- حمدي عبد الجليلالمشرف العام
- عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
كربلاء والمتاجرة بدماء الأشراف الجزء الأول
الخميس 08 ديسمبر 2011, 23:10
كربلاء والمتاجرة بدماء الأشراف الجزء الأول
د. أحمد عبد الحميد عبد الحق
أكثر من ثلاثة عشر قرنًا مرت على تلك الفاجعة التي راح فيها حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي سنين طويلة بالنسبة لأعمار البشر، وبدلاً من أن نأخذ العبرة من تلك الفاجعة التي حلت بالأمة الإسلامية جمعاء, نتيجة الدماء الزكية التي سالت فيها والأرواح الطاهرة التي أزهقت في أراضي كربلاء تركنا التاريخ وماضيه.
نعم تركنا التاريخ, فلم نسع لتلاشي الانقسامات بين الأمة الإسلامية التي تهدر فيها آلاف, بل ملايين الأرواح، فضلاً عن الأموال التي تنفق، والمشاريع التي تعطل، والبيوت التي تهدم، والمصانع التي تخرب، والمزارع التي تبور، وهذا كله قد أصاب أمتنا يوم أن افترقت في مهدها بعد استشهاد عثمان t على أيدي الرعاع المنافقين, حتى تطور الأمر إلى قيام معسكرين كبيرين للمسلمين يتقاتلان، أحدهما في العراق، والآخر في الشام.
تركنا التاريخ, ولم نذكّر أنفسنا بأن المشورة هي السبيل الأوحد لوحدة الأمة الإسلامية، حيث تصل بهم إلى اختيار حكومة ناضجة تجبر الجميع على السمع والطاعة لها، فلو ظل أمر المسلمين قائمًا على الشورى كما كان سائدًا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث ما حدث.
تركنا التاريخ، ولم نتذكر أن هناك أعداء للأمة الإسلامية ومغررين طالما يدفعون بالإنسان إلى خوض الغمار دون أن يحسب لعاقبتها حسبة، كما فعل رعاع الشيعة مع الحسين رضى الله عنه، حيث أغروه بالخروج على يزيد بن معاوية، وأوهموه بأن الأمر ميسور ثم تخلوا عنه في اللحظة الحاسمة, ليلقى مصيره المؤلم.
فهؤلاء الذين كتبوا إليه يقولون: "إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي فأقدم علينا"[1], والذين كتبوا إليه يقولون: "بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين ..أما بعد: فحيهلا فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، والسلام عليك"[2], هم أنفسهم الذين انفضوا عن ابن عمه مسلم بن عقيل, لما أرسله إليهم ليأخذ له منهم البيعة..
يقول أبو مخنف -وهو راوٍ شيعي- يحدث عن أجداده الذين عاصروا الواقعة: بعث عبد الله بن زياد رجلاً يسمى كثير بن شهاب, فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدًا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب؛ حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها، فلما سمع مقالته الناس, أخذوا يتفرقون وينصرفون..
حتى إن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه, فيقول: غدًا يأتيك أهل الشام, فما تصنع بالحرب والشر؟! انصرف، فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون, حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسًا في المسجد، حتى صليت المغرب، فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسًا، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر, خرج متوجهًا نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحدًا يدله على الطريق[3].
وهؤلاء هم الذين خرجوا برفقة الحسين رضى الله عنه, حتى إذا رأوا الجد قرب كربلاء انفضوا عنه وتركوه وأهل بيته لا يتجاوزن المائة أو أقل.
تركنا التاريخ, ولم نتذكر أن الغفلة عن المنحرفين يورد الأمة الإسلامية المهالك، فلو أن عثمان رضى الله عنه تشدد مع المنحرفين حتى استأصل شكوتهم ما حدث ما حدث، ولو أن عليًّا رضى الله عنه وصل إلى اتفاق تام مع طلحة والزبير رضى الله عنه في ضرورة التخلص من هؤلاء المنحرفين مهما كانت التكلفة, لاستراح المسلمون من شرهم على مر التاريخ.
ولو أن النعمان بن بشير رضى الله عنه -وكان أمير الكوفة قبيل وقعة كربلاء- اشتد مع هؤلاء الذين كاتبوا الحسين سرًّا، واجتمعوا على مسلم بن عقيل ما حدث ما حدث، ولكنه آثر السلامة، وكل ما فعله أنه لما علم بتحركاتهم جمع الناس في المسجد وخطب فيهم قائلاً: "اتقوا الله عباد الله, ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال، وقال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليَّ، ولا أشاتمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم, فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل"..
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية, فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: "أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله", ثم نزل[4].
تركنا التاريخ, ولم نتذكر أن سعي الحكام للجلوس مع المصلحين والاستماع إلى آرائهم خير من صدامهم، هذا الصدام الذي قد ينتج عنه ما لا يحمد عقباه بالنسبة للأمة والحاكم على السواء، فلو سعى يزيد إلى الالتقاء بالحسين رضى الله عنه, الذي لم يكن ينوي سوى الصلاح للأمة وتفهم وجهة نظره, لما حدث ما حدث.
تركنا التاريخ, ولم نعد نتذكر أن الإنسان مهما كانت نيته ومقصده حسنًا لا بد من الاستماع لنصح الناصحين، فلو أن الحسين رضى الله عنه استمع لنصح أقربائه الذين حذروه من مغبة الإنصات للمتهورين من الشيعة لما حدث ما حدث، ولو أنه استمع لنصح الناصحين الذين نصحوه بأن الضرر المرتقب من خروجه قد يكون أكبر من النفع الذي يرتجيه لما حدث ما حدث.
وهؤلاء كانوا كثيرين نذكر منهم أخاه محمد ابن الحنفية, الذي قال له: يا أخي أنت أحب الناس إليَّ، وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك, فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا من هذه الأمصار, وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون، فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا وأبًا وأمًّا أضيعها دمًا وأذلها أهلاً[5].
وعبد الله بن عمر رضى الله عنه الذي قال له ولعبد الله بن الزبير y لما علم بعزمهما على الخروج على يزيد: "اتقيا الله, ولا تفرقا جماعة المسلمين"[6].
وعبد الله بن مطيع الذي قال له: "إياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه"[7].
نعم لقد تركنا التاريخ, ولم نعد نتذكر أن المتشيعة الذين حضوا الحسين على الخروج ثم تخلوا عنه ليلقى مصيره المؤلم والمفجع, هم الذين ما زالوا يتباكون على مقتله حتى الآن، وهم لا يبكون على مقتله حزنًا عليه ولا حبًّا فيه, وإنما فقط ليثيروا حمية العوام من الناس ويستعطفوهم ضد أهل السنة بزعم أنهم شركاء في قتله..
ومثل هؤلاء ليس في قلبهم ذرة من حب لا للحسين رضى الله عنه، ولا لأحد من أهل بيته الشرفاء، إنهم فقط يتاجرون بدمائهم، ولو كانوا يحبون الحسين لثاروا على من بدل وغير حكم الله، ولو كانوا يحبون الحسين ما رضوا لسادتهم أن يتحالفوا مع الأمريكان في خراب أوطانهم بعد احتلالها، ولو كانوا يحبون الحسين ما تعاونوا مع الموساد اليهودي؛ لقتل المئات من خيار العلماء الذين تخصصوا في مجال العلوم التجريبية, أي ليسوا علماء دين فيتذرعوا بمخالفتهم لهم.
إنهم فقط يتاجرون بدماء الحسين يوم عاشوراء، ولو كانوا يحبون الحسين وآل بيته لما رضوا أن يولوا غيرهم بعد أن مكن لهم في الأرض، وصارت لهم دولة في إيران ودولة في العراق، ولا يوجد على الإطلاق رجل واحد من آل البيت ضمن حكومة إيران الحالية، ولا يوجد وزير واحد من آل البيت ضمن حكومة العراق الشيعية الآن، حتى العلماء، وحتى ولاة الفقيه, لم أسمع أن مرجعًا منهم ينتسب إلى الحسين tرضى الله عنه.
قالوا للعوام من الناس: إنه لا تصح الولاية إلا في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الولي أبا بكر رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته, والذي قرن ذكره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40], فلما تملكوا البلاد وجدناهم أحرص الناس على تنحية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الولاية.
قالوا: إن الإمام من آل البيت هو الأحق بالطاعة، ورغم ذلك جعلوا مرجعيتهم الأولى لأناس من غير العرب, وليسوا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون لهم ويطيعون.
فيا معشر المسلمين! أحبوا نبيكم وبالغوا في حبه، وأحبوا آل بيت نبيكم، وبالغوا في حبهم وتكريمهم، ولكن لا تنخدعوا بدعوات هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتاجرون بدماء الأشراف، فما قال لكم الحسين رضى الله عنه: الطموا عليَّ الخدود، ولا قال لكم: شقوا عليَّ الجيوب، ولا قال لكم: نوحوا عليَّ في الطرقات، وإنما قال لكم عليكم بهدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"[8].
وأخيرًا أقول للقائمين على الأمر: لا تتركوا التاريخ, وتذكروا أن السعي لإرضاء المنحرفة من المتشيعة وغيرهم، ومجاراتهم في باطلهم، لن يجعلهم يرضوا عنكم، بل سيظل كيدهم في صدورهم مهما فرطتم في تعاليم ربكم، وأذكركم فقط بتلك الرواية التي ذكر فيها الطبري أن أحد رؤساء المتشيعة وكان يسمى شريك بن الأعور تظاهر بالمرض، ثم اتفق مع بعض أعوانه أنه يبلغ الأمير عبيد الله بن زياد بمرضه, فإذا ما أتى لزيارته تآمروا عليه وقتلوه..
وبالفعل لما علم عبيد الله بمرضه أقبل من العشاء لزيارته؛ لعله يذهب شحناء قلبه، فدخل فجلس فسأل شريكًا عن وجعه, وقال: ما الذي تجد؟ ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إياه, ورأى شريك أن هانئ الذي اتفق معه على قتله لا يخرج, خشي أن يفوته, فأخذ يقول:
ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها *** اسقينها وإن كانت فيها نفسي
فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال عبيد الله ولا يفطن ما شأنه: أترونه يهجر؟ فقال له هانئ: نعم -أصلحك الله- ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه[9], فاتعظوا يا أولي اللباب!.
د. أحمد عبد الحميد عبد الحق
أكثر من ثلاثة عشر قرنًا مرت على تلك الفاجعة التي راح فيها حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي سنين طويلة بالنسبة لأعمار البشر، وبدلاً من أن نأخذ العبرة من تلك الفاجعة التي حلت بالأمة الإسلامية جمعاء, نتيجة الدماء الزكية التي سالت فيها والأرواح الطاهرة التي أزهقت في أراضي كربلاء تركنا التاريخ وماضيه.
نعم تركنا التاريخ, فلم نسع لتلاشي الانقسامات بين الأمة الإسلامية التي تهدر فيها آلاف, بل ملايين الأرواح، فضلاً عن الأموال التي تنفق، والمشاريع التي تعطل، والبيوت التي تهدم، والمصانع التي تخرب، والمزارع التي تبور، وهذا كله قد أصاب أمتنا يوم أن افترقت في مهدها بعد استشهاد عثمان t على أيدي الرعاع المنافقين, حتى تطور الأمر إلى قيام معسكرين كبيرين للمسلمين يتقاتلان، أحدهما في العراق، والآخر في الشام.
تركنا التاريخ, ولم نذكّر أنفسنا بأن المشورة هي السبيل الأوحد لوحدة الأمة الإسلامية، حيث تصل بهم إلى اختيار حكومة ناضجة تجبر الجميع على السمع والطاعة لها، فلو ظل أمر المسلمين قائمًا على الشورى كما كان سائدًا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث ما حدث.
تركنا التاريخ، ولم نتذكر أن هناك أعداء للأمة الإسلامية ومغررين طالما يدفعون بالإنسان إلى خوض الغمار دون أن يحسب لعاقبتها حسبة، كما فعل رعاع الشيعة مع الحسين رضى الله عنه، حيث أغروه بالخروج على يزيد بن معاوية، وأوهموه بأن الأمر ميسور ثم تخلوا عنه في اللحظة الحاسمة, ليلقى مصيره المؤلم.
فهؤلاء الذين كتبوا إليه يقولون: "إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي فأقدم علينا"[1], والذين كتبوا إليه يقولون: "بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين ..أما بعد: فحيهلا فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، والسلام عليك"[2], هم أنفسهم الذين انفضوا عن ابن عمه مسلم بن عقيل, لما أرسله إليهم ليأخذ له منهم البيعة..
يقول أبو مخنف -وهو راوٍ شيعي- يحدث عن أجداده الذين عاصروا الواقعة: بعث عبد الله بن زياد رجلاً يسمى كثير بن شهاب, فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدًا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب؛ حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها، فلما سمع مقالته الناس, أخذوا يتفرقون وينصرفون..
حتى إن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه, فيقول: غدًا يأتيك أهل الشام, فما تصنع بالحرب والشر؟! انصرف، فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون, حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسًا في المسجد، حتى صليت المغرب، فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسًا، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر, خرج متوجهًا نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحدًا يدله على الطريق[3].
وهؤلاء هم الذين خرجوا برفقة الحسين رضى الله عنه, حتى إذا رأوا الجد قرب كربلاء انفضوا عنه وتركوه وأهل بيته لا يتجاوزن المائة أو أقل.
تركنا التاريخ, ولم نتذكر أن الغفلة عن المنحرفين يورد الأمة الإسلامية المهالك، فلو أن عثمان رضى الله عنه تشدد مع المنحرفين حتى استأصل شكوتهم ما حدث ما حدث، ولو أن عليًّا رضى الله عنه وصل إلى اتفاق تام مع طلحة والزبير رضى الله عنه في ضرورة التخلص من هؤلاء المنحرفين مهما كانت التكلفة, لاستراح المسلمون من شرهم على مر التاريخ.
ولو أن النعمان بن بشير رضى الله عنه -وكان أمير الكوفة قبيل وقعة كربلاء- اشتد مع هؤلاء الذين كاتبوا الحسين سرًّا، واجتمعوا على مسلم بن عقيل ما حدث ما حدث، ولكنه آثر السلامة، وكل ما فعله أنه لما علم بتحركاتهم جمع الناس في المسجد وخطب فيهم قائلاً: "اتقوا الله عباد الله, ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال، وقال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليَّ، ولا أشاتمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم, فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل"..
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية, فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: "أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله", ثم نزل[4].
تركنا التاريخ, ولم نتذكر أن سعي الحكام للجلوس مع المصلحين والاستماع إلى آرائهم خير من صدامهم، هذا الصدام الذي قد ينتج عنه ما لا يحمد عقباه بالنسبة للأمة والحاكم على السواء، فلو سعى يزيد إلى الالتقاء بالحسين رضى الله عنه, الذي لم يكن ينوي سوى الصلاح للأمة وتفهم وجهة نظره, لما حدث ما حدث.
تركنا التاريخ, ولم نعد نتذكر أن الإنسان مهما كانت نيته ومقصده حسنًا لا بد من الاستماع لنصح الناصحين، فلو أن الحسين رضى الله عنه استمع لنصح أقربائه الذين حذروه من مغبة الإنصات للمتهورين من الشيعة لما حدث ما حدث، ولو أنه استمع لنصح الناصحين الذين نصحوه بأن الضرر المرتقب من خروجه قد يكون أكبر من النفع الذي يرتجيه لما حدث ما حدث.
وهؤلاء كانوا كثيرين نذكر منهم أخاه محمد ابن الحنفية, الذي قال له: يا أخي أنت أحب الناس إليَّ، وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك, فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا من هذه الأمصار, وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون، فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا وأبًا وأمًّا أضيعها دمًا وأذلها أهلاً[5].
وعبد الله بن عمر رضى الله عنه الذي قال له ولعبد الله بن الزبير y لما علم بعزمهما على الخروج على يزيد: "اتقيا الله, ولا تفرقا جماعة المسلمين"[6].
وعبد الله بن مطيع الذي قال له: "إياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه"[7].
نعم لقد تركنا التاريخ, ولم نعد نتذكر أن المتشيعة الذين حضوا الحسين على الخروج ثم تخلوا عنه ليلقى مصيره المؤلم والمفجع, هم الذين ما زالوا يتباكون على مقتله حتى الآن، وهم لا يبكون على مقتله حزنًا عليه ولا حبًّا فيه, وإنما فقط ليثيروا حمية العوام من الناس ويستعطفوهم ضد أهل السنة بزعم أنهم شركاء في قتله..
ومثل هؤلاء ليس في قلبهم ذرة من حب لا للحسين رضى الله عنه، ولا لأحد من أهل بيته الشرفاء، إنهم فقط يتاجرون بدمائهم، ولو كانوا يحبون الحسين لثاروا على من بدل وغير حكم الله، ولو كانوا يحبون الحسين ما رضوا لسادتهم أن يتحالفوا مع الأمريكان في خراب أوطانهم بعد احتلالها، ولو كانوا يحبون الحسين ما تعاونوا مع الموساد اليهودي؛ لقتل المئات من خيار العلماء الذين تخصصوا في مجال العلوم التجريبية, أي ليسوا علماء دين فيتذرعوا بمخالفتهم لهم.
إنهم فقط يتاجرون بدماء الحسين يوم عاشوراء، ولو كانوا يحبون الحسين وآل بيته لما رضوا أن يولوا غيرهم بعد أن مكن لهم في الأرض، وصارت لهم دولة في إيران ودولة في العراق، ولا يوجد على الإطلاق رجل واحد من آل البيت ضمن حكومة إيران الحالية، ولا يوجد وزير واحد من آل البيت ضمن حكومة العراق الشيعية الآن، حتى العلماء، وحتى ولاة الفقيه, لم أسمع أن مرجعًا منهم ينتسب إلى الحسين tرضى الله عنه.
قالوا للعوام من الناس: إنه لا تصح الولاية إلا في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الولي أبا بكر رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته, والذي قرن ذكره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40], فلما تملكوا البلاد وجدناهم أحرص الناس على تنحية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الولاية.
قالوا: إن الإمام من آل البيت هو الأحق بالطاعة، ورغم ذلك جعلوا مرجعيتهم الأولى لأناس من غير العرب, وليسوا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون لهم ويطيعون.
فيا معشر المسلمين! أحبوا نبيكم وبالغوا في حبه، وأحبوا آل بيت نبيكم، وبالغوا في حبهم وتكريمهم، ولكن لا تنخدعوا بدعوات هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتاجرون بدماء الأشراف، فما قال لكم الحسين رضى الله عنه: الطموا عليَّ الخدود، ولا قال لكم: شقوا عليَّ الجيوب، ولا قال لكم: نوحوا عليَّ في الطرقات، وإنما قال لكم عليكم بهدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"[8].
وأخيرًا أقول للقائمين على الأمر: لا تتركوا التاريخ, وتذكروا أن السعي لإرضاء المنحرفة من المتشيعة وغيرهم، ومجاراتهم في باطلهم، لن يجعلهم يرضوا عنكم، بل سيظل كيدهم في صدورهم مهما فرطتم في تعاليم ربكم، وأذكركم فقط بتلك الرواية التي ذكر فيها الطبري أن أحد رؤساء المتشيعة وكان يسمى شريك بن الأعور تظاهر بالمرض، ثم اتفق مع بعض أعوانه أنه يبلغ الأمير عبيد الله بن زياد بمرضه, فإذا ما أتى لزيارته تآمروا عليه وقتلوه..
وبالفعل لما علم عبيد الله بمرضه أقبل من العشاء لزيارته؛ لعله يذهب شحناء قلبه، فدخل فجلس فسأل شريكًا عن وجعه, وقال: ما الذي تجد؟ ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إياه, ورأى شريك أن هانئ الذي اتفق معه على قتله لا يخرج, خشي أن يفوته, فأخذ يقول:
ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها *** اسقينها وإن كانت فيها نفسي
فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال عبيد الله ولا يفطن ما شأنه: أترونه يهجر؟ فقال له هانئ: نعم -أصلحك الله- ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه[9], فاتعظوا يا أولي اللباب!.
________________________________________________
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى