- حمدي عبد الجليلالمشرف العام
- عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28462
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
فتح جلولاء وتكريت
الخميس 08 ديسمبر 2011, 23:42
فتح جلولاء وتكريت
د. راغب السرجاني
مقدمة
قلنا في الدرس السابق إن المسلمين بدءوا في جمع الغنائم من مدينة المدائن وكان عملاً شاقًّا؛ لأن المدائن مدينة كبيرة وكلها كنوز لكسرى، وكلها أموال غير ما هرب به جيش كسرى، وما هرب به يزدجرد نفسه من المدائن إلى مدينة حلوان كما ذكرنا من قبل، وقد اتخذها يزدجرد مقرًّا له بعد سقوط المدائن، وكانت تبعد عن المدائن بنحو مائتين وعشرين كيلو مترًا.
وتولى أمر جمع هذه الغنائم عمرو بن مقرن أخو النعمان بن مقرن، وبدأ في جمع الغنائم من قصر كسرى الأبيض، وكانت الغنائم ضخمة جدًّا تحدث عنها الرواة فترات وفترات، ويذكر حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعامًا، فإذا هي آنية الذهب والفضة، وكان عدد الدراهم الموجودة في قصر كسرى ثلاثة آلاف مليون درهم، أي ثلاثة بلايين درهم جمعها كسرى ومن سبقه، وتعثر عليه وعلى جيشه أن يحملوا كل هذه الأموال.
استطاعت فرق الجيش الإسلامي التي خرجت تتابع الفرق الهاربة من الفرس أن تحصل على بعض الغنائم، واستطاع سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي أن يلحق بحامية فارسية وقاتلها وحصل منها على خمسة دروع وستة أسياف، ولم تكن أيَّة الدروع وأيَّة أسياف!! بل كان من بين هذه الدروع والأسياف سيف ودرع كسرى، وسيف ودرع هرقل، وكان الفرس قد غنموهما من الروم قبل ذلك، ودرع وسيف خاقان ملك الترك، ودرع وسيف ملك الهند، ودرع وسيف النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقد أخذهما كسرى لما مات النعمان بن المنذر، وخَيَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص القعقاع بن عمرو بين السيوف فاختار سيف هرقل وكان سيفًا قويًّا، وكانت الفرس تفخر بهذ العُدَّة إلا أن الله عز وجل أورثها للمسلمين.
ومن ضمن ما غنمه المسلمون في مطاردتهم للفرس حُلَل كسرى، فغنموا لباسه وغنموا سِوَارَي كسرى وتاجه، وكان وزن التاج واحدًا وتسعين كيلو جرامًا، وكان كسرى فارس إذا جلس على كرسي مملكته يدخل تحت تاجه، وتاجه معلق بسلاسل الذهب؛ لأنه كان لا يستطيع أن يقلّه على رأسه لثقله، بل كان يجيء فيجلس تحته ثم يدخل رأسه تحت التاج الذي تحمله السلاسل الذهبية عنه، وأخذ المسلمون هذه الغنائم، وغنموا القطف وهو البساط الموجود في الإيوان، وكان من عجائب هذا العصر، وكان حجمه ستة وثلاثين مترًا في ستة وثلاثين مترًا، وكانت السجادة مصنوعة من خيوط موشاة بالذهب والفصوص والجواهر، وكانت عليه الرسوم النادرة التي لا تقدر بمال، وكانت الأكاسرة تُعِدُّه للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه، فكأنهم في رياض؛ فيه طرق كالصور وفيه فصوص كالأنهار، أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع، والورق من الحرير على قضبان الذهب، وزهره الذهب والفضة، وثمره الجوهر وأشباه ذلك.
وتولى توزيع الغنائم سيدنا سلمان بن ربيعة الباهلي، وكما ذكرنا أنه معيّن من قِبَل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه منذ بداية حروب القادسية على توزيع الغنائم، فبدأ بتوزيع الغنائم فوزع أربعة أخماس الغنائم من الذهب والفضة على الجيش الإسلامي، وبعث بالخمس إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه في المدينة.
ويذكر الرواة أن الرجل كان يطوف في السوق ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟! وذلك من كثرة الأموال في أيدي المسلمين بعد فتح المدائن.
حرص سيدنا سعد بن أبي وقاص على أن تكون الغنائم الذاهبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة من ممتلكات كسرى نفسه كسيفه ومنطقته ولباسه وحلله وما إلى ذلك؛ ليكون ذلك أدعى للمسلمين في المدينة أن يخرجوا للقتال، بعد أن يجدوا ممتلكات كسرى نفسه غنيمة للمسلمين.
ولما وصلت هذه الأشياء إلى سيدنا عمر بن الخطاب استدعى رجلاً اسمه "مُحلِّم" أجسم رجل في المدينة في ذلك الوقت، وكان جسم يزدجرد ضخمًا جدًّا، فقد كان يشبه يزدجرد في جسمه، وألبسه سيدنا عمر لباس يزدجرد، وأقام له التاج على عمودين من الخشب وألبسه محلمًا، وجعل الناس ينظرون إليه، وقال للناس: هذا يشبه ملك كسرى، أعزنا الله بالإسلام، وأذل الله مثل هؤلاء بالإسلام.
وكانت نظرة سيدنا سعد بن أبي وقاص ثاقبة، فلما رأى الناس في المدينة هذه الغنائم، ورأوا سيف كسرى وتاجه ومنطقته، وقد انتقل كل ذلك من أرض فارس إلى أرض المسلمين؛ زاد ذلك في عزيمتهم، وتطوع كثير من الناس للجهاد في أرض فارس وأرض العراق.
لما قسم سعد فيهم الأموال فضل عنهم القِطْفُ ولم يتفق قسمه، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن اللَّه تعالى قد ملأ أيديكم، وقد عَسُرَ قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين، يضعه حيث شاء؛ ففعلوا.
ورغم كل ما غنمه المسلمون لم يستأثر سيدنا سعد بشيء يبعثه إلى بيت مال المسلمين، فضلاً عن أن يأخذها لنفسه إلا بعد أن يستأذن أهله في ذلك، فوافق الجيش على ذلك، فبعث بالقطف إلى سيدنا عمر بالمدينة.
ولما وصل القطف إلى سيدنا عمر بن الخطاب بالمدينة ورآه الناس أخذ القطف بعقولهم وألبابهم، فهم لأول مرة يرون مثله، وكما قلنا: كان من عجائب الدنيا في هذا الوقت.
وتحيَّر سيدنا عمر بن الخطاب في هذا القطف، فجمع الناس فاستشارهم في البساط، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوِّض إليه، وآخر مرقِّق، فقام علي رضى الله عنه فقال: لِمَ تجعل علمك جهلاً، ويقينك شكًّا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيتَ، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. فقال: صدقتني، فقطِّعْه. فقسَّمه بين الناس، فأصاب عليًّا رضى الله عنه قطعة منه فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القطع.
فتح جلولاء وحلوان
بعد أن دانت مدينة المدائن للمسلمين، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بالاستمرار في الغزو، وأمَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص على كل ما سيطر عليه المسلمون في أرض فارس، ثم ولى سيدنا سويد بن مقرن على ما سقى الفرات تحت إمرة سيدنا سعد بن أبي وقاص، وولى على ما سقى دجلة النعمان بن مقرن، وأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص بأن يخرج جيشًا على رأسه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء، وهي على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا من المدائن، وهذه المنطقة ترك فيها يزدجرد الجيش الفارسي الذي كان معه في المدائن، فترك بها ما يقرب من خمسين ألف مقاتل فارسي، واستطاع أن يجمع مددًا من المناطق الفارسية المحيطة به، فجمع من أذربيجان ومن أصبهان ومن منطقة الباب غرب بحر قزوين، وجمع من منطقة حلوان وما حولها حتى شرق نهر دجلة، فوصل العدد في جلولاء إلى مائة وعشرين ألف مقاتل فارسي، وأمر عليهم مهران الرازي وكان قائد ميسرة الفرس في القادسية، وكان قد هرب من القادسية ليدافع عن مدينة المدائن، ثم هرب إلى جلولاء، ليتولى قيادة الجيش الفارسي في جلولاء.
وقبل الحديث عن هذه المنطقة نذكر أن الفرس استطاعوا أن يجمعوا جيشًا كبيرًا في الموصل في شمال المدائن على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترًا، ثم تحرك الجيش الموجود في الموصل -وكان معظمه من العرب النصارى والفرس والروم- حتى وصل إلى مدينة تكريت، وجمع الهرمزان -وكان قد هرب من موقعة القادسية- جيشًا آخر، وعسكر في الأهواز في مواجهة منطقة الأُبلَّة.
بعد تجميع هذه الجيوش أصبح أمام المسلمين ثلاث جبهات للقتال؛ جبهة الأبلة الجنوبية، وجبهة جلولاء في اتجاه حلوان، وجبهة تكريت في شمال المدائن. وفي أثناء تجمعات الفرس تأتي توجيهات سيدنا عمر بن الخطاب بتوجيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء، وتوجيه سيدنا عبد الله بن المعتم من المدائن إلى تكريت في خمسة آلاف، وكان عبد الله بن المعتم قائد ميمنة المسلمين في معركة القادسية، ووجه سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا عتبة بن غزوان -وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - إلى حصن الأبلة.
ولن نخوض في غمار الحديث عن منطقة تكريت ومنطقة الأبلة إلا بعد الانتهاء من موقعة جلولاء. وفي التوقيت الذي تقوم فيه معركة جلولاء، يتقدم الجيش الإسلامي نحو تكريت، والجيش الإسلامي الآخر نحو الأبلة.
ويتحرك الجيش الإسلامي بقيادة هاشم بن أبي عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في أواخر شهر ربيع الأول أو أوائل شهر ربيع الآخر، وبذلك مكث الجيش الإسلامي الشهر ونصف الشهر في المدائن قبل الخروج لجلولاء، وخرج المسلمون في اثني عشر ألف مقاتل على المقدمة سيدنا القعقاع بن عمرو، وعلى الميسرة سيدنا سعر بن مالك، وعلى الميمنة سيدنا عمر بن مالك، وعلى المؤخرة سيدنا عمرو بن مرة، ووصل الجيش الإسلامي إلى جلولاء في أربعة أيام، وعسكر قبل جلولاء بقليل.
ولما وصل المسلمون إلى جلولاء وجدوها شديدة الحصانة لأهل فارس، فهي عبارة عن حصن كبير جدًّا، يحوط به سور عالٍ، وبداخل الحصن يعسكر كل الفرس، وخارج الحصن خندق كبير لا تعبره الخيول، ثم أرض فضاء أمام الخندق، ثم حسك الخشب. والحَسَكُ: من أَدَوات الحَرْب (خوازيق مدقوقة في الأرض على مسافات متقاربة)، رُبَّما يُتَّخَذُ من حديدٍ فيُلْقَى حَولَ العَسكر، ورُبَّما اتُّخِذَ من خَشَبٍ فنُصِبَ حولَ العسكر.
ولا تستطيع الخيول العَدْوَ في الحَسَكِ المدسوسة خارج حصن جلولاء، ومن الناحية الغربية من حصن جلولاء أحد فروع الأنهار الصغيرة تحمي هذه المنطقة، والأرض الفضاء الموجودة بين الحصن وبين حسك الخشب على مرمى سهام الفرس، فكانت هذه المنطقة في غاية الحصانة وبداخلها مائة وعشرون ألفًا من الفُرْسِ على رأسهم مهران الرازي. وصل المسلمون إلى هذه المنطقة وبدأ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في حصار مدينة جلولاء، ولم يستطع الدخول بجيشه إلى داخل الحصن لوجود الحسك والخندق، وكان الأعاجم يخرجون على المسلمين من طرق أعدُّوها لا يوجد بها الحسك فينابذوهم، وهذا الوقت هو الوقت المتاح لتقدم المسلمين؛ لأن الفرس لا يستطيعون رمي السهام لتلاحم الجيشين، ومن وقت لآخر تخرج فرقة من الفرس فتنابذ المسلمين فيتقدم لهم القعقاع بن عمرو في المقدمة فيهزمهم، وما زال المسلمون محاصرين الخندق، وسيضطر الفرس يومًا للنزول؛ فحتمًا سينفد الزاد، وكان هدف الفرس من تتابع الفرق التي تنابذ المسلمين أن ينفد صبر المسلمين، ورغم ما بين المسلمين والفرس من منابذات إلا أن المسلمين تجلَّدوا وصبروا لهم، وزحف الفرس على المسلمين ثمانين زحفًا، واستمر الحصار حول جلولاء سبعة أشهر أو يزيد، مع أن المسلمين حاصروا بَهُرَسير إحدى المدائن شهرين، وفتحت المدائن مباشرة دون حصار، واستمرت موقعة القادسية أربعة أيام، ويبقى حصن جلولاء سبعة أشهر؛ وذلك لمنعته وقوة حصانته.
وصبر المسلمون وصابروا أهل فارس على الحصار، وصبر الفرس المحاصَرُون سبعة أشهر على الحصار وعلى قتال المسلمين، حتى زاد الأمر مشقة على الطرفين؛ فقد بلغ الجهد مبلغه بالمسلمين والفرس، فأخرج الفرس في يوم من الأيام قوة ضخمة لحرب المسلمين، فتقدم إليهم سيدنا القعقاع بن عمرو في مقدمة الجيش الإسلامي، ودار القتال من الصباح حتى المساء، واستمر القتال حتى بعد غروب الشمس، وفي هذه اللحظة يصل ستمائة جندي مددًا للمسلمين، وكان من بينهم طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح، ولهؤلاء الثلاثة بأس شديد في القتال فزادوا من قوة وبأس المسلمين في القتال، واستمر القتال في الليل، وكانت هذه أول مرة بعد موقعة القادسية يستمر القتال في الليل، وكان القتال في موقعة القادسية على أشُدِّه في الليل في ليلة الهرير، ويشبِّه الرواة ليلة القتال في جلولاء بليلة القتال في الهرير في موقعة القادسية، يقول الرواة: لم يرَ المسلمون مثلها قَطُّ إلا في ليلة الهرير، ولكن ليلة جلولاء كانت أقصر زمنًا وأسرع حركة.
حيلة القعقاع
بدأ النصر يتجه لصالح المسلمين بعد هذه الليلة، وفكر سيدنا القعقاع بذكاء ومهارة في أن يخترق جيش الفرس بمقدمته، ويسيطر على مدخل الخندق ليمنع الجيش الفارسي من العودة داخل الحصن مرة أخرى، واخترق سيدنا القعقاع الجيش الفارسي وبدأ يسيطر على مدخل الخندق، ودبر حيلة حيث صاح في المسلمين: أن أنقذوا أميركم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من الخندق، ولا تموتوا إلا على ما مات عليه. وكانت حيلة من سيدنا القعقاع لتحفيز الجيش على الهجوم بشدة على الجيش الفارسي، فحمل المسلمون بجسارة نحو الخندق لنجدة أميرهم وهم لا يشكون أنه فيه، وأخذ المسلمون الفرس من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، وأعملوا أسيافهم في رقابهم.
ولما وجد الفرس سيطرة المسلمين على الخندق ألقوا بكميات كبيرة من الأخشاب فيه ليردموه ويعبر جيشهم إلى الناحية الأخرى، وتضيع الفجوة الموجودة في الخندق، وبذلك فقد الفرس الخط الدفاعي الأول، واستمر القتال إلى صباح اليوم التالي، واكتشف المسلمون أنهم قضوا على الجيش الفارسي الموجود في المنطقة إلا قليلاً من الفرق قدرت بعشرين ألفًا هربت من جلولاء، وقتل في جلولاء مائة ألف من الجيش الفارسي، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة اثني عشر ألفًا، وقد وصل إليهم ثلاثة آلاف مقاتل مددًا وكانوا من الفرس الذين أسلموا، وكانت أول موقعة يقاتل فيها جيش من الفرس مع جيش المسلمين ضد أهلهم، وهذا الأمر يُذْكَر للمسلمين، فقد يقاتل الإنسان مع عدوه خفية وينقل لهم الأسرار، لكن لم نسمع في التاريخ أن بلدًا تُغزَى من قِبَلِ دولة أخرى ويخرج منها جيش يقاتل مع من غزاه حتى الموت؛ فقد تحول ثلاثة الآلاف مقاتل من الكفر قبل الفتح الإسلامي بشهور قليلة إلى أقصى درجات الإيمان الذي يؤدِّي إلى الجهاد، ومِن ثَمَّ يعرض الإنسان نفسه بذلك إلى الموت والشهادة.
وكان هذا تحولاً شديد الغرابة، ولكن يذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أمثلة لذلك، منها القصة المشهورة قصة سحرة فرعون وما كانوا عليه من الكفر، وقد جاءوا ليواجهوا سيدنا موسى عليه السلام فقالوا لفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113]. وكان جُلُّ همهم إرضاء فرعون والجري وراء الدنيا، ويقر لهم فرعون بذلك ويقول: {نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114]. ثم ظهرت لهم آية سيدنا موسى فخَرُّوا سُجَّدًا مُقِرِّين بإيمانهم لرب العالمين: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46-48]. ففي لحظة واحدة انتقل السحرة من الكفر الشديد الذي دفعهم لمحاربة سيدنا موسى والتصدي له، إلى الإيمان الشديد الذي جعلهم يقفون أمام فرعون لما هددهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب في جذوع النخل قائلين له: {قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50]. يقول الحق تبارك وتعالى مصورًا هذا المشهد: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 49-51]. وهذه اللحظة التي عاشها السحرة عاشها أيضًا أهل فارس مع التغير في الزمان والمكان، ولم يكن ذلك التغير في عدد قليل كعدد السحرة، بل في جيش كبير يصل تعداده إلى ثلاثة آلاف مقاتل من الفرس صار يقاتل في صفوف المسلمين.
وبعد حصار استمر سبعة أشهر، وبعد ثمانين زحفًا من الفرس على المسلمين، وبعد ما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغه، ورأى الله عز وجل صلاح هذه القلوب وارتباطها بخالقها اِمتنَّ عز وجل على المسلمين بنصرهم على الفرس في معركة جلولاء وافتتاحه، وكان هذا الفتح من أكبر الفتوحات بعد موقعة المدائن، وكان الجيش الفارسي قد اصطحب النساء والذراري ليكونوا حافزًا لهم على القتال، وعسكروا في مكان يدعى "خانقين" على بعد ثلاثين كيلو مترًا من جلولاء في الشمال الشرقي.
فاتجه المسلمون بعد فتح جلولاء إلى خانقين مباشرة بقيادة سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وسيطر المسلمون على المنطقة وأخذوا ما فيها من الغنائم ومن السبي ومن الذراري، وقُتِلَ في خانقين مهران الرازي قائد الجيش الفارسي في جلولاء الذي هرب من القادسية، ثم من المدائن، ثم من جلولاء، استطاع القعقاع بن عمرو التميمي أن يقتله في خانقين.
وكانت غنائم جلولاء وسبيها من الكثرة حتى إنها وُزِّعَتْ على جيش المسلمين في جلولاء، فكان نصيب الواحد منهم كنصيب أحدهم في المدائن، وقيل: إن الفارس أخذ في هذه المعركة تسعة آلاف درهم، وتسعة من الدواب، وأُرْسِلَ الخُمْسُ إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة مع سيدنا زياد بن أبي سفيان الذي كان كاتب الحملة، أرسله سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى سيدنا عمر في المدينة.
لما قدم زياد بن أبي سفيان المدينة سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحًا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأحب أن يَسْمع المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟ فقام في الناس فَقَصَّ عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا بعبارة عظيمة بليغة، فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المِصْقع. يعني الفصيح، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
فلما قدمت غنائم جلولاء على عمر قال: والله لا يُجنُّه سقف حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموْطِنُ شكرٍ. فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، إن هذا الأمر لهو أشد ما أخاف على المسلمين، وبالله ما أَعطَى الله هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم، وضاعت هيبتهم.
ووزع سيدنا عمر بن الخطاب سبي جلولاء وكان كثيرًا؛ فكان المسلم ينال أكثر من واحدة من السبي، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يخاف على المسلمين من هذا السبي أن يقعدوهم عن الجهاد في سبيل الله، وكان دائم الاستعاذة من سبي جلولاء لكثرته.
ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى القعقاع بن عمرو التميمي بأن يتقدم في اتجاه "حلوان" حيث يوجد يزدجرد، وكعادة يزدجرد هرب من حلوان إلى الشمال إلى منطقة تسمى الري بالقرب من بحر قزوين وترك حلوان خالية؛ فتقدم سيدنا القعقاع إليها فوجد على مقربة منها حامية قليلة على رأسها دهقان حلوان، فهزمها بسهولة وسيطر على مدينة حلوان كلها.
بعد فتح حلوان أرسل سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حملات لتطهير المنطقة، فأرسل حملة بقيادة سيدنا جرير بن عبد الله -وهو من قبيلة بجيلة وأحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - إلى مدينة شهرزور وفتحها صلحًا ولم يكن فيها قتال يذكر، وصالح أهلها سيدنا جرير على الجزية، وتقدم سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الجيوش في الاتجاه الغربي وفتح كل هذه المنطقة، ودانت هذه المنطقة للمسلمين في هذا الوقت.
وبعد سيطرة القعقاع على حلوان ولَّى عليها قباذ وهو مسلم فارسي، وأول فارسي يُؤَمَّر على مدينة فارسية.
فتح تكريت
في ذلك الوقت الذي دخل فيه المسلمون فاتحين مدينة حلوان ومن قبلها جلولاء، تحرك الجيش الموجود في المدائن بقيادة عبد الله بن المعتم رضى الله عنه قائد ميمنة المسلمين في القادسية (وكان قد خرج في الوقت نفسه الذي خرج فيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء كما ذكرنا في نهاية ربيع الأول وبداية ربيع الآخر) من المدائن إلى تكريت وهي على مسافة مائتين وعشرين كيلو مترًا من المدائن شمالاً حيث يواجه الجيش القادم من الموصل إلى تكريت، وكان فيه جموع من الفرس والعرب والروم فيصل إليها ويحاصرها، وكانت تكريت كجلولاء في شدة الحصانة وقوة المنعة، حيث تقع المدينة على الجانب الغربي من نهر دجلة مباشرة، أما الجانب الشمالي والشرقي والجنوبي فيحيطه خندق ليحمي المدينة، ويحاصر سيدنا عبد الله بن المعتم المدينة مدة تقدر بأربعين يومًا وكان الحصار شديدًا، وكانت قوة هذه الجموع أقل من الجموع الفارسية في جلولاء لكونها مختلطة من الفرس والروم والعرب؛ فسبَّبَ هذا الاختلاف ضعفًا في هذا الجيش، وفي مدة الحصار خرج الفرس في أربعة وعشرين زحفًا تقريبًا حيث كان الزحف يتكرر كل يومين، وانتصر المسلمون على كل زحف زحفه الفرس عليهم، وكان جيش المسلمين خمسة آلاف مقاتل فقط.
عزم الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، لما رأوا من ظَفَرِ المسلمين، خاصة أن هذه الحرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل؛ كما أن جيوشهم في الشام تحارب جيوشًا إسلامية هناك، فعزموا على الانسحاب بقواتهم فوق السفن في نهر الفرات في طريقهم إلى الشمال هروبًا من الجيش الإسلامي، ولما علم بذلك عبد الله بن المعتم راسل من هنالك من الأعراب خفية، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة على أهل البلد، والأمان لكم إن انتصرنا عليهم، ورأى الأعراب أن الروم بدءوا بالهروب، والقوة الفارسية محاصرة في جلولاء ومحاصرة معهم في تكريت، فجاءت الردود إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأَقِرُّوا بما جاء من عند الله؛ ولم يكن سيدنا عبد الله بن المعتم واثقًا بإسلام الأعراب، فوضع خطة حتى لا يغدروا بالمسلمين إن كانوا كاذبين.
فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا، واقتلوا من قدرتم عليه، وأمسكوا علينا أبواب السفن، وامنعوهم أن يركبوا فيها. ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلاً ذريعًا، فظنَّ الفرس أن المسلمين جاءوهم من خلفهم فهُرِعُوا إلى أبواب الحصن ليهربوا؛ فوجدوا عبد الله بن المعتم بأصحابه بالباب واقفين فَقُتِلَ جميع أهل البلد على بكرة أبيهم، ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وأرسل عبد الله بن المعتم "رِبْعِيّ بن الأَفْكَل" قائد مقدمته في تكريت إلى الحصنين، وهما "نِينَوَى" و"الموصل" (وهما على بُعْدِ أربعمائة كيلو متر من المدائن. ونينوى بها قبر سيدنا يونس عليه السلام ومنها الرجل الذي قابل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إقفاله من الطائف "عَدَّاس"، وتسمى نينوى الحصن الشرقي، وتسمى الموصل الحصن الغربي)، وقال: اسبق الخبر، وسِرْ ما دون القيل، وأحيِ الليل. وسَرَّحَ معه تغلب وإياد والنمر، فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم، ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح ودفع الجزية، وبذلك صاروا ذمة، وقد فتحت تكريت والموصل ونينوى قبل فتح جلولاء.
بعد فتح جلولاء وخانقين وحلوان يتخذ سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرارًا من أعجب قراراته، وكان لهذا القرار الأثر الكبير على الجيش الإسلامي والجيش الفارسي نفسه، حيث لم يتوقع أحد من الجيش الفارسي أن يوقف سيدنا عمر بن الخطاب الفتوحات في الدولة الفارسية، ويتخذ قرارًا كهذا في مثل هذا الوقت.
د. راغب السرجاني
مقدمة
قلنا في الدرس السابق إن المسلمين بدءوا في جمع الغنائم من مدينة المدائن وكان عملاً شاقًّا؛ لأن المدائن مدينة كبيرة وكلها كنوز لكسرى، وكلها أموال غير ما هرب به جيش كسرى، وما هرب به يزدجرد نفسه من المدائن إلى مدينة حلوان كما ذكرنا من قبل، وقد اتخذها يزدجرد مقرًّا له بعد سقوط المدائن، وكانت تبعد عن المدائن بنحو مائتين وعشرين كيلو مترًا.
وتولى أمر جمع هذه الغنائم عمرو بن مقرن أخو النعمان بن مقرن، وبدأ في جمع الغنائم من قصر كسرى الأبيض، وكانت الغنائم ضخمة جدًّا تحدث عنها الرواة فترات وفترات، ويذكر حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعامًا، فإذا هي آنية الذهب والفضة، وكان عدد الدراهم الموجودة في قصر كسرى ثلاثة آلاف مليون درهم، أي ثلاثة بلايين درهم جمعها كسرى ومن سبقه، وتعثر عليه وعلى جيشه أن يحملوا كل هذه الأموال.
استطاعت فرق الجيش الإسلامي التي خرجت تتابع الفرق الهاربة من الفرس أن تحصل على بعض الغنائم، واستطاع سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي أن يلحق بحامية فارسية وقاتلها وحصل منها على خمسة دروع وستة أسياف، ولم تكن أيَّة الدروع وأيَّة أسياف!! بل كان من بين هذه الدروع والأسياف سيف ودرع كسرى، وسيف ودرع هرقل، وكان الفرس قد غنموهما من الروم قبل ذلك، ودرع وسيف خاقان ملك الترك، ودرع وسيف ملك الهند، ودرع وسيف النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقد أخذهما كسرى لما مات النعمان بن المنذر، وخَيَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص القعقاع بن عمرو بين السيوف فاختار سيف هرقل وكان سيفًا قويًّا، وكانت الفرس تفخر بهذ العُدَّة إلا أن الله عز وجل أورثها للمسلمين.
ومن ضمن ما غنمه المسلمون في مطاردتهم للفرس حُلَل كسرى، فغنموا لباسه وغنموا سِوَارَي كسرى وتاجه، وكان وزن التاج واحدًا وتسعين كيلو جرامًا، وكان كسرى فارس إذا جلس على كرسي مملكته يدخل تحت تاجه، وتاجه معلق بسلاسل الذهب؛ لأنه كان لا يستطيع أن يقلّه على رأسه لثقله، بل كان يجيء فيجلس تحته ثم يدخل رأسه تحت التاج الذي تحمله السلاسل الذهبية عنه، وأخذ المسلمون هذه الغنائم، وغنموا القطف وهو البساط الموجود في الإيوان، وكان من عجائب هذا العصر، وكان حجمه ستة وثلاثين مترًا في ستة وثلاثين مترًا، وكانت السجادة مصنوعة من خيوط موشاة بالذهب والفصوص والجواهر، وكانت عليه الرسوم النادرة التي لا تقدر بمال، وكانت الأكاسرة تُعِدُّه للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه، فكأنهم في رياض؛ فيه طرق كالصور وفيه فصوص كالأنهار، أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع، والورق من الحرير على قضبان الذهب، وزهره الذهب والفضة، وثمره الجوهر وأشباه ذلك.
وتولى توزيع الغنائم سيدنا سلمان بن ربيعة الباهلي، وكما ذكرنا أنه معيّن من قِبَل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه منذ بداية حروب القادسية على توزيع الغنائم، فبدأ بتوزيع الغنائم فوزع أربعة أخماس الغنائم من الذهب والفضة على الجيش الإسلامي، وبعث بالخمس إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه في المدينة.
ويذكر الرواة أن الرجل كان يطوف في السوق ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟! وذلك من كثرة الأموال في أيدي المسلمين بعد فتح المدائن.
حرص سيدنا سعد بن أبي وقاص على أن تكون الغنائم الذاهبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة من ممتلكات كسرى نفسه كسيفه ومنطقته ولباسه وحلله وما إلى ذلك؛ ليكون ذلك أدعى للمسلمين في المدينة أن يخرجوا للقتال، بعد أن يجدوا ممتلكات كسرى نفسه غنيمة للمسلمين.
ولما وصلت هذه الأشياء إلى سيدنا عمر بن الخطاب استدعى رجلاً اسمه "مُحلِّم" أجسم رجل في المدينة في ذلك الوقت، وكان جسم يزدجرد ضخمًا جدًّا، فقد كان يشبه يزدجرد في جسمه، وألبسه سيدنا عمر لباس يزدجرد، وأقام له التاج على عمودين من الخشب وألبسه محلمًا، وجعل الناس ينظرون إليه، وقال للناس: هذا يشبه ملك كسرى، أعزنا الله بالإسلام، وأذل الله مثل هؤلاء بالإسلام.
وكانت نظرة سيدنا سعد بن أبي وقاص ثاقبة، فلما رأى الناس في المدينة هذه الغنائم، ورأوا سيف كسرى وتاجه ومنطقته، وقد انتقل كل ذلك من أرض فارس إلى أرض المسلمين؛ زاد ذلك في عزيمتهم، وتطوع كثير من الناس للجهاد في أرض فارس وأرض العراق.
لما قسم سعد فيهم الأموال فضل عنهم القِطْفُ ولم يتفق قسمه، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن اللَّه تعالى قد ملأ أيديكم، وقد عَسُرَ قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين، يضعه حيث شاء؛ ففعلوا.
ورغم كل ما غنمه المسلمون لم يستأثر سيدنا سعد بشيء يبعثه إلى بيت مال المسلمين، فضلاً عن أن يأخذها لنفسه إلا بعد أن يستأذن أهله في ذلك، فوافق الجيش على ذلك، فبعث بالقطف إلى سيدنا عمر بالمدينة.
ولما وصل القطف إلى سيدنا عمر بن الخطاب بالمدينة ورآه الناس أخذ القطف بعقولهم وألبابهم، فهم لأول مرة يرون مثله، وكما قلنا: كان من عجائب الدنيا في هذا الوقت.
وتحيَّر سيدنا عمر بن الخطاب في هذا القطف، فجمع الناس فاستشارهم في البساط، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوِّض إليه، وآخر مرقِّق، فقام علي رضى الله عنه فقال: لِمَ تجعل علمك جهلاً، ويقينك شكًّا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيتَ، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. فقال: صدقتني، فقطِّعْه. فقسَّمه بين الناس، فأصاب عليًّا رضى الله عنه قطعة منه فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القطع.
فتح جلولاء وحلوان
بعد أن دانت مدينة المدائن للمسلمين، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بالاستمرار في الغزو، وأمَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص على كل ما سيطر عليه المسلمون في أرض فارس، ثم ولى سيدنا سويد بن مقرن على ما سقى الفرات تحت إمرة سيدنا سعد بن أبي وقاص، وولى على ما سقى دجلة النعمان بن مقرن، وأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص بأن يخرج جيشًا على رأسه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء، وهي على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا من المدائن، وهذه المنطقة ترك فيها يزدجرد الجيش الفارسي الذي كان معه في المدائن، فترك بها ما يقرب من خمسين ألف مقاتل فارسي، واستطاع أن يجمع مددًا من المناطق الفارسية المحيطة به، فجمع من أذربيجان ومن أصبهان ومن منطقة الباب غرب بحر قزوين، وجمع من منطقة حلوان وما حولها حتى شرق نهر دجلة، فوصل العدد في جلولاء إلى مائة وعشرين ألف مقاتل فارسي، وأمر عليهم مهران الرازي وكان قائد ميسرة الفرس في القادسية، وكان قد هرب من القادسية ليدافع عن مدينة المدائن، ثم هرب إلى جلولاء، ليتولى قيادة الجيش الفارسي في جلولاء.
وقبل الحديث عن هذه المنطقة نذكر أن الفرس استطاعوا أن يجمعوا جيشًا كبيرًا في الموصل في شمال المدائن على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترًا، ثم تحرك الجيش الموجود في الموصل -وكان معظمه من العرب النصارى والفرس والروم- حتى وصل إلى مدينة تكريت، وجمع الهرمزان -وكان قد هرب من موقعة القادسية- جيشًا آخر، وعسكر في الأهواز في مواجهة منطقة الأُبلَّة.
بعد تجميع هذه الجيوش أصبح أمام المسلمين ثلاث جبهات للقتال؛ جبهة الأبلة الجنوبية، وجبهة جلولاء في اتجاه حلوان، وجبهة تكريت في شمال المدائن. وفي أثناء تجمعات الفرس تأتي توجيهات سيدنا عمر بن الخطاب بتوجيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء، وتوجيه سيدنا عبد الله بن المعتم من المدائن إلى تكريت في خمسة آلاف، وكان عبد الله بن المعتم قائد ميمنة المسلمين في معركة القادسية، ووجه سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا عتبة بن غزوان -وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - إلى حصن الأبلة.
ولن نخوض في غمار الحديث عن منطقة تكريت ومنطقة الأبلة إلا بعد الانتهاء من موقعة جلولاء. وفي التوقيت الذي تقوم فيه معركة جلولاء، يتقدم الجيش الإسلامي نحو تكريت، والجيش الإسلامي الآخر نحو الأبلة.
ويتحرك الجيش الإسلامي بقيادة هاشم بن أبي عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في أواخر شهر ربيع الأول أو أوائل شهر ربيع الآخر، وبذلك مكث الجيش الإسلامي الشهر ونصف الشهر في المدائن قبل الخروج لجلولاء، وخرج المسلمون في اثني عشر ألف مقاتل على المقدمة سيدنا القعقاع بن عمرو، وعلى الميسرة سيدنا سعر بن مالك، وعلى الميمنة سيدنا عمر بن مالك، وعلى المؤخرة سيدنا عمرو بن مرة، ووصل الجيش الإسلامي إلى جلولاء في أربعة أيام، وعسكر قبل جلولاء بقليل.
ولما وصل المسلمون إلى جلولاء وجدوها شديدة الحصانة لأهل فارس، فهي عبارة عن حصن كبير جدًّا، يحوط به سور عالٍ، وبداخل الحصن يعسكر كل الفرس، وخارج الحصن خندق كبير لا تعبره الخيول، ثم أرض فضاء أمام الخندق، ثم حسك الخشب. والحَسَكُ: من أَدَوات الحَرْب (خوازيق مدقوقة في الأرض على مسافات متقاربة)، رُبَّما يُتَّخَذُ من حديدٍ فيُلْقَى حَولَ العَسكر، ورُبَّما اتُّخِذَ من خَشَبٍ فنُصِبَ حولَ العسكر.
ولا تستطيع الخيول العَدْوَ في الحَسَكِ المدسوسة خارج حصن جلولاء، ومن الناحية الغربية من حصن جلولاء أحد فروع الأنهار الصغيرة تحمي هذه المنطقة، والأرض الفضاء الموجودة بين الحصن وبين حسك الخشب على مرمى سهام الفرس، فكانت هذه المنطقة في غاية الحصانة وبداخلها مائة وعشرون ألفًا من الفُرْسِ على رأسهم مهران الرازي. وصل المسلمون إلى هذه المنطقة وبدأ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في حصار مدينة جلولاء، ولم يستطع الدخول بجيشه إلى داخل الحصن لوجود الحسك والخندق، وكان الأعاجم يخرجون على المسلمين من طرق أعدُّوها لا يوجد بها الحسك فينابذوهم، وهذا الوقت هو الوقت المتاح لتقدم المسلمين؛ لأن الفرس لا يستطيعون رمي السهام لتلاحم الجيشين، ومن وقت لآخر تخرج فرقة من الفرس فتنابذ المسلمين فيتقدم لهم القعقاع بن عمرو في المقدمة فيهزمهم، وما زال المسلمون محاصرين الخندق، وسيضطر الفرس يومًا للنزول؛ فحتمًا سينفد الزاد، وكان هدف الفرس من تتابع الفرق التي تنابذ المسلمين أن ينفد صبر المسلمين، ورغم ما بين المسلمين والفرس من منابذات إلا أن المسلمين تجلَّدوا وصبروا لهم، وزحف الفرس على المسلمين ثمانين زحفًا، واستمر الحصار حول جلولاء سبعة أشهر أو يزيد، مع أن المسلمين حاصروا بَهُرَسير إحدى المدائن شهرين، وفتحت المدائن مباشرة دون حصار، واستمرت موقعة القادسية أربعة أيام، ويبقى حصن جلولاء سبعة أشهر؛ وذلك لمنعته وقوة حصانته.
وصبر المسلمون وصابروا أهل فارس على الحصار، وصبر الفرس المحاصَرُون سبعة أشهر على الحصار وعلى قتال المسلمين، حتى زاد الأمر مشقة على الطرفين؛ فقد بلغ الجهد مبلغه بالمسلمين والفرس، فأخرج الفرس في يوم من الأيام قوة ضخمة لحرب المسلمين، فتقدم إليهم سيدنا القعقاع بن عمرو في مقدمة الجيش الإسلامي، ودار القتال من الصباح حتى المساء، واستمر القتال حتى بعد غروب الشمس، وفي هذه اللحظة يصل ستمائة جندي مددًا للمسلمين، وكان من بينهم طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح، ولهؤلاء الثلاثة بأس شديد في القتال فزادوا من قوة وبأس المسلمين في القتال، واستمر القتال في الليل، وكانت هذه أول مرة بعد موقعة القادسية يستمر القتال في الليل، وكان القتال في موقعة القادسية على أشُدِّه في الليل في ليلة الهرير، ويشبِّه الرواة ليلة القتال في جلولاء بليلة القتال في الهرير في موقعة القادسية، يقول الرواة: لم يرَ المسلمون مثلها قَطُّ إلا في ليلة الهرير، ولكن ليلة جلولاء كانت أقصر زمنًا وأسرع حركة.
حيلة القعقاع
بدأ النصر يتجه لصالح المسلمين بعد هذه الليلة، وفكر سيدنا القعقاع بذكاء ومهارة في أن يخترق جيش الفرس بمقدمته، ويسيطر على مدخل الخندق ليمنع الجيش الفارسي من العودة داخل الحصن مرة أخرى، واخترق سيدنا القعقاع الجيش الفارسي وبدأ يسيطر على مدخل الخندق، ودبر حيلة حيث صاح في المسلمين: أن أنقذوا أميركم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من الخندق، ولا تموتوا إلا على ما مات عليه. وكانت حيلة من سيدنا القعقاع لتحفيز الجيش على الهجوم بشدة على الجيش الفارسي، فحمل المسلمون بجسارة نحو الخندق لنجدة أميرهم وهم لا يشكون أنه فيه، وأخذ المسلمون الفرس من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، وأعملوا أسيافهم في رقابهم.
ولما وجد الفرس سيطرة المسلمين على الخندق ألقوا بكميات كبيرة من الأخشاب فيه ليردموه ويعبر جيشهم إلى الناحية الأخرى، وتضيع الفجوة الموجودة في الخندق، وبذلك فقد الفرس الخط الدفاعي الأول، واستمر القتال إلى صباح اليوم التالي، واكتشف المسلمون أنهم قضوا على الجيش الفارسي الموجود في المنطقة إلا قليلاً من الفرق قدرت بعشرين ألفًا هربت من جلولاء، وقتل في جلولاء مائة ألف من الجيش الفارسي، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة اثني عشر ألفًا، وقد وصل إليهم ثلاثة آلاف مقاتل مددًا وكانوا من الفرس الذين أسلموا، وكانت أول موقعة يقاتل فيها جيش من الفرس مع جيش المسلمين ضد أهلهم، وهذا الأمر يُذْكَر للمسلمين، فقد يقاتل الإنسان مع عدوه خفية وينقل لهم الأسرار، لكن لم نسمع في التاريخ أن بلدًا تُغزَى من قِبَلِ دولة أخرى ويخرج منها جيش يقاتل مع من غزاه حتى الموت؛ فقد تحول ثلاثة الآلاف مقاتل من الكفر قبل الفتح الإسلامي بشهور قليلة إلى أقصى درجات الإيمان الذي يؤدِّي إلى الجهاد، ومِن ثَمَّ يعرض الإنسان نفسه بذلك إلى الموت والشهادة.
وكان هذا تحولاً شديد الغرابة، ولكن يذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أمثلة لذلك، منها القصة المشهورة قصة سحرة فرعون وما كانوا عليه من الكفر، وقد جاءوا ليواجهوا سيدنا موسى عليه السلام فقالوا لفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113]. وكان جُلُّ همهم إرضاء فرعون والجري وراء الدنيا، ويقر لهم فرعون بذلك ويقول: {نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114]. ثم ظهرت لهم آية سيدنا موسى فخَرُّوا سُجَّدًا مُقِرِّين بإيمانهم لرب العالمين: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46-48]. ففي لحظة واحدة انتقل السحرة من الكفر الشديد الذي دفعهم لمحاربة سيدنا موسى والتصدي له، إلى الإيمان الشديد الذي جعلهم يقفون أمام فرعون لما هددهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب في جذوع النخل قائلين له: {قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50]. يقول الحق تبارك وتعالى مصورًا هذا المشهد: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 49-51]. وهذه اللحظة التي عاشها السحرة عاشها أيضًا أهل فارس مع التغير في الزمان والمكان، ولم يكن ذلك التغير في عدد قليل كعدد السحرة، بل في جيش كبير يصل تعداده إلى ثلاثة آلاف مقاتل من الفرس صار يقاتل في صفوف المسلمين.
وبعد حصار استمر سبعة أشهر، وبعد ثمانين زحفًا من الفرس على المسلمين، وبعد ما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغه، ورأى الله عز وجل صلاح هذه القلوب وارتباطها بخالقها اِمتنَّ عز وجل على المسلمين بنصرهم على الفرس في معركة جلولاء وافتتاحه، وكان هذا الفتح من أكبر الفتوحات بعد موقعة المدائن، وكان الجيش الفارسي قد اصطحب النساء والذراري ليكونوا حافزًا لهم على القتال، وعسكروا في مكان يدعى "خانقين" على بعد ثلاثين كيلو مترًا من جلولاء في الشمال الشرقي.
فاتجه المسلمون بعد فتح جلولاء إلى خانقين مباشرة بقيادة سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وسيطر المسلمون على المنطقة وأخذوا ما فيها من الغنائم ومن السبي ومن الذراري، وقُتِلَ في خانقين مهران الرازي قائد الجيش الفارسي في جلولاء الذي هرب من القادسية، ثم من المدائن، ثم من جلولاء، استطاع القعقاع بن عمرو التميمي أن يقتله في خانقين.
وكانت غنائم جلولاء وسبيها من الكثرة حتى إنها وُزِّعَتْ على جيش المسلمين في جلولاء، فكان نصيب الواحد منهم كنصيب أحدهم في المدائن، وقيل: إن الفارس أخذ في هذه المعركة تسعة آلاف درهم، وتسعة من الدواب، وأُرْسِلَ الخُمْسُ إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة مع سيدنا زياد بن أبي سفيان الذي كان كاتب الحملة، أرسله سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى سيدنا عمر في المدينة.
لما قدم زياد بن أبي سفيان المدينة سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحًا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأحب أن يَسْمع المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟ فقام في الناس فَقَصَّ عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا بعبارة عظيمة بليغة، فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المِصْقع. يعني الفصيح، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
فلما قدمت غنائم جلولاء على عمر قال: والله لا يُجنُّه سقف حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموْطِنُ شكرٍ. فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، إن هذا الأمر لهو أشد ما أخاف على المسلمين، وبالله ما أَعطَى الله هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم، وضاعت هيبتهم.
ووزع سيدنا عمر بن الخطاب سبي جلولاء وكان كثيرًا؛ فكان المسلم ينال أكثر من واحدة من السبي، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يخاف على المسلمين من هذا السبي أن يقعدوهم عن الجهاد في سبيل الله، وكان دائم الاستعاذة من سبي جلولاء لكثرته.
ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى القعقاع بن عمرو التميمي بأن يتقدم في اتجاه "حلوان" حيث يوجد يزدجرد، وكعادة يزدجرد هرب من حلوان إلى الشمال إلى منطقة تسمى الري بالقرب من بحر قزوين وترك حلوان خالية؛ فتقدم سيدنا القعقاع إليها فوجد على مقربة منها حامية قليلة على رأسها دهقان حلوان، فهزمها بسهولة وسيطر على مدينة حلوان كلها.
بعد فتح حلوان أرسل سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حملات لتطهير المنطقة، فأرسل حملة بقيادة سيدنا جرير بن عبد الله -وهو من قبيلة بجيلة وأحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - إلى مدينة شهرزور وفتحها صلحًا ولم يكن فيها قتال يذكر، وصالح أهلها سيدنا جرير على الجزية، وتقدم سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الجيوش في الاتجاه الغربي وفتح كل هذه المنطقة، ودانت هذه المنطقة للمسلمين في هذا الوقت.
وبعد سيطرة القعقاع على حلوان ولَّى عليها قباذ وهو مسلم فارسي، وأول فارسي يُؤَمَّر على مدينة فارسية.
فتح تكريت
في ذلك الوقت الذي دخل فيه المسلمون فاتحين مدينة حلوان ومن قبلها جلولاء، تحرك الجيش الموجود في المدائن بقيادة عبد الله بن المعتم رضى الله عنه قائد ميمنة المسلمين في القادسية (وكان قد خرج في الوقت نفسه الذي خرج فيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء كما ذكرنا في نهاية ربيع الأول وبداية ربيع الآخر) من المدائن إلى تكريت وهي على مسافة مائتين وعشرين كيلو مترًا من المدائن شمالاً حيث يواجه الجيش القادم من الموصل إلى تكريت، وكان فيه جموع من الفرس والعرب والروم فيصل إليها ويحاصرها، وكانت تكريت كجلولاء في شدة الحصانة وقوة المنعة، حيث تقع المدينة على الجانب الغربي من نهر دجلة مباشرة، أما الجانب الشمالي والشرقي والجنوبي فيحيطه خندق ليحمي المدينة، ويحاصر سيدنا عبد الله بن المعتم المدينة مدة تقدر بأربعين يومًا وكان الحصار شديدًا، وكانت قوة هذه الجموع أقل من الجموع الفارسية في جلولاء لكونها مختلطة من الفرس والروم والعرب؛ فسبَّبَ هذا الاختلاف ضعفًا في هذا الجيش، وفي مدة الحصار خرج الفرس في أربعة وعشرين زحفًا تقريبًا حيث كان الزحف يتكرر كل يومين، وانتصر المسلمون على كل زحف زحفه الفرس عليهم، وكان جيش المسلمين خمسة آلاف مقاتل فقط.
عزم الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، لما رأوا من ظَفَرِ المسلمين، خاصة أن هذه الحرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل؛ كما أن جيوشهم في الشام تحارب جيوشًا إسلامية هناك، فعزموا على الانسحاب بقواتهم فوق السفن في نهر الفرات في طريقهم إلى الشمال هروبًا من الجيش الإسلامي، ولما علم بذلك عبد الله بن المعتم راسل من هنالك من الأعراب خفية، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة على أهل البلد، والأمان لكم إن انتصرنا عليهم، ورأى الأعراب أن الروم بدءوا بالهروب، والقوة الفارسية محاصرة في جلولاء ومحاصرة معهم في تكريت، فجاءت الردود إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأَقِرُّوا بما جاء من عند الله؛ ولم يكن سيدنا عبد الله بن المعتم واثقًا بإسلام الأعراب، فوضع خطة حتى لا يغدروا بالمسلمين إن كانوا كاذبين.
فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا، واقتلوا من قدرتم عليه، وأمسكوا علينا أبواب السفن، وامنعوهم أن يركبوا فيها. ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلاً ذريعًا، فظنَّ الفرس أن المسلمين جاءوهم من خلفهم فهُرِعُوا إلى أبواب الحصن ليهربوا؛ فوجدوا عبد الله بن المعتم بأصحابه بالباب واقفين فَقُتِلَ جميع أهل البلد على بكرة أبيهم، ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وأرسل عبد الله بن المعتم "رِبْعِيّ بن الأَفْكَل" قائد مقدمته في تكريت إلى الحصنين، وهما "نِينَوَى" و"الموصل" (وهما على بُعْدِ أربعمائة كيلو متر من المدائن. ونينوى بها قبر سيدنا يونس عليه السلام ومنها الرجل الذي قابل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إقفاله من الطائف "عَدَّاس"، وتسمى نينوى الحصن الشرقي، وتسمى الموصل الحصن الغربي)، وقال: اسبق الخبر، وسِرْ ما دون القيل، وأحيِ الليل. وسَرَّحَ معه تغلب وإياد والنمر، فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم، ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح ودفع الجزية، وبذلك صاروا ذمة، وقد فتحت تكريت والموصل ونينوى قبل فتح جلولاء.
بعد فتح جلولاء وخانقين وحلوان يتخذ سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرارًا من أعجب قراراته، وكان لهذا القرار الأثر الكبير على الجيش الإسلامي والجيش الفارسي نفسه، حيث لم يتوقع أحد من الجيش الفارسي أن يوقف سيدنا عمر بن الخطاب الفتوحات في الدولة الفارسية، ويتخذ قرارًا كهذا في مثل هذا الوقت.
________________________________________________
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى