- حمدي عبد الجليلالمشرف العام
- عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28469
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
فتح المدائن ..
الأحد 29 يناير 2012, 21:43
فتح المدائن
القصر
الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم
يشتركوا في القتال، يعز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه،
هذا القصر الأبيض قد ذكرنا من قبل أن ارتفاع سوره من 28 إلى 29 مترًا،
والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 مترًا × 43 مترًا. والمبنى
كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا
بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله
ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأمينًا للقصر. حاصر المسلمون
القصر حصارًا بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره،
لكن بداخله بعض الفرس، فيذهب إليهم سلمان الفارسي، ويقول لهم: أنا منكم،
اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما
علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. ويعطيهم مهلةً ثلاثة أيام كما
علَّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
وفي اليوم الثالث يخرج هؤلاء الفرس، ويقبلون دفع الجزية للمسلمين؛ فيدخل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه بعد
فتح القصر، ويتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم
يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى
منذ فترة يدعونه إلى الإسلام، وقام سيدنا سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله
القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا
تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من
صفر سنة 16 هجرية، وكان المسلمون قد أَذَّنُوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه
أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ
مَقْدِم سيدنا خالد بن الوليد سنة 12 هجرية حتى هذه اللحظة لم يصلوا
الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائمًا الظهر قصرًا، أي جمع الظهر مع العصر،
والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائمًا على سفر، ولكن سيدنا سعد بن أبي
وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيمًا، وأن المدائن هي البلد التي
سيتخذها المسلمون مقامًا بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ
مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل: المدينة المنورة ومكة
المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى
الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.
كانت
هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر، ثم بدأ سيدنا سعد بن أبي
وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدًّا على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس
لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فيأمر سيدنا
سعد بن أبي وقاص على إحضار هذه الغنائم سيدنا عمرو بن عمرو بن مقرن المزني
رضى الله عنه -وهو ابن أحد الإخوة العشرة الذين
اشتركوا في حروب فارس وذُكِرُوا فيها كثيرًا- كما أطلق سيدنا زهرة بن
الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض
عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم
يكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها،
وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ
عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.
من غرائب شأن يزدجرد!!
لقد
أخذ معه ألف طباخ، وألف مطرب، وألف مدرب حيوانات، ويعتقد في قرارة نفسه
أنه خَفَّف الحِمْلَ في السير؛ حتى لا يثقل بمن معه، فأخذ معه ألفًا فقط من
كل طائفة، فانظر إلى مدى الترف الذي يحياه كسرى فارس.
ولكن ماذا عن الفلاحين الموجودين في بلاد فارس؟
لقد
عانى هؤلاء الفلاحون كثيرًا من الظلم والجبروت الفارسي الذي أرهقهم
بالضرائب الكثيرة وغيرها، وعندما جاء المسلمون فاتحين لبلادهم دخلوا في دين
الإسلام بعد أن أدركوا البون الشاسع في المعاملة بين المسلمين والفرس، أو
قبلوا دفع الضرائب الإسلامية أو الجزية الإسلامية -التي كانت أقل كثيرًا من
الضرائب الفارسية- عن رضًا ورغبة؛ فهم قد استمتعوا بهذه الجزية؛ لأنهم في
مقابلها تمتعوا بميزات كثيرة، فهم لا يشتركون في جيش المسلمين ليحاربوا،
وعلى المسلمين حمايتهم ضد أي اعتداء، ومن لم يستطع دفع الجزية سقطت عنه،
وليس هذا فحسب بل قد يكفله المسلمون من بيت مالهم، ويُعفَى منها أيضًا
العجائزُ والنساءُ والصبيانُ، وهذه هي سماحة الإسلام وعدله
د. راغب السرجاني
بين فتح المدائن وغزوة الخندقذكرنا أنه بعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص
بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب، وهو نوع
من الأسلحة الثقيلة يشبه الدبابات في عصرنا؛ فالمنجنيق جهاز ضخم جدًّا مثل
المقلاع يلقي بالأحجار الضخمة داخل الحصون)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق،
ووضعوها جنبًا إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة
الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه
الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير. صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن
بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون
في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم
يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة،
وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق
دجلة.
وهذا -بلا شك- لأنهم
لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه
البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامى لن تقف عند
دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى
يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها. وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض،
فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟! فبدأ المسلمون يستكملون الضرب
بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من
مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسفانبر، وتركوا المدينة
خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى
خرج لهم أحد الفرس طالبًا الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة
أصبحت خالية. وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛
فوجدوها -فعلاً- خالية وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد،
كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا
حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمه نفسية شديدة أمام هؤلاء
الأبطال المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعًا إلى منطقه
أسفانبر.
دخل المسلمون
بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر
قرب منتصف الليل، وقد ذكرنا أن جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر
قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ
مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش سيدنا أبي عبيدة بن
الجراح في موقعة اليرموك
حيث كان 38 ألفًا، فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سيدنا سعد بن
أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس،
وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال
الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا
السور تسلقًا ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيًّا واحدًا في المنطقة
بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي،
ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة
أسفانبر، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ
ورسولُه. فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو
بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 مترًا (أي نحو عشرة أدوار في هذا الوقت
من الزمن حين كان العرب كلهم يسكنون في الخيام أو في بيت من دور واحد مبني
من طوب لَبِن، لكن هذا البناء كان ارتفاعه من 28 إلى 29 مترًا)، وقبته
البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق
هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس
حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئًا وسط الجهة الأخرى؛ فصاح
ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله
المسلمين في غزوة الخندق.
ونتذكر يوم الخندق:
وكان
ضرار بن الخطاب هذا -وقتئذٍ- مشركًا، وكان في جيش قريش الذي يحاصر
المدينة، ولكن ضرارًا علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم، ونتذكر جميعًا
ما حدث يومَ الخندقِ، ونسترجع معًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن
وافق على اقتراح سيدنا سلمان الفارسي
بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعًا يحفرون في هذا الخندق حتى
وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان
الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع
تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في تغيير
اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب بنفسه
وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه صلى
الله عليه وسلم ؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج
منها وهج شديد أضاء -كما يقول سلمان الفارسي رضى الله عنه - ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى". وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء".
وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون
يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك
-في هذا الوقت- يبشرهم صلى الله عليه وسلم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم
قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت:
هذا ما وعد اللهُ ورسولُه. ثم يكرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم،
ويقول: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله. سبحان الله! تأتي هذه المقولة
منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو:
"الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر،
الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله
بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم
الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو
كره الكافرون". هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول صلى الله
عليه وسلم أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير
العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله
الحمد فقط؛ ولكن المسلمين -لعذوبة هذه الكلمات- تعوّدوا أن يقولوها في
العيد، وليس هذا هو الأصل.
بدأ
ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشارًا بفتح المدائن،
وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى
الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعبًا
فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس
رعبًا شديدًا، وقد نُصِرَ عز وجل ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبربأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب، وهو نوع
من الأسلحة الثقيلة يشبه الدبابات في عصرنا؛ فالمنجنيق جهاز ضخم جدًّا مثل
المقلاع يلقي بالأحجار الضخمة داخل الحصون)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق،
ووضعوها جنبًا إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة
الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه
الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير. صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن
بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون
في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم
يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة،
وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق
دجلة.
وهذا -بلا شك- لأنهم
لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه
البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامى لن تقف عند
دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى
يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها. وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض،
فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟! فبدأ المسلمون يستكملون الضرب
بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من
مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسفانبر، وتركوا المدينة
خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى
خرج لهم أحد الفرس طالبًا الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة
أصبحت خالية. وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛
فوجدوها -فعلاً- خالية وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد،
كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا
حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمه نفسية شديدة أمام هؤلاء
الأبطال المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعًا إلى منطقه
أسفانبر.
دخل المسلمون
بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر
قرب منتصف الليل، وقد ذكرنا أن جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر
قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ
مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش سيدنا أبي عبيدة بن
الجراح في موقعة اليرموك
حيث كان 38 ألفًا، فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سيدنا سعد بن
أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس،
وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال
الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا
السور تسلقًا ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيًّا واحدًا في المنطقة
بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي،
ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة
أسفانبر، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ
ورسولُه. فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو
بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 مترًا (أي نحو عشرة أدوار في هذا الوقت
من الزمن حين كان العرب كلهم يسكنون في الخيام أو في بيت من دور واحد مبني
من طوب لَبِن، لكن هذا البناء كان ارتفاعه من 28 إلى 29 مترًا)، وقبته
البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق
هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس
حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئًا وسط الجهة الأخرى؛ فصاح
ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله
المسلمين في غزوة الخندق.
ونتذكر يوم الخندق:
وكان
ضرار بن الخطاب هذا -وقتئذٍ- مشركًا، وكان في جيش قريش الذي يحاصر
المدينة، ولكن ضرارًا علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم، ونتذكر جميعًا
ما حدث يومَ الخندقِ، ونسترجع معًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن
وافق على اقتراح سيدنا سلمان الفارسي
بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعًا يحفرون في هذا الخندق حتى
وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان
الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع
تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في تغيير
اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب بنفسه
وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه صلى
الله عليه وسلم ؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج
منها وهج شديد أضاء -كما يقول سلمان الفارسي رضى الله عنه - ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى". وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء".
وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون
يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك
-في هذا الوقت- يبشرهم صلى الله عليه وسلم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم
قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت:
هذا ما وعد اللهُ ورسولُه. ثم يكرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم،
ويقول: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله. سبحان الله! تأتي هذه المقولة
منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو:
"الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر،
الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله
بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم
الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو
كره الكافرون". هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول صلى الله
عليه وسلم أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير
العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله
الحمد فقط؛ ولكن المسلمين -لعذوبة هذه الكلمات- تعوّدوا أن يقولوها في
العيد، وليس هذا هو الأصل.
بدأ
ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشارًا بفتح المدائن،
وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى
الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعبًا
فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس
رعبًا شديدًا، وقد نُصِرَ عز وجل ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
بدأ
الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا
السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو مترًا من المدائن جنوبًا، و170
كيلو مترًا من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية
الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو
الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند
عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أَسْفَانِبْر. فماذا يفعل سيدنا سعد
بن أبي وقاص رضى الله عنه ليعبر بجيشه؟
هذا
العبور كان -تقريبًا- في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة،
ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي
من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سيدنا سعد بن أبي
وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي -وقوامه ستون ألفًا- نهر دجلة من إحدى هذه
المخاضات، لكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على
الجيش الإسلامي؛ لذلك كان مترددًا ترددًا شديدًا في عبور هذا النهر العظيم
بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله عز وجل ونام
ليلة، فرأى رؤيا فيها خيول المسلمين تعبر نهر دجلة، والمياه تضرب في هذه
الخيول (أي أن المياه شديدة والأمواج متلاطمة)، ومع ذلك رأى خيول المسلمين
تعبر هذا النهر، فاستيقظ من النوم فقال: إن هذا ردُّ الاستخارة، وإن هذه
الرؤيا رؤيا خير إن شاء الله. وقرَّر بعدها أن يعبر نهر دجلة بالخيول.
كان
هذا -بلا شك- قرارًا عجيبًا أن يعبر بـ(60) ألفًا بالخيول؛ فالخيول تجيد
السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في
الصحراء، ففي العبور -إذن- مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلٌّ
آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر
سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه العبور،
بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين
لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان
ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع. ويتمكن المسلمون من
عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده
بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن
ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم: "إني
قد قررت أن أعبر بكم هذا النهر، فما زلتم في هذا المكان وهم في المكان
الآخر ومعهم السفن يناوشوكم". يعني: ما دامت السفن معهم سيظلون في هجوم
دائم عليكم في كل وقت ويرجعون، ولكن لو عبرنا لهم فسوف تكسر شوكتهم في
مدينتهم؛ فوافق المسلمون على ذلك، وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة لسيدنا أبي بكر الصديق رضى الله عنه وكان
قد فتح البحرين عبورًا كذلك على الخيول من غير سفينة ولا شيء؛ فقد ذكرنا
أنه عندما ذهب ليفتح البحرين فَرَّ الناس بالسفن، فعبر الخليج العربي إلى
البحرين بالخيول، لكن العلاء كان معه جيش من ألفين، أما سيدنا سعد فمعه
ستون ألفًا.
بدأ الجيش في
العبور -ويعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة
"أَسْفَانِبْر" خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة
أَسفانبر، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في
الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويًّا عنيفًا- وكان
عند سيدنا سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى "الخرساء" وهي أقوى كتائب المسلمين،
وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛
لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على
الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة
سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي.
لم
يرضَ سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛
لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعًا،
وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف
فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر
دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن
يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى
في وقت الفيضان؟!
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي رضى الله عنه البطل
المسلم الذي له في كل موقعة ذِكْرٌ. أَمَرَ سيدنا عاصم كتيبته أن يتخذوا
من أنفسهم 60 فردًا؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة
الـ 60000؛ فخرج له ستون فارسًا من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن
يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم
دجلة رضى الله عنه وأمر الجيش بأن يشرع الرماح،
ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان،
ولكن اضربوهم في العيون. وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد
أمر سيدنا خالد بن الوليد
الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا
منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ
فيها ألف عين للفرس، فأراد سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب
والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد
أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور،
ويترك القتال.
وبالفعل تقدم
ستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفًا واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا
سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟! وبدأ سيدنا عاصم يقتحم دجلة بالخيول،
وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط
الفيضان. هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبدًا، وبدءوا في إنزال قوات
فارسية على خيول أيضًا؛ لتقاتل المسلمين في المياه. فرقٌ كبير جدًّا بين
القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدًّا؛ فهم منتصرون في
موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح
عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم
هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما
هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن
منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى
ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق
الخيول الإسلامية الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعًا، ودخل الفرس
في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع
الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار
الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في
القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين
السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة
المقاتل المسلم. وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه
القوات الفارسية التي على الشاطئ عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛
فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا، وعبر سيدنا عاصم بن عمرو التميمي
والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛
ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسيدنا سعد بن أبي
وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم
المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش
الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج
أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة
أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟!
ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام
انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد
ذلك سيدنا سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم،
وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسيدنا سعد بن أبي وقاص يقول لهم:
اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما
البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر
المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله
ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فهذا دَيْدَنُ
الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن
يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله عز وجل يستشعرون به مساعدة الله عز وجل ونصره لهم.
هروب كسرى فارس:
فيعبر
المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة "أسفانبر"، وقصرها الأبيض قصر
بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا
الموقف الرهيب: موقف ملاقاة المسلمين، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل
القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد) من الباب الخلفي لقصره،
ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن،
وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛
فالمرة الأولى عندما كان صغيرًا، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس
الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته
في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى
أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره
23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
كان سيدنا سعد بن أبي وقاص يعبر هو والجيش مثنى مثنى، وكان الذي يعبر معه سيدنا سلمان الفارسي رضى الله عنه وهذا أمر لا بُدَّ أن نقف كلنا أمامه وقفة مهمة.
وقفة مع سيدنا سلمان الفارسي رضى الله عنه الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا
السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو مترًا من المدائن جنوبًا، و170
كيلو مترًا من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية
الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو
الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند
عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أَسْفَانِبْر. فماذا يفعل سيدنا سعد
بن أبي وقاص رضى الله عنه ليعبر بجيشه؟
هذا
العبور كان -تقريبًا- في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة،
ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي
من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سيدنا سعد بن أبي
وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي -وقوامه ستون ألفًا- نهر دجلة من إحدى هذه
المخاضات، لكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على
الجيش الإسلامي؛ لذلك كان مترددًا ترددًا شديدًا في عبور هذا النهر العظيم
بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله عز وجل ونام
ليلة، فرأى رؤيا فيها خيول المسلمين تعبر نهر دجلة، والمياه تضرب في هذه
الخيول (أي أن المياه شديدة والأمواج متلاطمة)، ومع ذلك رأى خيول المسلمين
تعبر هذا النهر، فاستيقظ من النوم فقال: إن هذا ردُّ الاستخارة، وإن هذه
الرؤيا رؤيا خير إن شاء الله. وقرَّر بعدها أن يعبر نهر دجلة بالخيول.
كان
هذا -بلا شك- قرارًا عجيبًا أن يعبر بـ(60) ألفًا بالخيول؛ فالخيول تجيد
السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في
الصحراء، ففي العبور -إذن- مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلٌّ
آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر
سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه العبور،
بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين
لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان
ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع. ويتمكن المسلمون من
عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده
بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن
ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم: "إني
قد قررت أن أعبر بكم هذا النهر، فما زلتم في هذا المكان وهم في المكان
الآخر ومعهم السفن يناوشوكم". يعني: ما دامت السفن معهم سيظلون في هجوم
دائم عليكم في كل وقت ويرجعون، ولكن لو عبرنا لهم فسوف تكسر شوكتهم في
مدينتهم؛ فوافق المسلمون على ذلك، وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة لسيدنا أبي بكر الصديق رضى الله عنه وكان
قد فتح البحرين عبورًا كذلك على الخيول من غير سفينة ولا شيء؛ فقد ذكرنا
أنه عندما ذهب ليفتح البحرين فَرَّ الناس بالسفن، فعبر الخليج العربي إلى
البحرين بالخيول، لكن العلاء كان معه جيش من ألفين، أما سيدنا سعد فمعه
ستون ألفًا.
بدأ الجيش في
العبور -ويعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة
"أَسْفَانِبْر" خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة
أَسفانبر، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في
الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويًّا عنيفًا- وكان
عند سيدنا سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى "الخرساء" وهي أقوى كتائب المسلمين،
وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛
لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على
الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة
سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي.
لم
يرضَ سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛
لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعًا،
وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف
فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر
دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن
يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى
في وقت الفيضان؟!
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي رضى الله عنه البطل
المسلم الذي له في كل موقعة ذِكْرٌ. أَمَرَ سيدنا عاصم كتيبته أن يتخذوا
من أنفسهم 60 فردًا؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة
الـ 60000؛ فخرج له ستون فارسًا من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن
يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم
دجلة رضى الله عنه وأمر الجيش بأن يشرع الرماح،
ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان،
ولكن اضربوهم في العيون. وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد
أمر سيدنا خالد بن الوليد
الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا
منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ
فيها ألف عين للفرس، فأراد سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب
والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد
أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور،
ويترك القتال.
وبالفعل تقدم
ستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفًا واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا
سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟! وبدأ سيدنا عاصم يقتحم دجلة بالخيول،
وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط
الفيضان. هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبدًا، وبدءوا في إنزال قوات
فارسية على خيول أيضًا؛ لتقاتل المسلمين في المياه. فرقٌ كبير جدًّا بين
القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدًّا؛ فهم منتصرون في
موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح
عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم
هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما
هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن
منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى
ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق
الخيول الإسلامية الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعًا، ودخل الفرس
في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع
الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار
الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في
القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين
السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة
المقاتل المسلم. وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه
القوات الفارسية التي على الشاطئ عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛
فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا، وعبر سيدنا عاصم بن عمرو التميمي
والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛
ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسيدنا سعد بن أبي
وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم
المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش
الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج
أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة
أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟!
ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام
انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد
ذلك سيدنا سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم،
وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسيدنا سعد بن أبي وقاص يقول لهم:
اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما
البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر
المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله
ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فهذا دَيْدَنُ
الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن
يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله عز وجل يستشعرون به مساعدة الله عز وجل ونصره لهم.
هروب كسرى فارس:
فيعبر
المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة "أسفانبر"، وقصرها الأبيض قصر
بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا
الموقف الرهيب: موقف ملاقاة المسلمين، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل
القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد) من الباب الخلفي لقصره،
ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن،
وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛
فالمرة الأولى عندما كان صغيرًا، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس
الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته
في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى
أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره
23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
كان سيدنا سعد بن أبي وقاص يعبر هو والجيش مثنى مثنى، وكان الذي يعبر معه سيدنا سلمان الفارسي رضى الله عنه وهذا أمر لا بُدَّ أن نقف كلنا أمامه وقفة مهمة.
سلمان الفارسي رضى الله عنه-كما
نعرف جميعًا- من فارس، فهذه إذن بلده، وهذه قوميته، وهذه عشيرته وأهله
وأقاربه، لكنهم على دين المجوسية، وكلهم على عبادة النار؛ فأصبح أهل سيدنا
سلمان الحقيقيون هم المسلمون، حتى إن سيدنا سلمان الفارسي في موقعة الخندق
-من عظم شأنه وسط المسلمين- يختلف عليه الأنصار والمهاجرون، فالأنصار
يقولون: سلمان مِنَّا. والمهاجرون يقولون: سلمان مِنَّا. فيصعد به سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل هذه الطوائف، سواء المهاجرين أو
الأنصار، ويقول: "سلمان منَّا أهل البيت"؛
فيجعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته تشريفًا له، فسلمان
الفارسي هذا جعل قوميته، وجعل دينه، وجعل عصبيته كلها للإسلام، ودخل بلاد
الفُرْسِ فاتحًا بلاده في صَفِّ المسلمين.
سيدنا
سلمان الفارسي له قصة لا بد لنا جميعًا أن نعرفها حتى ندرك المجهود الذي
وصل به سيدنا سلمان إلى هذه المكانة، لدرجة أن يعبر نهر دجلة بجوار سيدنا
سعد بن أبي وقاص ليفتح فارس، ونترك سيدنا سلمان رضى الله عنه يروي لنا قصته؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ:
"كُنْتُ
رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ
مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ،
وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ
إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ كَمَا
تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ
قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي
بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ
فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا.
وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ
فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ
أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرُ
النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ
وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي
أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي
نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ
وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ
هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي
وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ:
فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ
عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ
بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ
دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ
آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلاَّ وَاللَّهِ، إِنَّهُ خَيْرٌ
مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ
حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
قَالَ:
وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ
عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي
بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ
النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا
قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ
فَآذِنُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى
بِلادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ،
ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا
قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي
الْكَنِيسَةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا
الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ،
وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ. فَدَخَلْتُ
مَعَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ
وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ
اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ
سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ. قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا
شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ
النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ
سَوْءٍ؛ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا
جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ
مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا
أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ:
فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ
مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا:
وَاللَّهِ لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ
بِالْحِجَارَةِ.
ثُمَّ
جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ
سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ
أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ،
وَلا أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا
لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ
وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا
تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا
كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ
مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلانٌ فَهُوَ
عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ
وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ،
إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ،
وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ
عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ
صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي
بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عز وجل مَا تَرَى،
فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ،
وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلاَّ
بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
َقَالَ:
فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَجِئْتُهُ
فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ
عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ،
فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ
الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا
كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ،
فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ،
وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ
تَأْتِيَهُ إِلاَّ رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ؛ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ
عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ
وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ
عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ
لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ،
فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ
فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ،
ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا
تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ
عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ،
وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ
إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ
حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى، يَأْكُلُ
الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ
النُّبُوَّةِ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ
فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ
تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ
وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي
الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا،
فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ
الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي،
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ
الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا
فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ
رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ،
مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ
فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ
حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلانُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ،
وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ
عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ:
فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ
عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ
لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟! مَاذَا تَقُولُ؟! قَالَ: فَغَضِبَ
سَيِّدِي؛ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً. ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ
وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لا شَيْءَ، إِنَّمَا
أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.
وَقَدْ
كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ
ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقُبَاءَ
فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ
رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا
شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ
غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: كُلُوا.
وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ
وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ
فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ
أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي
نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ
أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ
أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي
شَيْءٍ وُصِفَ لِي. قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ
إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ
وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : تَحَوَّلْ.
فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَابْنَ
عَبَّاسٍ، قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى
فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وَأُحُدٌ. قَالَ:
ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ.
فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ
بِالْفَقِيرِ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ.
فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ
بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ
(يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ) حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ
مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ.
فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا
جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ
سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ
النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ
الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ.
قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ
سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ
وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ". أخرجه أحمد في مسنده.
بعد
هذه الرحلة الطويلة المريرة في البحث عن الحقيقة يدخل سيدنا سلمان الفارسي
-الآن- المدائن فاتحًا بعدما خرج منها قبل ذلك هاربًا من أبيه، ومن
المجوسية قبلَ سنوات طويلة باحثًا عن الحقيقة، وبعد وقت قصير سيكون أميرًا
للمدائن بأمر سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
يعبر
الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديًّا واحدًا في العبور،
وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه
على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن
مثلك؟! وهذا من فضل الله عز وجل أن يدخل ستون
ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا!! وأول من يدخل مدينة أسفانبر فرقة أو
كتيبة الأهوال، فتعبر السور إلى داخل المدينة وتفتح الأبواب الضخمة
للمسلمين، وتدخل خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم يتبع كتيبة
الخرساء جيش المسلمين بالكامل فيدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة
والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحدًا من الفرس
مطلقًا باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من
الهرب، أو -وهذا هو الظاهر- أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في
استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب
الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة
في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما
فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا
من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله عز وجل حتى يصل
إليهم أبو اليزيد المضارب هذا ويقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم يتجول
المسلمون حتى يصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سيدنا سعد
بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله عز وجل : {كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا
قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله عز وجل ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله I، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.
دخول المسلمين إيوان كسرىنعرف جميعًا- من فارس، فهذه إذن بلده، وهذه قوميته، وهذه عشيرته وأهله
وأقاربه، لكنهم على دين المجوسية، وكلهم على عبادة النار؛ فأصبح أهل سيدنا
سلمان الحقيقيون هم المسلمون، حتى إن سيدنا سلمان الفارسي في موقعة الخندق
-من عظم شأنه وسط المسلمين- يختلف عليه الأنصار والمهاجرون، فالأنصار
يقولون: سلمان مِنَّا. والمهاجرون يقولون: سلمان مِنَّا. فيصعد به سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل هذه الطوائف، سواء المهاجرين أو
الأنصار، ويقول: "سلمان منَّا أهل البيت"؛
فيجعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته تشريفًا له، فسلمان
الفارسي هذا جعل قوميته، وجعل دينه، وجعل عصبيته كلها للإسلام، ودخل بلاد
الفُرْسِ فاتحًا بلاده في صَفِّ المسلمين.
سيدنا
سلمان الفارسي له قصة لا بد لنا جميعًا أن نعرفها حتى ندرك المجهود الذي
وصل به سيدنا سلمان إلى هذه المكانة، لدرجة أن يعبر نهر دجلة بجوار سيدنا
سعد بن أبي وقاص ليفتح فارس، ونترك سيدنا سلمان رضى الله عنه يروي لنا قصته؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ:
"كُنْتُ
رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ
مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ،
وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ
إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ كَمَا
تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ
قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي
بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ
فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا.
وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ
فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ
أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرُ
النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ
وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي
أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي
نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ
وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ
هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي
وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ:
فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ
عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ
بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ
دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ
آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلاَّ وَاللَّهِ، إِنَّهُ خَيْرٌ
مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ
حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
قَالَ:
وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ
عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي
بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ
النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا
قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ
فَآذِنُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى
بِلادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ،
ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا
قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي
الْكَنِيسَةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا
الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ،
وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ. فَدَخَلْتُ
مَعَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ
وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ
اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ
سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ. قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا
شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ
النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ
سَوْءٍ؛ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا
جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ
مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا
أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ:
فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ
مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا:
وَاللَّهِ لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ
بِالْحِجَارَةِ.
ثُمَّ
جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ
سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ
أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ،
وَلا أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا
لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ
وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا
تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا
كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ
مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلانٌ فَهُوَ
عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ
وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ،
إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ،
وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ
عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ
صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي
بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عز وجل مَا تَرَى،
فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ،
وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلاَّ
بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
َقَالَ:
فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَجِئْتُهُ
فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ
عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ،
فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ
الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا
كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ،
فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ،
وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ
تَأْتِيَهُ إِلاَّ رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ؛ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ
عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ
وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ
عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ
لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ،
فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ
فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ،
ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا
تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ
عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ،
وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ
إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ
حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى، يَأْكُلُ
الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ
النُّبُوَّةِ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ
فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا
شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ
تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ
وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي
الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا،
فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ
الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي،
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ
الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا
فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ
رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ،
مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ
فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ
حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلانُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ،
وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ
عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ:
فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ
عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ
لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟! مَاذَا تَقُولُ؟! قَالَ: فَغَضِبَ
سَيِّدِي؛ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً. ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ
وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لا شَيْءَ، إِنَّمَا
أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.
وَقَدْ
كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ
ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقُبَاءَ
فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ
رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا
شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ
غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: كُلُوا.
وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ
وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ
فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ
أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي
نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ
أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ
أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي
شَيْءٍ وُصِفَ لِي. قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ
إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ
وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : تَحَوَّلْ.
فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَابْنَ
عَبَّاسٍ، قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى
فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وَأُحُدٌ. قَالَ:
ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ.
فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ
بِالْفَقِيرِ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ.
فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ
بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ
(يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ) حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ
مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ.
فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا
جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ
سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ
النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ
الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ.
قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ
سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ
وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ". أخرجه أحمد في مسنده.
بعد
هذه الرحلة الطويلة المريرة في البحث عن الحقيقة يدخل سيدنا سلمان الفارسي
-الآن- المدائن فاتحًا بعدما خرج منها قبل ذلك هاربًا من أبيه، ومن
المجوسية قبلَ سنوات طويلة باحثًا عن الحقيقة، وبعد وقت قصير سيكون أميرًا
للمدائن بأمر سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
يعبر
الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديًّا واحدًا في العبور،
وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه
على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن
مثلك؟! وهذا من فضل الله عز وجل أن يدخل ستون
ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا!! وأول من يدخل مدينة أسفانبر فرقة أو
كتيبة الأهوال، فتعبر السور إلى داخل المدينة وتفتح الأبواب الضخمة
للمسلمين، وتدخل خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم يتبع كتيبة
الخرساء جيش المسلمين بالكامل فيدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة
والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحدًا من الفرس
مطلقًا باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من
الهرب، أو -وهذا هو الظاهر- أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في
استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب
الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة
في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما
فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا
من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله عز وجل حتى يصل
إليهم أبو اليزيد المضارب هذا ويقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم يتجول
المسلمون حتى يصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سيدنا سعد
بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله عز وجل : {كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا
قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله عز وجل ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله I، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.
القصر
الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم
يشتركوا في القتال، يعز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه،
هذا القصر الأبيض قد ذكرنا من قبل أن ارتفاع سوره من 28 إلى 29 مترًا،
والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 مترًا × 43 مترًا. والمبنى
كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا
بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله
ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأمينًا للقصر. حاصر المسلمون
القصر حصارًا بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره،
لكن بداخله بعض الفرس، فيذهب إليهم سلمان الفارسي، ويقول لهم: أنا منكم،
اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما
علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. ويعطيهم مهلةً ثلاثة أيام كما
علَّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
وفي اليوم الثالث يخرج هؤلاء الفرس، ويقبلون دفع الجزية للمسلمين؛ فيدخل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه بعد
فتح القصر، ويتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم
يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى
منذ فترة يدعونه إلى الإسلام، وقام سيدنا سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله
القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا
تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من
صفر سنة 16 هجرية، وكان المسلمون قد أَذَّنُوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه
أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ
مَقْدِم سيدنا خالد بن الوليد سنة 12 هجرية حتى هذه اللحظة لم يصلوا
الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائمًا الظهر قصرًا، أي جمع الظهر مع العصر،
والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائمًا على سفر، ولكن سيدنا سعد بن أبي
وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيمًا، وأن المدائن هي البلد التي
سيتخذها المسلمون مقامًا بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ
مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل: المدينة المنورة ومكة
المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى
الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.
كانت
هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر، ثم بدأ سيدنا سعد بن أبي
وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدًّا على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس
لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فيأمر سيدنا
سعد بن أبي وقاص على إحضار هذه الغنائم سيدنا عمرو بن عمرو بن مقرن المزني
رضى الله عنه -وهو ابن أحد الإخوة العشرة الذين
اشتركوا في حروب فارس وذُكِرُوا فيها كثيرًا- كما أطلق سيدنا زهرة بن
الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض
عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم
يكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها،
وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ
عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.
من غرائب شأن يزدجرد!!
لقد
أخذ معه ألف طباخ، وألف مطرب، وألف مدرب حيوانات، ويعتقد في قرارة نفسه
أنه خَفَّف الحِمْلَ في السير؛ حتى لا يثقل بمن معه، فأخذ معه ألفًا فقط من
كل طائفة، فانظر إلى مدى الترف الذي يحياه كسرى فارس.
ولكن ماذا عن الفلاحين الموجودين في بلاد فارس؟
لقد
عانى هؤلاء الفلاحون كثيرًا من الظلم والجبروت الفارسي الذي أرهقهم
بالضرائب الكثيرة وغيرها، وعندما جاء المسلمون فاتحين لبلادهم دخلوا في دين
الإسلام بعد أن أدركوا البون الشاسع في المعاملة بين المسلمين والفرس، أو
قبلوا دفع الضرائب الإسلامية أو الجزية الإسلامية -التي كانت أقل كثيرًا من
الضرائب الفارسية- عن رضًا ورغبة؛ فهم قد استمتعوا بهذه الجزية؛ لأنهم في
مقابلها تمتعوا بميزات كثيرة، فهم لا يشتركون في جيش المسلمين ليحاربوا،
وعلى المسلمين حمايتهم ضد أي اعتداء، ومن لم يستطع دفع الجزية سقطت عنه،
وليس هذا فحسب بل قد يكفله المسلمون من بيت مالهم، ويُعفَى منها أيضًا
العجائزُ والنساءُ والصبيانُ، وهذه هي سماحة الإسلام وعدله
________________________________________________
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى