ضعيفًا من جهة الإرسال وليس فيه تهمة في صدق الراوي وديانته إلاَّ أنَّ الطرق الأخرى لا تخلو من ذلك, فإنَّ طريق عكرمة عن ابن عباس فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس تركه أحمد وله أشياء منكرة، وقال النسائي: متروك، وتركه البخاري، وقال: يقال إنه متهم بالزندقة(٢٢- «تهذيب التهذيب» لابن حجر (2/341-342).).
أمَّا الطريق الثالث ففيه إبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف له مناكير، وفيه الواقدي متروك الحديث، وكذا الطرق الأخرى.
وعليه، فلا يتقوى الحديث بكثرة طرقه مهما تعدَّدت؛ لأنها ناشئة من تهمة في صدق الرواة ودينهم، وإنما يرتقي ويتقوَّى بكثرة الطرق إذا كان ضعف رواته في مختلف الطرق ناشئًا من جهة سوء حفظهم كما نبَّه إليه أهلُ الحديث.
هذا، وعلى فرض صحة الأثر فإنَّ قول القائل: «ندفنه في مسجده» أو «عند المنبر» معارض بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لما نزل برسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبْرِزَ قبرُه، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا»(٢٣- أخرجه البخاري (3/628) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومسلم (1/239)، كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» رقم: (529).).
والمرادُ أنه لولا تحذير النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما صنعوا ولعن مَن يفعل ذلك لدفن خارج بيته، غير أنه خَشِي [أي النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم] أن يُتخذ قبرُه مسجدًا على رواية الفتح، أمَّا «خُشِيَ» على رواية الضم فهي خشية واقعة من الصحابة رضي الله عنهم، ولا تعارضها روايةُ عائشة رضي الله عنها: «غير أني أخشى»؛ لأنَّ إخبار وقوع الخشية من فرد لا ينافي وقوعها في مجموع الأفراد.
ومن جهة أخرى: يجوز أن يشير أحدُهم بأن يدفن في بيته ‑قطعًا لذريعة الشرك‑ وليس في ذهنه إلاَّ تلك الخشية، وبعضهم يشير إلى الرأي نفسه ومعه علم بأن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ»، كما يجوز على بعضهم أن لا يتفطن إلى هذا المعنى لغلبة معنى آخر في الرأي فيشير إلى دفنه بالبقيع لعلة أنه كان كثيرًا ما يستغفر لهم فيدفن مع أصحابه، أو يشير بعضهم إلى أنَّ دفنه في مسجده أو عند منبره لعلة موضع خطابته وصلاته وإمامته بالناس مع غياب المعنى الأول، وهو ‑بلا شك‑ قول موقوف على اجتهاد صحابي لم يعينه الحديث مع احتمال أنه لم يبلغه التحريم، وخاصة أن أحاديث التحريم كانت قريبة العهد بوفاته صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولا يلزم من سكوت الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت سكوتهم في أي وقت وإقرارهم على مبلغ اجتهاده، فهم أعلم بذلك الظرف ومناسبته لمقام الإنكار فيه من عدمه، علمًا بأنَّ جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد بيَّنوا الحكمَ بيانًا يسقط وجوب الإنكار فيما نقلوا من أحاديثَ مرفوعةٍ ومتواترة وصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور، وهي نصٌّ في المسألة. ويؤيِّد قيام الإنكار من النبيِّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن (وهو البصري) قال: «ائتمروا(٢٤- أي: تشاوروا. انظر: «النهاية» لابن الأثير (1/66).) أن يدفنوه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في المسجد فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان واضعًا رأسه في حجري إذ قال: «قَاتَلَ اللهُ أَقْوَامًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة(٢٥- «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/516).).
- وفي قوله ‑هداه الله‑: «وبتأمُّلنا إلى دفنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في ذلك المكان، نجد أنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قبض في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها…».
فجوابه من وجوه:
• الوجه الأول: أنَّ النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم يدفن في مسجده، إذ المسجد بناه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حياته، وإنما دفن حيث قبض في أحد بيوته صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وهي حجرة عائشة رضي الله عنها التي كانت بجوار المسجد وخارجة عنه، يفصل بينهما جدار فيه باب، وإنما دفنه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك المكان عملاً بمقتضى الحديث، وحتى لا يتركوا مجالاً لمن بعدهم أن يتخذ قبره عيدًا ومسجدًا.
• الوجه الثاني: أن توسيع مسجده صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في عهد خلافة عمر بن الخطاب ثمَّ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما لم يُدخِلاَ القبر فيه، وإنما تَمَّ توسيعهما للمسجد من الجهات الأخرى دون تعرُّض للحجرة الشريفة عملاً بمقتضى الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد، وإنما أدخلت الحجرة النبوية في المسجد في أواخر القرن الأول في عهد خلافة الوليد بن عبد الملك الذي أمر بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجُرِ أزواج رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إليه، وذلك سنة ثمان وثمانين من الهجرة (88ﻫ)، كما صرَّح بذلك الطبري(٢٦- «تاريخ الطبري» (5/222-223).) وابن كثير(٢٧- «البداية والنهاية» لابن كثير: (9/74-75).)، وعليه يتجلَّى بوضوح أنَّ إدخال الحجرة الشريفة في المسجد ليس ممَّا أجازه الصحابة رضي الله عنهم، ولا أجمعوا عليه كما يَدَّعي ‑هداه الله‑ إذ لم يكن ‑آنذاك بالمدينة النبوية‑ أحدٌ من الصحابة على قيد الحياة، وكان آخرهم موتًا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سنة ثمان وسبعين (78ﻫ)، ومع ذلك أنكر هذا العمل بعض كبار التابعين كسعيد بن المسيب ‑رحمه الله‑(٢٨- لمصدر السابق: (9/75).).
قال الحافظ محمَّد بن عبد الهادي: «وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتًا جابر بن عبد الله، وتوفي في خلافة عبد الملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وقذ ذكر أبو زيد عمر بن شبَّة النميري في كتاب «أخبار المدينة» مدينة رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن أشياخه عمن حدثوا عنه أنَّ عمر بن عبد العزيز لما كان نائبًا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه»(٢٩- «الصارم المنكي» لابن عبد الهادي: (136-137).)، فأين حصل إجماع الصحابة رضي الله عنهم المزعوم يا ترى؟!
- وقوله ‑هداه الله‑: «والسيدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، ألا يُعدُّ هذا فعل الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
فجوابه: أنَّ حجرة عائشة رضي الله عنها كانت مفصولةً بجدارٍ بينها وبين قبرِ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ويدلُّ عليه ما أخرجه أحمد في «مسنده» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وإني واضعٌ ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلاَّ وأنا مشدودة على ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه»(٣٠- أخرجه أحمد في أخرجه أحمد في «مسنده»: (6/202)، والحاكم في «المستدرك»: (3/63)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/57): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح»، وصححه الألباني في «دفاع عن الحديث النبوي»: (95).).
فالحديث يشير إلى أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تدخل حجرتها بعدما فصلت بجدار عن قبر النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: إذ لا يستقيم في العادة أن تبقى مشدودة على ثيابها فلا تضعه ولو في وقت راحتها. ويؤيِّده ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنَّ مالك بن أنس قال: «قُسم بين عائشة باثنين: قسم كان فيه القبرُ، وقسم كان تكون فيه عائشة، وبينهما حائط، فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فُضُلاً، فلما دُفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها»(٣١- «الطبقات الكبرى» لابن سعد: (1/553).).
• الوجه الثالث:
والذين أدخلوا القبر النبوي في المسجد مع اعترافهم بمخالفة الهدي الصريح في النهي عن بناء المساجد على القبور ومخالفة سنة الخلفاء الراشدين المهديين وسيرة الصحابة الكرام لذلك حاولوا تقليل المخالفة ما وسعهم بالمبالغة في الاحتياط درءًا للفتنة وصيانة لجناب التوحيد لئلاَّ يتخذ قبره عيدًا ووثنًا يعبد.
قال ابن رجب ‑رحمه الله‑: «قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سدِّ الذريعة في قبر النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ثمَّ خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلةً إذا كان مستقبل المصلين، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره»(٣٢- «فتح الباري» لابن رجب: (3/217).).
فهذا الاحتياط المبالغ فيه حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه إنما هو استجابة دعائه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»(٣٣- أخرجه أحمد في «مسنده»: (7352)، وأبو يعلى في « مسنده»: (1/312)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده الألباني في «تحذير الساجد»: (22))، فحماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية ‑رحمه الله‑: «ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك ‑كما تقدم‑ بنوا عليها حائطًا وسنموه وحرفوه لئلاَّ يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وفي موطأ مالك عنه أنه قال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمِ مَسَاجِدَ»، وقد استجاب الله دعوته فلم يُتخذ ‑ولله الحمد‑ وثنًا كما اتخذ قبر غيره، بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة، وقبل ذلك ما كانوا يمكِّنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك ممَّا يفعل عند قبر غيره، لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنما يفعل خارجًا عن حجرته لا عند قبره، وإلا فهو ‑ولله الحمد‑ استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلاَّ لأجلها، ولم تكن تمكِّن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئًا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسدَّ بابها وبني عليها حائط آخر، كلُّ ذلك صيانة له صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنًا، وإلاَّ فالمعلوم أنَّ أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم مُعظِّمون للرسول صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلاَّ يتخذ وثنًا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدًا، ولئلاَّ يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم»(٣٤- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (27/237-328).).
وفي هذا السياق نختم بقول ابن القيم ‑في نونيته‑ وهو من أشد الناس إنكارًا على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية ‑رحمهم الله تعالى‑ قال:
وَلَقَدْ نَهَانَا أَنْ نُصَيِّرَ قَبْرَهُ
وَدَعَا بِأَنْ لاَ يُجْعَلَ القَبْرُ الَّذِي
فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءَهُ
حَتَّى اغْتَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ
وَلَقَدْ غَدَا عِنْدَ الوَفَاةِ مُصَرِّحًا
وَعَنَى الأُلَى جَعَلُوا القُبُورَ مَسَاجِدًا
وَاللهِ لَوْلاَ ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ
قَصَدُوا إِلَى تَسْنِيمِ حُجْرَتِهِ ليمـ
قَصَدُوا مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَقَصْدُهُ
عِيدًا حَذَارِ الشِّرْكَ بِالرَّحْمَنِ
قَدْ ضَمَّهُ وَثَنًا مِنَ الأَوْثَانِ
وَأَحَاطَهُ بِثَلاَثَةِ الجُدْرَانِ
فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ
بِاللَّعْنِ يَصْرُخُ فِيهِمْ بِأَذَانِ
وَهُمُ اليَهُودُ وَعَابِدُوا الصُّلْبَانِ
لَكِنْ حَجَبُوهُ بِالحِيطَانِ
ـتنع السُّجُودُ لَهُ عَلَى الأَذْقَانِ
التَّجْرِيدُ لِلتَّوْحِيدِ لِلرَّحْمَنِ(٣٥- «الكافية الشافية» لابن القيم: (2/352-354).)
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى