- ماما هنامشرفة عامة القسم الدينى و الأسرة
- عدد المساهمات : 9179
نقاط : 49029
تاريخ التسجيل : 21/04/2011
الوحدانية والتوحيد
الجمعة 17 أغسطس 2012, 09:18
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أ- التفريق بين الوحدانية والتوحيد من حيث اللغة:
ويُقال: وَحَّده توحيدًا، أي: جعله واحدًا أو
عَدَّه واحدًا. والواحد: مشترك لفظي يطلق على الله تعالى، مع ملاحظة الفارق
بين الوَحدة في الحالين، فالوَحدة في جانب الخلق جميعًا عارضة تقبل
التحول، بل قد تكون ادّعائية، كقولهم: فلان واحد دهره، أو نسيج وحده.
ولفظ أحد مشترك لفظي كذلك، لكنه إذا وقع وصفًا
فلا يكون إلا لله تعالى؛ لأنه أكمل من الواحد كما قال أبو حاتم. انظر
(الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي: النوع الأربعون: في معرفة الأدوات التي
يحتاج إليها المفسر جزء 1 ص 146وأَحَد: أرقى دلالة على معنى الوَحدة، أما
الفرق بين الوحدانية والتوحيد فهو أن الوحدانية صفة ذاتية لله، والتوحيد
إيمان المكلف واعتقاده أن الله متصف بذلك.
الوحدانية أما التوحيد شرعًا: فهو الإيمان الجازم
بتفرد الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، ونفي الشركاء عنه سبحانه
اعتقادًا وعملًا، على الوجه الذي جاء به الوحي الإلهي، على ألسنة الرسل
-عليهم السلام.
ب- موقف القرآن من الوحدانية والتوحيد:
جـ- سرّ اهتمام القرآن البالغ بالوحدانية والتوحيد:
د- جوامع ألفاظ الوحدانية والتوحيد:
منها ثمان وعشرون مرة وصفًا لله تعالى، وتقريرًا
لوحدانيته. مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163). ومثل قوله تعالى:
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر: 45).
ومن العجيب أن لفظة أحد جاءت مرة واحدة وصفًا لله
تعالى، وهو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وكأن هذا
نوع من التأكيد لوحدانية الله تعالى، من حيث اللفظ والمعنى والعدد
جميعًاوقد ورد لفظ أحد بصيغ أخرى غير الوصف، تتعلق بالله تعالى بوجهٍ ما.
مثل: رد الأحدية إليه عن طريق الاستثناء. قال تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ
أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب: 39). ومثل نفي الشركاء مطلقًا قال
تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27).
هـ- الوحدانية أصل الأصول جميعًا:
هو أيضًا واحد في أسمائه لا يشاركه فيها أحد،
والواحد من هذه الأسماء الحسنى، جاء ذلك في حديث أبي هريرة، الذي رواه
الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد عُني الوحي الإلهي أبلغ العناية
ببيان تقرير كل ما يتعلق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وجعل ذلك رأس
الإيمان ولبَّ الاعتقاد خاصة: صفة الوحدانية؛ باعتبارها الصفة الجامعة لكل
كمال يليق بالله تعالى.
التوحيد أساس دعوة جميع الرسل -عليهم السلام-
ولقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى وأكده بطريقين:
وقال تعالى في هذا المعنى أيضًا: {وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36). هذه الآية تقرر أن الله تعالى قد
بعث في كل أمة رسولًا، وكان أول دعوة كل رسول في كل أمة: أن اعبدوا الله
ولا تشركوا به الطواغيت، والطواغيت: كل ما يعبد من دون الله تعالى، وهو
مشتق من الطغيان.
- ماما هنامشرفة عامة القسم الدينى و الأسرة
- عدد المساهمات : 9179
نقاط : 49029
تاريخ التسجيل : 21/04/2011
رد: الوحدانية والتوحيد
الجمعة 17 أغسطس 2012, 09:21
: الطريق التفصيلي في استدلال القرآن على توحيد الله سبحانه وتعالى: هذا الطريق يذكر فيه القرآن الرسل بأسمائهم، وكيف كان التوحيد رأس دعوتهم جميعًا؛ ومن ذلك:
1 - ما جاء في قصة نوح -عليه السلام- وهو أول
رسول من أولي العزم بُعث إلى أهل الأرض. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59).
2 - قال تعالى عن هود -عليه السلام: {وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65).
3 - ونفس الألفاظ قال تعالى عن صالح -عليه
السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73).
4 - وهي الألفاظ التي جاءت على لسان شعيب -عليه
السلام. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْم
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85).
5 - أما إبراهيم -عليه السلام- فقد تحدَّث القرآن
بتفصيل وافر عن دعوته إلى النبوة، وتحدث القرآن عن دعوة إبراهيم بشتى
الصيغ والأساليب، في المواقف المتعددة والأحوال المختلفة، ولعل السر في
توسيع حديث القرآن عن إبراهيم -عليه السلام- أنه أبو الأنبياء الذين جاءوا
بعده -صلى الله عليه وسلم- وعلى الرسل أجمعين.
وكان اليهود والنصارى والعرب يعترفون بنبوته
وأبوته لهم، بل ويعتزون بالانتساب إلى إبراهيم -عليه السلام، ومن هنا توسع
القرآن في الحديث عن إسلامه ودعوته البليغة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعن
محاوراته المفحمة للمشركين، وموقفه العملي الصارم من الأصنام، سخرية منها،
وتحطيمًا لها، وتبكيتًا لعُبَّادها. وبذلك تقوم الحجة على المنتسبين إليه
من اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين انحرفوا عن دين الحق، ووقفوا في
دروب من الوثنية الطامسة الدامسة، وبذلك تسقط دعواهم أنهم على دين إبراهيم،
كما قال تعالى ردًّا عليهم مجتمعين: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67).
ويقول تعالى عنه وعن المؤمنين معه: {قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4).
وكذلك يقول القرآن عن موسى -عليه السلام- وهو
يدعو إلى وحدانية الله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى *
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 13،
14).
وكذلك يخبر القرآن عن عيسى -عليه السلام:
{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ} (المائدة: 72).
ويخبر القرآن عن دعوة سيدنا محمد -صلى الله عليه
وسلم- إلى التوحيد. لقد بُعث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة
العالمية الشاملة، وبالتقرير الأوفى، وبالبيان الأعلى في شأن الدين كله
عامة، والتوحيد منه خاصة. وقد أمده القرآن الكريم بأتمّ الحجج والبراهين،
وسجل أقاويل الكفار وردود الوحي عليها؛ حتى تكون حجة الله بالغة باهرة إلى
يوم الدين، وحتى لا تكون للناس على الله حجة بعد ختم النبوة؛ لأن القرآن
صوتها الممدود ونداؤها الموصول، وفيه أكمل حديث عن التوحيد تقريرًا
وإثباتًا، وردًّا على المشركين والملحدين، وإبطالًا للشرك وكل دروب الوثنية
والانحراف عن التوحيد.
ويكفي مثالًا لهذا ما أمره الله تعالى أن يقول
للناس في كلمات جامعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ *
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
(الإخلاص: 1 - 4). فهذه السورة الكريمة على وجازتها جامعة لكل ما يليق
بالله تعالى وحده؛ من صفات الكمال: أحدية، استغناء، تنزيه له عن الشركاء
والأشباه، ثم هي مصححة لضلالات المشركين وأهل الكتاب في باب الاعتقاد.
إن الآية الأولى تثبت الوحدانية لله تعالى على
أبلغ الوجوه؛ لأن لفظ أحد أكمل من الواحد، ولذلك لا يوصف به إلا الله
تعالى. والآية الثانية بيان لأسباب أحديته؛ إذ إنه هو وحده السيد الكامل في
جميع صفاته وأفعاله، وهو المقصود في جميع الحوائج، وهو الغني عن كل شيء،
بل كل شيء محتاج إليه. والآيتان الثالثة والرابعة تقرير لهذه الأسباب
أيضًا؛ لأنه سبحانه متفرد عن الأصول والفروع، وما يلزمها من الصاحبة أُمًّا
أو زوجة، وكذلك هو متفرد عن الشبيه والمماثل، وإن لم يكن أصلًا أو فرعًا.
انظر تفسير سورة الإخلاص في تفسير البيضاوي والخازن وأبي السعود.
الربوبية والألوهية وصلتهما بالتوحيد
لقد تحدث القرآن الكريم طويلًا عن الربوبية
والألوهية، وأبطل كل ادعاء لأحدهما من دون الله، وأثبت أنه لا رب ولا إله
بحق إلا الله، وأوجب سبحانه على عباده أن يفردوه بهما معًا في التوحيد.
والرب شرعًا يطلق على معان، أجمعها:
1 - المربي الذي تعهَّد خلقه بالتنشئة والتربية
وقضاء الحاجات على معنى أنه هو المتصف بكل صفات التأثير، مِن خلق، رزق،
مُلك، إحياء، إماتة، تدبير، هداية ... إلى آخره.
2 - من معاني الربوبية: السيد المطاع النافذ الحكم.
أما الإله فيطلق على معانٍ، أجمعها:
1 - المعبود الذي يستحقّ وحده أقصى غايات التذلل
والخضوع، مِن صلاة، ذكر، حب، خوف، توكل، دعاء، نذر، وقسم به سبحانه وتعالى
... إلى آخره.
2 - من معاني الإله: المستعلي على عباده، الخليق بالطاعة فيما أمر ونهى.
وصف الألوهية
:
وصف الألوهية والربوبية لله وصفان لا يفترقان، ومن هنا يتضح التلازم التام
بين الربوبية والألوهية، وأنهما لا ينفصلان من حيث الحقيقة الشرعية، ومن
حيث الوجود الواقعي؛ لما يأتي:
أولًا: لأنهما وصفان لذات واحدة، لا يوجدان في غيرهما، ولا يجتمعان في سواها، ولا يتحققان بمعناهما الصحيح إلا لله الواحد الأحد.
ثانيًا: لأنهما يجتمعان في معنًى مشترك بينهما،
وهو المعنى رقم 2 من كل منهما، وإن اختص كل منهما بمعنى خاص به، كما رأينا
في المعنى رقم 1.
الوحدانية والتوحيد، مجموع الأمرين: مجموع
الألوهية والربوبية، ومن هنا يتضح أيضًا أن الوحدانية تعني اتصاف الله
تعالى بالربوبية والألوهية جميعًا، والتوحيد يعني وجوب إفراده سبحانه
وتعالى بالأمرين جميعًا، فلا يقال: توحيد الربوبية هو كذا، ولا يقال: توحيد
الألوهية هو كذا؛ لأن التوحيد لا يقبل التجزئة أصلًا، حتى يقوم به أحد
الجزأين مقام الآخر في الإطلاق.
لذلك لا يصح أن يقال: التوحيد المضاف لأحد
الوصفين يقوم مقام الحقيقة الجامعة، ولا يصح أن يقال: هذا من باب المجاز؛
لأن المجاز لا يصار إليه في حقائق الاعتقاد.
أما من حيث الحقيقة الشرعية فالتوحيد: هو أن يؤمن
العبد بأن الله تعالى هووحده الرب، صاحب كل صفات التأثير والكمال، وأنه
لذلك هو وحده الإله المستحقّ للعبادة والطاعة بلا شريك، فإذا أقر العبد
بأحدهما فقط لم يكن موحدًا، وإنما يقال: هو مقر أو معترف بأحدهما، ولكن لا
يصح أن يسمى موحدًا؛ لأن التوحيد هو مجموع الأمرين معًا.
ولهذا لم يُطلق القرآن على الكفار أنهم موحدون
توحيد الربوبية، حين أقروا أن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق، وإنما
سماهم كفارًا مشركين. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يونس: 31). ثم يقول تعالى
بعد هذه الآية: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يونس: 33، 34).
لقد سماهم القرآن كفارًا مشركين؛ لأنهم لم يأتوا
بحقيقة التوحيد الجامعة، وإنما أقروا بوصف منها، والتوحيد لا يقبل التجزئة
أصلًا، فمن أشرك في وصف فقد أشرك في الكل؛ لأنه لم يأت بحقيقة مسمى التوحيد
الشرعي الجامعة، ولذلك يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48).
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
- ماما هنامشرفة عامة القسم الدينى و الأسرة
- عدد المساهمات : 9179
نقاط : 49029
تاريخ التسجيل : 21/04/2011
رد: الوحدانية والتوحيد
الجمعة 17 أغسطس 2012, 09:22
(أوجه استعمال الربوبية والألوهية في القرآن، وشمولية عقيدة التوحيد)
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
استعمالات الوصفين: الربوبية والألوهية في القرآن الكريم.
أ- القرآن الكريم يورد هذين الوصفين على أربعة وجوه:
الوجه الأول
:
استعمال اللفظ في معناه الخاص به فقط. مثال الربوبية قول الله تعالى:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) فالخلق من أخص معاني
الربوبية، لذلك وقع صلة للموصول الذي وُصف به الربّ تحديدًا للمعنى المراد
بالرب هنا.
مثال الألوهية قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 14) فالإله هنا بمعنى المعبود، والمعنى: لا معبود
بحق سواي، فخصني أيها العبد بالعبادة.
الوجه الثاني
:
استعمال كل لفظ منهما في معناه الخاص به مع جمعهما في مكان واحد. قال
تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30) أي: هو ربي خالقي ومالكي ورازقي ... إلى
آخره. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: هو المعبود الذي لا معبود سواه. فكل
لفظ أفاد معناه الخاص به، وجمع بينهما لبيان حقيقة التوحيد الجامعة
للمعنيين جميعًا، لذلك جاءت آيات أخرى تبين المعنى المقصود عقب كل لفظ
منهما.
مثل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (غافر:
62) فالخلق متصل بمعنى الرب، واستنكار الانصراف عن عبادته متصل بمعنى
الإله الحق.
وقد جاء المعنيان صراحة في قوله تعالى: {ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) إذ الخلق عائد إلى معنى الرب، والأمر
بالعبادة عائد إلى معنى الإله، على الترتيب الواقع في صدر الآية الكريمة.
الوجه الثالث
: استعمال اللفظين في المعنى المشترك بينهما هو السيد المطاع. ومثال ذلك:
1 - قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) وهو
من النوع المعروف في البديع باللف والنشر المرتب.
فسياق الآيات يدل على أن المراد بالرب هنا السيد
المطاع في أمره ونهيه، المفهوم من قوله تعالى قبلها: {قُلْ إِنَّنِي
هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (الأنعام: 161).
مثال آخر قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (التوبة: 31) وربوبية الأحبار والرهبان هنا بمعنى
طاعتهم طاعة مقدسة في أمور الحلال والحرام، ومعنى عبادة الإله الواحد في
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي:
ليطيعوا سيدًا واحدًا لهم؛ لأن المقام عن الطاعة في التشريع.
كما جاء في حديث عدي بن حاتم أنه دخل على النبي
-صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ هذه الآية، وكان عدي قد تنصَّر في الجاهلية
فقال: ((إنهم لم يعبدوهم))، أي: ظن عدي أن العبادة المذكورة في هذه الآية
هي العبادة المخصوصة لهم كالصلاة لهم أو دعائهم، فبيّن له النبي -صلى الله
عليه وسلم- نوع العبادة المقصودة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:
((بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم
إياهم)) رواه الترمذي والطبراني وغيرهما.
الوجه الرابع: استعمال كل لفظ مكان الآخر، أي:
هناك تلازم بين الربوبية والألوهية، فإذا ذُكر أحدهما دل على الآخر،
باعتبارهما وصفين متفردين لذات واحدة، ولا يليق أحدهما إلا بالله، فإذا
ذُكر الرب فُهم منه أنه المستحق للعبادة والطاعة وحده، وإذا ذكر الإله فُهم
منه أنه الخالق الرازق المالك؛ لأنه لا يكون إلهًا حقًّا إلا بهذه الصفات.
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 60) فالسؤال في أول
الآية وقع عن أشياء تتصل بالخلق والرزق والقدرة والتدبير، وغيرها من صفات
التأثير التي هي معنى لفظ الرب، فكان المقام يقتضي سؤالهم في آخر الآية عن
ذلك، فيقال: أَرَبّ مع الله؟ لكن وقع السؤال بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ
اللَّهِ} لأن اللفظين متلازمان، لا فرق بينهما من حيث الواقع.
وإن كان استعمال كلمة إله هنا قد جاء لحكمة
عظيمة، لأنه سألهم عن محل النزاع مباشرة، والمعنى أربّ يخلق ويرزق مع الله
فيستحق التأليه معه. ولما كان الخلق والرزق والتدبير ليس محل نزاع كثير،
وإنما النزاع في عبادة غير الله، لذلك عاجلهم باستنكار اتخاذ آلهة مع الله
تعالى.
والمثال الثاني: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (المائدة: 117) والمقام يقتضي أن يقول: اعبدوا الله
إلهي وإلهكم، لكن استعمل كلمة الرب مكان الإله للتلازم التام بين الكلمتين.
والحكمة هنا -والله أعلم- أن ذكر الرب فيه تصريح بعلة العبادة، وهو ما
يتضمنه لفظ الرب من معاني الخلق والرزق ... إلى آخره، والمعنى: اعبدوا الله
الذي خلقكم ورزقكم وتولاكم في سائر أموركم.
ب- التوحيد عقيدة شاملة:
إن التوحيد الذي أمرنا الله تعالى به إنما هو
عقيدة شاملة، تستوجب يقين القلب وإسلام الوجه لله تعالى قولًا وعملًا،
وإفراده -سبحانه وتعالى- وحده بالعبادة، كالصلاة والدعاء والنذر والطواف
والذكر، والطاعة في شئون الحياة، أي: في تشريعات الحلال والحرام، فالتوحيد
ليس كقضية كلامية أو جدلية، وإنما هو التزام شامل بدين الله تعالى في كل
نواحي الحياة الإنسانية.
لذلك قص الله علينا في القرآن الكريم كيف جعل
الرسل جميعًا على رأس دعوتهم: اجتناب الطواغيت، التي تُعبد من دون الله،
خاصة في أمر الشرائع والأحكام. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
(النحل: 36).
ولذلك جعل الرسل جميعًا مدخلهم إلى تغيير حياة
أهل الجاهليات هو التوحيد؛ لأن التوحيد يعني ردّ الحكم والتشريع إلى الله
تعالى في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، فإذا فعل الناس ذلك سهل
تغيير ما هم عليه من فساد وضلال.
يقول تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {قَالَ
يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا
تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} (هود: 84) فالآية الكريمة ترتب على
التوحيد وجوب الالتزام بشريعة الله في التجارة والتصرفات المالية.
ويقول صالح -عليه السلام- لقومه: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 152) فقد رتب
النهي عن طاعة أوامر الزعماء الضالين على تقوى الله، وطاعة الشرع الذي
جاءهم به -عليه السلام- من عند الله.
ويقول تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام: 151).
فقد جعلت الآية الكريمة التوحيد رأس الأمر فيما بعده من الأوامر والنواهي،
فتقرر إذن اختصاص الله تعالى وحده بالطاعة في التشريع، كما اختص بالعبادة
وحده، وهذا هو معنى التوحيد في شموله وسعة مدلوله.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- بعد
كلام طويل عن سورة البقرة: "الخطوة الأولى: تقرير وحدة الخالق المعبود.
الخطوة الثانية: تقرير وحدة الأمر المطاع، وهي ركن من عقيدة التوحيد في
الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن،
الذي بيده الخلق والرزق، كذلك مِن أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في
سائر تصرفاتك، بل لا تعتقد ألا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي،
والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامًا أو حرم
حلالًا فقد كفر". انظر (النبأ العظيم) ص 217.
- ماما هنامشرفة عامة القسم الدينى و الأسرة
- عدد المساهمات : 9179
نقاط : 49029
تاريخ التسجيل : 21/04/2011
رد: الوحدانية والتوحيد
الجمعة 17 أغسطس 2012, 09:26
أساليب القرآن الكريم في الحديث عن الوحدانية والتوحيد
جاءت أساليب القرآن في هذا الباب على غاية التفنن
والإبداع، تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا
لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ومن ذلك:
أولًا: أسلوب الخبر المجرد بيانًا للحق وإعلامًا
للخلق، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة:
2) وكما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163).
ثانيًا: أسلوب الخبر المؤكد، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:
أولًا: التأكيد بإن.
ثانيًا: التأكيد باللام.
ثالثًا: التأكيد بالقسم.
ومثالها جميعًا قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا * الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * التَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ
إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصافات: 1 - 5).
رابعًا: التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي
والاستثناء في قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وأسلوب
القصر بإنما: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19).
وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير. مثل قوله تعالى:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فتقديم المفعول إياك أفاد قصر العبادة
على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك.
وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة:
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
(الشورى: 10) فتعريف الخبر ربي أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية
مقصورة على الله تعالى.
كذلك أيضًا أسلوب الطلب كالاستفهام التقريري أو
الإنكاري. قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ} (النمل: 63). ومن هذا النوع الطلبي فعل الأمر. مثل قوله
تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإن نظرت إلى أول الجملة
كانت إنشائية طلبية لصدارة فعل الأمر قل، وإن نظرت إلى مضمون الجملة أو
مقول القول كانت خبرية، وفي الحالين هي إثبات للوحدانية، وأمر بالتوحيد على
أبلغ الوجوه وأوفاها. ولذلك كانت السورة المُصدَّرة بهذه الآية الكريمة
تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح.
كذلك أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن
الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة
ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان. ومن ذلك
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ
لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 - 43).
فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة
غير الله، صورهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها
الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن
أهله شيئًا.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحد في
راحته وسلامته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مملوك يسومه سادته
لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مملوك لمالك واحد لطيف لا يشق عليه بكثرة
الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب.
كذلك استخدم القرآن أيضًا أسلوب المحاورة، وهو
الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد، من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر،
فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42).
فالآيات الكريمة لم تأت على طريق الخبر المجرد،
وإنما جاءت على سبيل المناقشة بين طرفين، وهي تورد حوارًا بين إبراهيم
-عليه السلام- وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لِم تعبد آلهة صماء
عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن
صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل. كذلك
أيضًا أسلوب القصة، وهو أسلوب من أوسع أساليب القرآن في التوحيد وغيره، وقد
عُني القرآن بهذا الأسلوب وأكثرَ منه؛ لما في القصة من تأثير في النفوس،
وسهولة في الحفظ، وانتشار وذيوع بين الناس.
وأوضح مثال لذلك قصة إبراهيم -عليه السلام- مع
قومه وأصنامهم وتحطيمه لها، وتقريره للتوحيد من خلال المشاهد المتتابعة،
التي جرت بينه وبين قومه، كما قصَّ الله علينا ذلك في عديد من سور القرآن،
كالشعراء والصافات والأنبياء، ومنها أنه بعد أن حطم الأصنام سألوه عليه
السلام، فسخر منهم وأحالهم إلى الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم يتلاومون.
ثم كان ما قصه القرآن الكريم: {ثُمَّ نُكِسُوا
عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا
يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 65 - 67).
وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب وأقواه، ونفي
للشرك على أتم وجه وأوفاه، فضلًا عما فيه من تحقير للأصنام، وسخرية بالغة
بعُبّادها الذين ألغوا عقولهم، وخروا عليها صمًّا وعميانًا.
- ماما هنامشرفة عامة القسم الدينى و الأسرة
- عدد المساهمات : 9179
نقاط : 49029
تاريخ التسجيل : 21/04/2011
رد: الوحدانية والتوحيد
الجمعة 17 أغسطس 2012, 09:28
الاستدلال القرآني على توحيد الله -سبحانه وتعالى-
أولًا: اهتمام القرآن بإقامة الدليل:
والدليل هو ما يُتوصل به إلى معرفة صحة الشيء
وصدقه، أو إثبات هذه الصحة بطريق من طرق الإثبات، ولقد جاء القرآن الكريم
يقرر مبادئ وتعاليم، ويقيم عليها دلائل صدقها وصحتها، ويحثّ الناس على طلب
الدليل وفهم البراهين. وقد استوعب القرآن الكريم الاستدلال على صحة عقيدة
الوحدانية، وأنها الحق المبين، وأن كل شريك أو معبود مع الله هو كذب
وافتراء، بل كلها أصنام وأوهام لا حق فيها، بل لا حقيقة لها في باب
الألوهية.
كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ
وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى
الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 19 -
23).
والمعنى أن هذه التي تسمونها آلهة ليس لها من
حقيقة الألوهية أدنى نصيب، وإنما هي أسماء على غير حقائق، كالغول والعنقاء
وغيرهما من الأشياء المتوهمة.
ولذلك يقول القرآن الكريم متحديًا المشركين:
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ
فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} (الرعد: 33). والمعنى أن
الله تعالى رقيب وعليم بكل شيء، وقد جعل له المشركون شركاء لا حقيقة لهم،
وإنما عبدوها بظنون من القول وأوهام من الفكر باطلة.
ويقول تعالى منددًا بالمشركين، الذين يعبدون
الأوهام المطلقة، تحت هذه الأسماء المخترعة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18).
لذلك لم يترك القرآن الكريم دليلًا يصلح لخطاب
البشر إلا أورده على أتم الوجوه، حتى لا نقول: إنه لم يسق الدليل على صحة
الوحدانية أو وجوب التوحيد فقط، وإنما أوجب على الناس أن يتدبروا هذه
الأدلة، وأن يفهموها ويحصلوها ولو إجمالًا، حتى يكونوا على بينة في أعظم
حقائق الوجود، وحتى يكون إيمانهم على غاية الاستقرار، ولذلك نَوّع الأدلة
في هذا تنويعًا عجيبًا، حتى تُناسب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم
وعصورهم.
أنواع الأدلة القرآنية على توحيد الله:
النوع الأول
:
الأدلة الحسية أو الكونية: وهذا النوع الذي يستخدم فيه القرآن الكريم
الكائنات؛ للدليل على وجود الله تعالى ووحدانيته، وسعة قدرته وعظيم حكمته،
والقرآن الكريم يتخذ كل شيء في الكون دليلًا لذلك، خاصة وجود الكون من
العدم، وانتظامه على قوانين مطردة، ونواميس محكمة، وقيامه على غاية
التدبير، والتكامل بين أجزائه، والعناية بما فيه من عجائب الأشياء
والأحياء.
وفي كل هذا يتجه القرآن الكريم إلى الإنسان،
مخاطبًا قلبه وفكره، ومطالبًا أن يتأمل بحسه هذه الموجودات؛ لينتقل من
ملاحظاتها في أوضاعها المختلفة إلى ما وراءها، وليدرك من هذه المقدمات
الحسية البدهية نتائجها القاطعة، فيعلم أن لهذا الكون ربًّا موحدًا وإلهًا
واحدًا، مطلق القدرة والإرادة، واسع العلم والحكمة، متفردًا باستحقاق
العبادة والطاعة.
وبذلك يدور الدليل بين السمع والبصر، والفكر والنظر، والمقدمات البدهية القريبة والنتائج السهلة المسلَّمة.
هذا النوع على سهولته ويسره هو أقوى أنواع
الأدلة، وأقربها إلى القلوب والنفوس، وأعظمها في التأثير والإقناع؛ لدلالته
على المطلوب ذاته ومن أقصر سبيل، بخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين، التي
تدل على المطلوب دلالة ناقصة، وتحتاج مقدماتها إلى برهنة واستدلال في
الغالب، بل قد تحتاج النتائج نفسها إلى دليل آخر خارج عنها، مما يُعَقِّد
الاستدلال لطول مقدماته، وكثرة وسائطه، وصعوبة طرقه على أكثر الناس.
وذلك كاستدلالهم بحدوث العالم على أن له محدثًا،
ويستدلون على حدوث العالم بتقسيمه إلى جواهر وأعراض، ثم يثبتون حدوث كل
منها بمقدمات طويلة، وكل هذا ينتهي إلى أن للعالم محدثًا. هذه النتيجة
ناقصة؛ لأنها لم توصلنا إلى من هو المحدث، وهذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته
خارجًا عن نطاق عقولهم، ودروب منطقهم، ولكن القرآن العظيم يطوي هذا
الشتات، ويضع الإنسان أمام حقائق الكون مباشرة؛ ليوقن بنفسه أن الذي أبدع
هذا الكون ونظمه إله واحد، هو الله رب العالمين، الذي صدَّق المرسلين فيما
يبلغوه عنه جل شأنه، ولذلك يحث سبحانه وتعالى عباده على النظر في الكون
جملة.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الأعراف:
185). وأيضًا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ *
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا
بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ} (ق: 6 - 10).
الآيات في هذا النوع كثيرة جدًّا، ومن أراد
المزيد فليقرأ عجائب الاستدلال القرآني في سورة: الرحمن، والواقعة،
والمرسلات، والنبأ، والنازعات، وعبس، والغاشية، والشمس، وغير ذلك في القرآن
المجيد.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى