منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:04

تلبيس إبليس

الباب الخامس: في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات.
ذكر تلبيسه على السوفسطائية.1
قال الشيخ هؤلاء قوم ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا زعموا أن الأشياء لا حقيقة لها وأن ما يستبعده يجوز أن يكون على ما نشاهده ويجوز أن يكون على غير ما نشاهده وقد أورد العلماء عليهم بأن قالوا لمقالتكم هذه حقيقة أم لا فإن قلتم لا حقيقة لها وجوزتم عليها البطلان فكيف يجوز أن تدعوا إلى ما لا حقيقة له فكأنكم تقرون بهذا القول أنه لا يحل قبول قولكم وإن قلتم لها حقيقة فقد تركتم مذهبكم وقد ذكر مذهب هؤلاء أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الآراء والديانات فقال رأيت كثيرا من المتكلمين قد غلطوا في أمر هؤلاء غلطا بينا لأنهم ناظروهم وجادلوهم وراموا بالحجاج والمناظرة الرد عليهم وهم لم يثبتوا حقيقة ولا أقروا بمشاهدة فكيف تكلم من يقول لا أدري أيكلمني أم لا وكيف تناظر من يزعم أنه لا يدري أموجود هو أم معدوم وكيف تخاطب من يدعي أن المخاطبة بمنزلة السكوت في الابانه وأن الصحيح بمنزلة الفاسد قال ثم إنه إنما يناظر من يقر بضرورة أو يعترف بأمر فيجعل ما يقر سببا إلى تصحيح ما يجحده فأما من لا يقر بذلك فمجادلته مطروحة قال الشيخ وقد رد هذا الكلام أبو الوفاء بن عقيل فقال إن أقواما قالوا كيف نكلم هؤلاء وغاية ما يمكن المجادلة أن يقرب المعقول إلى المحسوس ويستشهد بالشاهد فيستدل به على الغائب وهؤلاء لا يقولون بالمحسوسات فبم يكلمون قال وهذا كلام ضيق العطن ولا ينبغي أن
ـــــــ
1 اعلم أن السوفسطائية انقسمت ثلاث مذاهب: الأول ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام وهم العنادية والثاني ينكر العلم بثبوت الشيء ولا بعدم ثبوته ولا ينكر نفس الحقائق ولا يثبتها ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهم اللاأدرية والثالث يزعم أن الحقائق تابعة للاعتقادات مع كونه ينكر ثبوتها وهم العندية وهي مذكورة في كلام المصنف على هذا الترتيب.
(1/38)




يوئس عن المعالجة هؤلاء فإن ما اعتراهم ليس بأكثر من الوسواس ولا ينبغي أن يضيق عطننا من معالجتهم فإنهم قوم أخرجتهم عوارض انحراف مزاج وما مثلنا ومثلهم إلا كرجل رزق ولدا أحول فلا يزال يرى القمر بصورة قمرين حتى إنه لم يشك أن في السماء قمرين فقال له أبوه القمر واحد وإنما السوء في عينيك غض عينك الحولاء وأنظر فلما فعل قال أرى قمرا واحدا لأني عصبت إحدى عيني فغاب أحدهما فجاء من هذا القول شبهة ثانية فقال له أبوه إن كان ذلك كما ذكرت فغض الصحيحة ففعل فرأى قمرين فعلم صحة ما قال أبوه.
أنبأنا نا محمد بن ناصر نا الحسن بن أحمد بن البنا ثنا ابن دودان نا أبو عبد الله المرزناني ثني أبو عبد الله الحكيمي ثني يموت بن المزرع ثني محمد بن عيسى النظام قال مات ابن لصالح بن عبد القدوس فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث كالمتوجع له فرآه منحرفا فقال له أبو الهذيل لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع فقال له صالح يا أبا الهذيل إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له أبو الهذيل وما كتاب الشكوك قال هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان فقال له النظام فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات فشك أيضا في أنه قد قرأ الكتاب وإن كان لم يقرأه وحكى أبو القاسم البلخي أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إلى بعض المتكلمين فأتاه مرة فناظره فأمر المتكلم بأخذ دابته فلما خرج لم يرها فرجع فقال سرقت دابتي فقال ويحك لعلك لم تأتي راكبا قال بلى قال فكر قال هذا أمر أتيقنه فجعل يقول له تذكر فقال ويحك ويحك ما هذا موضع تذكر أنا لا أشك أنني جئت راكبا قال فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء وإن حال اليقظان كحال النائم فوجم السوفسطائي ورجع عن مذهبه.

ذكر تلبيس الشيطان على فرق الفلاسفة
فصل: قال النوبختي قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مرا ويجده غيره حلوا قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه محدث عند من اعتقد حدوثه واللون جسم عند من اعتقده جسما وعرض عند من اعتقده عرضا قالوا فلو توهمنا عدم المعتقدين وقف الأمر على وجود من يعتقد وهؤلاء من جنس السوفسطائية فيقال لهم أقولكم صحيح فسيقولون هو صحيح عندنا باطل عند خصمنا قلنا دعواكم صحة قولكم مردودة وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ومن شهد على قولهم
(1/39)




بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ومما يقال لهم أتثبتون للمشاهدة حقيقة فإن قالوا لا لحقوا بالأولين وإن قالوا حقيقتها على حسب الاعتقاد فقد نفوا عنها الحقيقة في نفسها وصار الكلام معهم كالكلام مع الأولين.
فصل: قال النوبختي ومن هؤلاء من قال إن العالم في ذوب وسيلان قالوا ولا يمكن الإنسان أن يتفكر في الشيء الواحد مرتين لتغير الأشياء دائما فيقال لهم كيف علم هذا وقد أنكرتم ثبوت ما يوجب العلم وربما كان أحدكم الذي يجيبه الآن غير الذي كلمه.
(1/40)




ذكر تلبيسه على الدهرية
قال المصنف قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله ولا صانع وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه وهل يشك ذو عقل في وجود صانع فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد له من بان بناه فهذا المهاد الموضوع وهذا السقف المرفوع وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة أما تدل على صانع وما أحسن ما قال بعض العرب إن البعرة تدل على البعير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على اللطيف الخبير ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلا ولشفت غليلا فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب ومن تأمل تحديد الأسنان لتقطع وتقريض الأضراس لتطحن واللسان يقلب الممضوغ وتسليط الكبد على الطعام ينضجه ثم ينفذ إلى كل جارحة قدر ما تحتاج إليه من الغذاء وهذه الأصابع التي هيئت فيها العقد لتطوي وتنفتح فيمكن العمل بها ولم تجوف لكثرة عملها إذ لو جوفت لصدمها الشيء القوي فكسرها وجعل بعضها أطول من بعض لتستوي إذا ضمت وأخفي في البدن ما فيهقوامه وهي النفس التي إذا ذهبت فسد العقل الذي يرشد إلى المصالح وكل شيء من هذه الأشياء ينادي أفي الله شك وإنما يخبط الجاحد لأنه طلبه من حيث الحس ومن الناس من جحده لأنه لما أثبت وجوده من حيث الجملة لم يدركه من حيث التفصيل فجحد أصل الوجود ولو أعمل هذا فكره لعلم أن لنا أشياء لا تدرك إلا جملة كالنفس والعقل ولم يمتنع أحد من إثبات وجودهما وهل الغاية إلا إثبات الخلق جملة وكيف يقال كيف هو أو ما هو ولا كيفية له ولا ماهية ومن الأدلة القطعية على وجوده أن العالم حادث بدليل أنه لا يخلو من الحوادث وكل ما لا ينفك عن الحوادث حادث ولا بد لحدوث هذا الحادث
(1/40)




من مسبب وهو الخالق سبحانه وللملحدين اعتراض يتطاولون به على قولنا لا بد للصنعة من صانع فيقولون إنما تعلقتم في هذا بالشاهد وإليه نقاضيكم فنقول كما أنه لا بد للصنعة من صانع فلا بد للصورة الواقعة من الصانع من مادة تقع الصورة فيها كالخشب لصورة الباب والحديد لصورة الفأس قالوا فدليلكم الذي تثبتون به الصانع يوجب قدم العالم فالجواب أنه لا حاجة بنا إلى مادة بل نقول إن الصانع اخترع الأشياء اختراعا فإنا نعلم أن الصور والأشكال المتجددة في الجسم كصورة الدولاب ليس لها مادة وقد اخترعها ولا بد لها من مصور فقد أريناكم صورة وهي شيء جاءت لا من شيء ولا يمكنكم أن ترونا صنعة جاءت لا من صانع.
(1/41)




ذكر تلبيسه على الطبائعيين1
قال المصنف: لما رأى إبليس قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لا بد للمصنوع من صانع حسن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة وقال ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه فدل على أنها الفاعلة وجواب هذا نقول اجتماع الطبائع على وجودها لا على فعلها ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها وامتزاجها وذلك يخالف طبيعتها فدل على أنها مقهورة وقد سلموا أنها ليست بحية ولا عالمة ولا قادرة ومعلوم أن الفعل المنسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم فكيف يفعل من ليس عالما وليس قادرا فإن قالوا ولو كان الفاعل حكيما لم يقع في بنائه خلل ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة فعلم أنه بالطبع قلنا ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء والردع والعقوبة أو في طية منافع لا نعلمها ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع في نيسان على أنواع من الحبوب فترطب الحصرم والخلالة وتنشف البرة وتيبسها ولو فعلت طبعا لأيبست الكل أو رطبته فلم يبق إلا أن الفاعل المختار استعملها بالمشيئة في يبس هذه للادخار والنضج في هذه للتناول والعجب أن الذي أوصل إليها اليبس في أكنة2 لا يلقى جرمها والذي رطبها يلقى جرمها ثم إنها تبيض ورد الخشخاش وتحمر الشقائق وتحمض الرمان وتحلي العنب والماء
ـــــــ
1 الطبائعيين نسبة إلى الطبيائع الأربعة هي التراب والماء والنار والهواء على مذهبهم هداهم الله إلى صراطه المستقيم ويعتقدون أنها أصول كل شيء.
2 الأكنة الأغطية واحد الأكنان قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي أغطية.
(1/41)




واحد وقد أشار المولى إلى هذا بقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} .
(1/42)




ذكر تلبيسه على الثنوية
وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فجوهر النور فاضل حسن نير صاف نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه نفس خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخير واللذة والسرور والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر وجوهر الظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسه نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة ضرارة منها الشر والفساد1 كذا حكاه النوبختي عنهم قال وزعم بعضهم أن النور لم يزل فوق الظلمة وقال بعضهم بل كل واحد إلى جانب الآخر وقال أكثرهم النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في ناحية الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه قال النوبختي وزعموا أن كل واحد منهما له أجناس خمسة أربعة منها أبدان وخامس هو الروح وأبدان النور أربعة النار والريح والتراب والماء وروحه الشبح ولم تزل تتحرك في هذه الأبدان وأبدان الظلمة أربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت وبعضهم يقول الظلمة تتوالد شياطين والنور يتوالد ملائكة وأن النور لا يقدر على الشر ولا يجوز منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا تجوز منه وذكر لهم مذاهب مختلفة فيما يتعلق بالنور والظلمة ومذاهب سخيفة فمنها أنه فرض عليهم ألا يدخرون إلا قوت يوم وقال بعضهم على الإنسان صوم سبع العمر وترك الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنى والسرقة وأن لا يؤذي ذا روح في مذاهب طريفة اخترعوها بواقعاتهم الباردة وذكر يحيى بن بشر النهاوندي أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم2 كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم الباري الذي هو النور زمانا فتأذى بها فلما
ـــــــ
1 أنظر أهداف سورة الكهف ص98 وما بعدها.
2 وفي نسخة طينة العالم .
(1/42)




طال عليه ذلك قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب منها هذا العالم النوري والظلمي فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يخلصون بذلك النور من الظلمة مذاهب سخيفة والذي حملهم على هذا أنهم رأوا في العالم شرا واختلافا فقالوا لا يكون من أصل واحد شيئان مختلفان كما لا يكون من النار التبريد والتسخين وقد رد العلماء عليهم في قولهم إن الصانع اثنان فقالوا لو كان اثنين لم يخل أن يكونا
قادرين أو عاجزين أو أحدهما قادر والثاني عاجز لا يجوز أن يكونا عاجزين لأن العجز يمنع ثبوت الألوهيه ولا يجوز أن يكون أحدهما عاجزا فبقي أن يقال هما قادران فتصور فيها أن أحدهما يريد تحريك هذا الجسم في حالة يريد الآخر تسكينه ومن المحال وجود ما يريدانه فإن تم مراد أحدهما ثبت عجز الآخر وردوا عليهم في قولهم إن النور يفعل الخير والظلمة تفعل الشر فإنه لو هرب مظلوم فاستتر بالظلمة فهذا خير قدر صدر من شر ولا ينبغي مد النفس في الكلام مع هؤلاء فإن مذهبهم خرافات.
(1/43)




ذكر تلبيسه على الفلاسفة وتابعيهم
إنما تمكن إبليس من التلبيس على الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إلى الأنبياء فمنهم من قال بقول الدهرية أن لا صانع للعالم حكاه النوبختي وغيره عنهم وحكى النهاوندي أن أرسطاطا ليس وأصحابه زعموا أن الأرض كوكب في جوف هذا الفلك وأن في كل كوكب عوالم كما في هذا الأرض وأنهارا وأشجارا وأنكروا الصانع وأكثرهم أثبت علة قديمة للعالم ثم قال بقدم العالم وأنه لم يزل موجودا مع الله تعالى ومعلولا له ومساويا غير متأخر عنه بالزمان مساواة المعلول للعلة والنور للشمس بالذات والرتبة لا بالزمان فيقال لهم لم أنكرتم أن يكون العالم حادثا بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه فإن قالوا فهذا يوجب أن يكون بين وجود الباري وبين المخلوقات زمان قلنا الزمان مخلوق وليس قبل الزمان زمان ثم يقال لهم كان الحق سبحانه قادرا على أن يجعل سمك الفلك الأعلى أكثر مما هو بذراع أو أقل مما هو بذراع فإن قالوا لا يمكن فهو تعجيز ولأن ما لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا أصغر فوجوده على ما هو عليه واجب لا ممكن والواجب يستغني عن علة وقد ستروا مذهبهم بأن قالوا الله عز وجل صانع العالم وهذا تجوز عندهم لا حقيقة لأن الفاعل مريد لما يفعله وعندهم أن العالم ظهر ضروريا لا أن الله فعله ومن
(1/43)




مذاهبهم أن العالم باق أبدا كما لا بداية لوجوده فلا نهاية قالوا لأنه معلول علة قديمة وكان المعلول مع العلة ومتى كان العالم ممكن الوجود لم يكن قديما ولا معلولا وقد قال جالينوس لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول1 في هذه المدة الطويلة فيقال له قد يفسد الشيء بنفسه بغتة لا بالذبول ثم من أين له أنها لا تذبل فإنها عندهم بمقدار الأرض مائة وسبعين مرة أو نحو ذلك فلو نقص منها مقدار جبل لم يبن ذلك للحس ثم نحن نعلم أن الذهب والياقوت يقبلان الفساد وقد يبقيان سنين ولا يحس نقصانهما وإنما الإيجاد والإعدام بإرادة القادر والقادر لا يتغير في نفسه ولا تحدث له صفة وإنما يتغير الفعل بإرادة قديمة.
فصل: وحكى النوبختي في كتاب الآراء والديانات أن سقراط كان يزعم أن أصول الأشياء ثلاثة علة فاعلة والعنصر والصورة قال والله تعالى هو الفعال2 والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد والصورة جوهر للجسم وقال آخر منهم الله هو العلة الفاعلة والعنصر المنفعل وقال آخر منهم العقل رتب الأشياء هذا الترتيب وقال آخر منهم بل الطبيعة فعلته.
وحكى يحيى بن بشير بن عمير النهاوندي أن قوما من الفلاسفة قالوا لما شاهدنا العالم مجتمعا ومتفرقا ومتحركا وساكنا علمنا أنه محدث ولا بد له من محدث ثم رأينا أن الإنسان يقع في الماء ولا يحسن السباحة فيستغيث بذلك الصانع المدبر فلا يغيثه أو في النار فعلمنا أن ذلك الصانع معدوم قال واختلف هؤلاء في عدم الصانع المدبر على ثلاث فرق فرقة عزمت أنه لما أكمل العالم استحسنه فخشي أن يزيد فيه أو ينقص منه فيفسد فأهلك نفسه وخلا منه العالم وبقيت الأحكام تجري بين حيواناته ومصنوعاته على ما اتفق وقالت الفرقة الثانية بل ظهر في ذات الباري تولول فلم يزل تنجذب قوته ونوره حتى صارت القوة والنور في ذلك التولول وهو العالم وساء نور الباري وكان الباقي منه سنور.
وزعموا أنه سيجذب النور من العالم إليه حتى يعود كما كان ولضعفه عن مخلوقاته أهمل أمرهم فشاع الجور.
ـــــــ
1 يقال ذبل الشيء ضعف وذهبت نضارته.
2 وفي نسخة هو العقل.
(1/44)




وقالت الفرقة الثالثة: بل الباري لما أتقن العالم تفرقت أجزاؤه فيه فكل قوته في العالم فهي من جوهر اللاهوتية قال الشيخ رحمه الله هذا الذي ذكره النهاوندي نقلته من نسخة بالنظامية قد كتبت منذ مائتين وعشرين سنة ولولا أنه قد قيل ونقل في ذكره بيان ما قد فعل إبليس في تلبيسه لكان الأولى الإضراب عن ذكره تعظيما لله عز وجل أن يذكر بمثل هذا ولكن قد بينا وجه الفائدة في ذكره.
فصل: وقد ذهب أكثر الفلاسفة إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه وقد ثبت أن المخلوق يعلم نفسه ويعلم خالقه فقد زادت مرتبة المخلوق على رتبة الخالق.
قال المصنف وهذا أظهر فضيحة من أن يتكلم عليه فانظر إلى ما زينه إبليس لهؤلاء الحمقاء مع ادعائهم كمال العقل وقد خالفهم أبو علي بن سيناء في هذا فقال بل يعلم نفسه ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات وتلقف هذا المذهب منهم المعتزلة وكأنهم استكثروا المعلومات فالحمد لله الذي جعلنا ممن ينفي عن الله الجهل والنقص ونؤمن بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} وذهبوا إلى أن علم الله وقدرته هو ذاته فرارا من أن يثبتوا قديمين وجوابهم أن يقال إنما هو قديم موجود واحد موصوف بصفات الكمال.
فصل: قال المصنف وقد أنكرت الفلاسفة بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان ووجود جنة ونار جسمانيين وزعموا أن تلك أمثلة ضربت لعوام الناس ليفهموا الثواب والعقاب الروحانيين وزعموا أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمديا أبدا إما في لذة لا توصف وهي الأنفس الكاملة أو ألم لا يوصف وهي النفوس المتلوثة وقد تتفاوت درجات الألم على مقادير الناس وقد ينمحي عن بعضها الألم ويزول فيقال لهم نحن لا ننكر وجود النفس بعد الموت ولذلك سمي عودها إعادة ولا أن لها نعيما وشقاء ولكن ما المانع من حشر الأجسام ولم ننكر اللذات والآلام الجسمانية في الجنة والنار وقد جاء الشرع بذلك فنحن نؤمن بالجمع بين السعادتين وبين الشقاوتين الروحانية والجسمانية وأما الحقائق في مقام الأمثال فتحكم بلا دليل فإن قالوا الأبدان تنحل وتؤكل وتستحيل قلنا القدرة لا يقف بين يديها شيء على أن الإنسان إنسان بنفسه فلو صنع له البدن من تراب غير التراب الذي خلق منه لم يخرج عن كونه هو هو كما أنه تتبدل أجزاؤه من الصغر إلى الكبر وبالهزال والسمن فإن قالوا لم يكن البدن بدنا حتى يرقى من حالة إلى حالة إلى أن صار لحما وعروفا قلنا قدرة الله سبحانه وتعالى لا تقف على
(1/45)




المفهوم المشاهد ثم قد أخبرنا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأجسام تنبت في القبور قبل البعث وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار نا أبو محمد الجوهري نا عمر بن محمد بن الزيات ثنا قاسم بن زكريا المطرز ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما بين النفختين أربعون1 قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت قال ثم ينزل الله ماء من السماء فينبتون كما ينبت البقل قال وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب2 الذنب منه خلق ومنه يركب الخلق يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين.
فصل: وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة كما ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطا ليس وجالينوس وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمور خفية إلا أنهم لما تكلموا في الالهيات خلطوا ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة والرجوع فيها إلى الشرائع وقد حكى لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلا فصدقوا فيما حكي لهم عنهم ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال فإن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى
ـــــــ
1 هذه رواية مسلم ورواية البخاري المسئول فيها هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنى أبيت امتنعت عن الأخبار بما لا أعلم وقد جاءت مفسرة من رواية غيره في غير مسلم أربعون سنة.
2 هو بفتح العين وإسكان الجيم العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب وهو رأس العصعص.
(1/46)




الإسلام بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق وعلى النبوات ويتكلم في إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فأضر به فهو عامة زمانه في تسخط على الأقذار والاعتراض على المقدر حتى قال لي بعضهم أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك وكان يقول أشعار كثيرة في هذا المعنى فمنها قوله في صفة الدنيا قال:
أتراها صنعة من غير صانع ... أم تراها رمية من رام
وقوله:
واحيرتا من وجود ما تقدمه ... منا1 اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه في عماء ما يخلصنا ... منه ذكاء ولا عقل ولا شرس2
ونحن في ظلمة ما إن لها قمر ... فيها يضيء ولا شمس ولا قبس
مدلهين حيارى قد تكنفنا ... جهل يجهمنا3 في وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل ... والقول فيه كلام كله هوس
فصل: ولما كانت الفلاسفة قريبا من زمان شريعتنا والرهبنة كذلك مد بعض أهل ملتنا يده إلى التمسك بهذه وبعضهم مد يده إلى التمسك بهذه فترى كثيرا من الحمقى إذا نظروا في باب الاعتقاد تفلسفوا وإذا نظروا في باب التزهد ترهبنوا فنسأل الله ثباتا على ملتنا وسلامة من عدونا إنه ولي الإباحة.
ـــــــ
1 وفي نسخة اختبار.
2 أي سوء خلق.
3 أي يلقي بالغلطة.
(1/47)




ذكر تلبيسه على أصحاب الهياكل"
وهم قوم يقولون إن لكل روحاني من الروحانيات العلوية هيكلا أعني جرما من الأجرام السماوية هو هيكله ونسبته إلى الروحاني المختص به نسبة أبداننا إلى أرواحنا فيكون هو مدبره والمتصرف فيه فمن جملة الهياكل العلوية السيارات والثوابت قالوا ولا سبيل لها إلى الروحاني بعينه فيتقرب إلى هيكله بكل عبادة وقربان وقال آخرون منهم لكل هيكل سماوي شخص من الأشخاص السفلية على صورته وجوهره فعمل هؤلاء الصور ونحتوا الأصنام وبنوا لها بيوتا.


تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty رد: تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:07
تابع



وقد ذكر يحيى بن بشر النهاوندي أن قوما قالوا الكواكب السبعة وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر هي المدبرات لهذا العالم وهي تصدر عن أمر الملأ الأعلى ونصبوا لها الأصنام على صورتها وقربوا لكل واحد منها ما يشبهه من الحيوان فجعلوا لزحل جسما عظيما من الآنك1 أعمى يقرب إليه بثور حسن يؤتى به إلى بيت تحته محفور وفوقه الدرابزين من حديد على تلك الحفرة فيضرب الثور حتى يدخل البيت ويمشي على ذلك الدرابزين من الحديد فتغوص رجلاه ويداه هناك ثم توقد تحته النار حتى يحترق ويقول له المقربون مقدس أنت أيها الإله الأعمى المطبوع على الشر الذي لا يفعل خيرا قربنا لك ما يشبهك فتقبل منا وأكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة ويقربون للمشتري صبيا طفلا وذلك أنهم يشترون جارية ليطأها السدنة2 للأصنام السبعة فتحمل وتترك حتى تضع ويأتون بها والصبي على يدها ابن ثمانية أيام فينخسونه بالمسل والإبر وهو يبكي على يد أمه فيقولون له أيها الرب الخير الذي لا يعرف الشر قد قربنا لك من لم يعرف الشر يجانسك في الطبيعة فتقبل قرباننا وأرزقنا خيرك وخير أرواحك الخيرة ويقربون للمريخ رجلا أشقر أنمش3 أبيض الرأس من الشقرة يأتون به فيدخلون في حوض عظيم ويشدون قيوده إلى أوتاد في قعر الحوض ويملأون الحوض زيتا حتى يبقى الرجل قائما فيه إلى حلقه ويخلطون بالزيت الأدوية المقوية للعصب والمعفنة للحم حتى إذا دار عليه الحول بعد أن يغذى بالأغذية المعفنة للحم والجلد قبضوا على رأسه فملخوا عصبه من جلده ولفوه تحت رأسه وأتوا به إلى صنمهم الذي هو على صورة المريخ فقالوا أيها الإله الشرير ذو الفتن والجوائح قربنا إليك ما يشبهك فتقبل قرباننا واكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة الشريرة ويزعمون أن الرأس تبقى فيه الحياة سبعة أيام وتكلمهم بعلم ما يصيبهم تلك السنة من خير وشر ويقربون للشمس تلك المرأة التي قتلوا ولدها للمشتري ويطوفون بصورة الشمس ويقولون مسبحة مهللة أنت أيتها الآلهة النورانية قربنا إليك ما يشبهك فتقبلي قرباننا وارزقينا من خيرك وأعيذينا من شرك ويقربون للزهرة عجوزا شمطاء ماجنة4 يقدمونها بين يديها وينادون حولها
ـــــــ
1 الآنك الرصاص الخالص.
2 السدنة بالتحريض جمع سادن وهو خادم الكعبة وبيت الأصنام.
3 النمش بفتحتين نقط بيض وسود.
4 أي صفة الوجه لا تستحي من قبح القول.
(1/48)




أيتها الآلهة الماجنة أتيناك بقربان بياضه كبياضك ومجانته كمجانتك وظرفه كظرفك فتقبليها منا ثم يأتون بالحطب فيجعلونه حول العجوز ويضرمون فيه النار إلى أن تحترق فيحثون رمادها في وجه الصنم.
ويقربون لعطارد شابا أسمر حاسبا كاتبا متأدبا يأتون به بحيلة وكذلك يفعلون بالكل يخدعونهم ويبنجونهم ويسقونهم أدوية تزيل العقل وتحرس الألسنة فيقدمون هذا الشاب إلى صنم عطارد ويقولون أيها الرب الظريف أتيناك بشخص ظريف وبطبعك اهتدينا فتقبل منا ثم ينشر الشاب نصفين ويربع ويجعل على أربع خشبات حوله ويضرم كل خشبة النار حتى تحترق ويحترق الربع معها ويحثون رماده في وجهه.
ويقربون للقمر رجلا آدم كبير الوجه ويقولون له يا بريد الآلهة وخفيف الأجرام العلوية.
(1/49)




ذكر تلبيسه على عباد الأصنام
قال المصنف كل محنة لبس بها إبليس على الناس فسببها الميل إلى الحسن والأعراض عن مقتضى العقل ولما كان الحس يأنس بالمثل1 دعا إبليس لعنه الله خلقا كثيرا إلى عبادة الصور وأبطل عند هؤلاء عمل العقل بالمرة فمنهم من حسن له أنها الآلهة وحدها ومنهم من وجد فيه قليل فطنة فعلم أنه لا يوافقه على هذا فزين له أن عبادة هذه تقرب إلى الخالق: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
(1/49)




ذكر بداية تلبيسه على عباد الأصنام
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو جعفر بن أحمد بن السلم نا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزناني نا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله الجوهري ثنا أبو علي الحسن بن عليل العنزي ثنا أبو الحسن علي بن الصباح بن الفرات قال أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الحلبي قال أخبرني أبي قال أول ما عبدت الأصنام كان آدم عليه السلام لما مات جعله بنوشيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند ويقال للجبل بوذ وهو أخصب جبل في الأرض قال هشام فأخبرني أبي عن أبي الصالح عن ابن
ـــــــ
1 في نسخة بالميل.
(1/49)




عباس رضي الله عنهما قال فكان بنو شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه فقال رجل من بني قابيل يا بني قابيل إن لبني شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء فنحت لهم صنما فكان أول من عملها قال وأخبرني أبي أنه كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قوما صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم فقال رجل من بني قابيل يا قوم هل لكم أن أعمل لكن خمسة أصنام على صورهم غير أنني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا فقالوا نعم فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم فكان الرجل منهم يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وعملت على عهد يزذ بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد تعظيم من القرن الأول ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا ما عظم الأولون هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله عز وجل فعبدوهم وعظموا أمرهم واشتد كفرهم فبعث الله سبحانه وتعالى إليهم إدريس عليه الصلاة والسلام فدعاهم فكذبوه فرفعه الله مكانا عليا ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حتى أدرك نوح فبعثه الله نبيا وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل مائة وعشرين سنة فعصوه وكذبوه فأمر الله تعالى أن يصنع الفلك فعملها وفرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة سنة وخمسين سنة فكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة فلما نضبت الماء بقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها.
قال الكلبي وكان عمرو بن لحي كاهنا وكان يكنى أبا ثمامة له رئى من الجن فقال له عجل المسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة ائت صفا جده تجد فيها أصناما معدة فأوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد بها تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات فدفع إليه ودا فحمله فكان بوادي القرى بدومه الجندل وسمي ابنه عبد ود فهو أول من سمى به وجعل عوف ابنه عامرا سادنا له فلم يزل بنوه يدينون به حتى جاء الله بالإسلام.
قال الكلبي حدثني مالك بن حارثة أنه رأى ودا قال وكان أبي يبعثني باللبن إليه ويقول أسق إلهك فأشربه قال ثم رأيت خالد بن الوليد بعد كسره فجعله جذاذا وكان رسول
(1/50)




الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه من غزوة تبوك لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود وبنو عامر فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره وقتل يومئذ رجلا من بني عبد ود يقال له قطن بن سريج فأقبلت أمه وهو مقتول وهي تقول:
ألا تلك المودة لا تدوم ... ولا يبقى على الدهر النعيم
ولا يبقى على الحدثان عفر1 ... له أم بشاهقة رؤوم
ثم قالت:
يا جامعا جمع الأحشاء والكبد ... يا ليت أمك لم تولد ولم تلد
ثم أكبت عليه فشهقت وماتت.
قال الكلبي فقلت لمالك بن حارثة صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه قال كان تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال قد دير أي نفس عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى عليه سيف قد تقلده وتنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل يعني جعبتها2.
قال وأجابت عمرو بن لحي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر سواعا وكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر فقال رجل من العرب.
تراهم حول قبلتهم عكوفا ... كما عكفت هذيل على سواع
يظل حياته صرعى لديه ... غنائم من ذخائر كل راعي
وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها.
وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم يعوق وكان بقرية يقال لها جوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن.
وأجابته حمير فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له معدي كرب نسرا وكان بموضع من أرض
ـــــــ
1 العفر: بكسر العين وضمها ذكر الخنازير.
2 الوفضة: الجعبة التي تجعل فيها السهام.
(1/51)




سبأ يقال له بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزالوا يعبدونه حتى هو دهم ذو نواس ولم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بهدمها.
قال ابن هشام وحدثنا الكبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رفعت لي النار فرأيت عمرو بن لحى قصيرا أحمر أزرق يجر قصبة في النار قلت من هذا قيل هذا عمرو بن لحى أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيب السائبة وحمى الحمام وغير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان" قال هشام وحدثني أبي وغيره أن إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما سكن مكة وولد له فيها أولاد فكثروا حتى ملؤا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقست بينهم الحروب والعداوات فأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا أحتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصيانة لمكة فحيث ما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها وصيانة للحرم وحبا له وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على أثر1 إبراهيم وإسماعيل ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة والمزدلفة وإهداء البدن والإهلال بالحج والعمرة وكانت نزار تقول إذا ما أهلت لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وكان أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وثيب السائبة ووصل الوصيلة عمرو بن ربيعة وهو لحى بن حارثة وهو أبو خزاعة وكانت أم عمرو بن لحى فهيرة بنت عامر بن الحارث وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغنا عمرو بن لحى نازعه في الولاية وقاتل جرهم بن إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت من بعدهم ثم أنه مرض مرضا شديدا فقيل له أن بالبلقاء من أرض الشام حمة إن أتيتها برئت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال ما هذه فقالوا نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام.
ـــــــ
1 وفي نسخة إرث.
(1/52)




وكان أقدمها مناة وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المسلك بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه والأوس والخزرج ومن نزل ادينة ومكة وما والاها ويذبحون له ويهدون له.
قال هشام وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عامر بن يسار قال كانت الأوس والخزرج ومن يأخذ مأخذهم من العرب من أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك وكانت مناة لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح.
ثم اتخذوا اللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مرتفعة1 وكانت سدنتها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناء وكانت قريش وجميع العرب تعظم وكانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم فلم يزالوا كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات اتخذه ظالم بن أسعد وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منه الصوت.
قال هشام وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة بعث خالد بن الوليد فقال ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعتضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال هل رأيت شيئا قال لا قال فاعضد الثانية فأتاها فعضدها ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال هل رأيت شيئا قال لا قال فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بجنية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصر بأنيابها وخلفها ديبة السلمى وكان سادنها فقال خالد:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... أني رأيت الله قد أهانك
ـــــــ
1 في نسخة مربعة.
(1/53)




ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة1 ثم عضد الشجرة وقتل ديبة السادن ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب.
قال هشام وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خذيمة بن مدركة بن الياس بن مضر وكان في جوف الكعبة وكان قدامه سبعة أقدح مكتوب في أحدها صريح وفي الآخر ملصق فإذا شكو في مولود أهدوا له هدية ثم ضربوا بالقدح فإن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصقا فدفعوه وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أي علا دينك فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "ألا تجيبونه" فقالوا وما نقول قال: "قولوا الله أعلى وأجل" وكان لهم أساف ونائلة قال هشام فحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن أساف رجل من جرهم يقال له أساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلا حجاجا فدخلا البيت فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدته خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب قال هشام لما مسخا حجرين وضعا عند البيت ليقظ الناس بهما فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر في موضع زمزم فنقلت قريش الذي كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.
وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة وكان مروة2 بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج وكانت بتبالة بين مكة3 والمدينة على مسيرة سبع ليال من مكة وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم وبجيلة فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير رضي الله عنه: "الا تكفني ذا الخلصة" فوجهه إليه فسار بأحمس فقابلته خعثم وباهلة فظفر بهم وهدم بنيان ذي الخلصة وأضرم فيه النار وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة.
ـــــــ
1 الحممة بضم الحاء وفتح الميمين جمعها حمم الرماد وكل ما اخترق من النار.
2 المروة حجارة براقة تقدح منها النار جمعها مرو.
3 وفي نسخة اليمن: قال ابن الأثير في النهاية تبالة بفتح التاء وتخفيف الباء بلد باليمن معروف.
(1/54)




وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين فلما أسلموا بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطفيل بن عمرو فحرقه.
وكان لبني الحارث بن يشكر صنم يقال له ذو الثرى.
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر.
وكان لمزينة صنم يقال له فهم وبه كانت تسمى عبد فهم.
وكانت لعنزة صنم يقال له سعير.
وكان لطىء صنم يقال له الفلس وكان لأهل كل واد من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان أخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به ومنهم من اتخذ بيتا ومن لم يكن له صنم ولا بيت نصب حجرا مما استحسن به ثم طاف به وسموها الأنصاب وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعله ثالثة الأثافي1 لقدره فإذا أرتحل تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك ولما ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكة دخل المسجد والأصنام منصوبة حول الكعبة فجعل يطعن بسية2 قوسه في عيونها ووجوهها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" ثم أمر بها فكفئت على وجوهها ثم أخرجت من المسجد فحرقت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في زمان يزد برد عبدت الأصنام ورجع من رجع عن الإسلام.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا عمر بن عبيد الله نا أبو الحسين بن بشران نا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا جميل ثنا حسن بن الربيع ثنا مهدي بن ميمون قال سمعت أبا رجاء العطاردي يقول لما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب ولحقنا بالنار وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك ونأخذه وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد نا أحمد بن أحمد الحداد نا أبو نعيم
أحمد بن عبد الله ثنا أبو حامد بن جبلة ثنا أبو عباس السراج ثنا أحمد بن الحسن بن خراش ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا عمارة المعولي قال سمعت أبا رجاء العطاردي يقول كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه فنحلب عليه فنعبده وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده
ـــــــ
1 الأثافي جمع الأثفية ما يوضع عليه القدر.
2 سية القوس بكسر السين وبالياء ما عطف من طرفيها.
(1/55)
تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty رد: تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:09
تابع



زمانا ثم نلقيه أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت نا عبد العزيز بن علي الوراق نا أحمد بن إبراهيم ثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري نا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هرون نا الحجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان النهدي قال كنا في الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي يا أهل الرحال إن ربكم قد هلك فالتمسوا لكم ربا غيره قال فخرجنا على كل صعب وذلول فبينما نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه قال فجئنا فإذا حجر فنحرنا عليه الجزر أنبأنا محمد بن أبي طاهر نا أبو إسحاق البرمكي نا أبو عمر بن حيوية نا أحمد بن معروف نا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا محمد بن عمرو ثني الحجاج بن صفوان عن ابن أبي حسين عن شهر حوشب عن عمرو بن عنبسة قال كنت أمرءا ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم آلهة فيخرج الحي منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلها يعبد ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو الحسن العتيقي نا عثمان بن عمرو بن الميثاب نا أبو محمد عبد الله بن سليمان الفامي ثني أبو الفضل محمد بن أبي هرون الوراق ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي عن شيخ من ساكني مكة قال سئل سفيان بن عيينة كيف عبدت العرب الحجارة والأصنام فقال أصل عبادتهم الحجارة إنهم قالوا البيت حجر فحيث ما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت وقال أبو معشر كان كثير من أهل الهند يعتقد الربوبية ويقرون بأن لله تعالى ملائكة إلا إنهم يعتقدونه صورة كأحسن الصور وأن الملائكة أجسام حسان وإنه سبحانه وتعالى وملائكته محتجبون بالسماء فاتخذوا أصناما على صورة الله سبحانه عندهم وعلى صور الملائكة فعبدوها وقربوا لها لموضع المشابهة على زعمهم وقيل لبعضهم أن الملائكة والكواكب والأفلاك أقرب الأجسام إلى الخالق فعظموها وقربوا لها ثم عملوا الأصنام.
وبنى جماعة من القدماء بيوتا كانت للأصنام فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت فيه أصنام أخرجها كوشتاسب لما تمجس وجعله بيت نار والبيت الثاني والثالث في أرض الهند والرابع بمدينة بلخ بناه بنو شهر فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ والخامس بيت بصنعاء بناه الضحاك على اسم الزهرة فخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه والسادس بناه قابوس والملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخربه المعتصم.
(1/56)




وذكر يحيى بن بشير بن عمير النهاوندي أن شريعة الهند وضعها لهم رجل برهمي ووضع لهم أصناما وجعل لهم أعظم بيوتهم بيتا بالميلتان وهي مدينة من مداين السند وجعل فيه صنمهم الأعظم الذي هو كصورة الهيولي الأكبر وهذه المدينة فتحت في أيام الحجاج وأرادوا قلع الصنم فقيل لهم إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من مال فأمر عبد الملك بن مروان بتركه فالهند تحج إليه من ألفي فرسخ ولا بد للحاج أن يحمل معه دراهم على قدر ما يمكنه من مائة إلى عشرة آلاف لا يكون أقل من هذا ولا أكثر ومن لم يحمل معه ذلك لم يتم حجه فيلقيه في صندوق عظيم هناك ويطوفون بالصنم فإذا ذهبوا قسم ذلك المال فثلثه للمسلمين وثلثه لعمارة المدينة وحصونها وثلثه لسدنه الصنم ومصالحه.
قال الشيخ أبو الفرح رحمه الله فانظر كيف تلاعب الشيطان بهؤلاء وذهب بعقولهم فنحتوا بأيديهم ما عبدوه وما أحسن ما عاب الحق سبحانه وتعالى أصنامهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وكانت الإشارة إلى العباد أي أنتم تمشون وتبطشون وتبصرون وتسمعون والأصنام عاجزة عن ذلك وهي جماد وهم حيوان فكيف عبد التام الناقص ولو تفكروا لعلموا أن الإله يصنع الأشياء ولا يصنع ويجمع وليس بمجموع وتقوم الأشياء به ولا يقوم بها وإنما ينبغي للإنسان أن يعبد من صنعه لا ما صنعه وما خيل إليهم أن الأصنام تشفع فخيال ليس فيه شبهة يتعلق بها.
(1/57)




ذكر تلبيسه على عابدي النار والشمس والقمر
قال المصنف قد لبس إبليس على جماعة فحسن لهم عبادة النار وقالوا هي الجوهر الذي لا يستغني العالم عنه ومن ههنا زين عبادة الشمس.
وذكر أبو جعفر بن جرير الطبري أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها قال الجاحظ وجاء زرادشت من بلخ وهو صاحب المجوس فادعى أن الوحي ينزل إليه على جبل سيلان فدعى أهل تلك النواحي الباردة الذين لا يعرفون إلا البرد وجعل الوعيد بتضاعف البرد وأقر بأنه لم يبعث إلا إلى الجبال فقط وشرع لأصحابه التوضوء بالأبوال وغشيان الأمهات وتعظيم النيران مع
(1/57)




أمور سمجة قال ومن قول زرادشت كان الله وحده فلما طالت وحدته فكر فتولد من فكرته إبليس فلما مثل بين يديه وأراد قتله امتنع منه فلما رأى امتناعه ودعه إلى مدة.
قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله وقد بنى عابدوا النار لها بيوتا كثيرة فأول من رسم لها بيتا أفريدون فاتخذ لها بيتا بطرطوس وآخر ببخارى واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى وبنيت بعد ذلك بيوت كثيرة لها وقد كان زرادشت وضع نارا زعم أنها جاءت من السماء فأكلت قربانهم وذلك أنه بنى بيتا وجعل فيوسطه مرآة ولف القربان في حطب وطرح عليه الكبريت فلما استوت الشمس في كبد السماء قابلت كوة قد جعلها في ذلك البيت فدخل شعاع الشمس فوقع على المرآة فانعكس على الحطب فوقعت فيه النار فقال لا تطفؤا هذه النار.
فصل قال المصنف وقد حسن إبليس لعنة الله لأقوام عبادة القمر ولآخرين عبادة النجوم قال ابن قتيبة وكان قوم في الجاهلية عبدوا الشعري العبور وفتنوا بها وكان أبو كبشة الذي كان المشركون ينسبون إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من عبدها وقال قطعت السماء عرضا ولم يقطع السماء عرضا غيرها وعبدها وخالف قريشا فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إلى عبادة الله وترك الأوثان قالوا هذا ابن أبي كبشة أي شبهه ومثله في الخلاف كما قالت بنو إسرائيل لمريم يا أخت هارون أي يا شبيهة هارون في الصلاح وهما شعريان إحداهما هذه والشعري الأخرى هي الغميصاء وهي تقابلها وبينها المجرة والغميصاء في الذراع المبسوط في جبهة الأسد وتلك في الجوزاء.
وزين إبليس لعنه الله لآخرين عبادة الملائكة وقالوا هي بنات الله تعالى تعالى الله عن ذلك وزين لآخرين عبادة الخيل والبقر وكان السامري من قوم يعبدون البقر فلهذا صاغ عجلا وجاء في التعبير أن فرعون كان يعبد تيسا وليس في هؤلاء من أعمل فكره ولا استعمل عقله في تدبير ما يفعل نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.
(1/58)




ذكر تلبيسه على الجاهلية
قال المصنف ذكرنا كيف لبس عليهم في عبادة الأصنام ومن أقبح تلبيسه عليهم في ذلك تقليد الآباء من غير نظر في دليل كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
(1/58)




نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} المعنى أتتبعونهم أيضا.
وقد لبس إبليس على طائفة منهم فقالوا بمذاهب الدهرية وأنكروا الخالق وجحدوا البعث الذين قال الله سبحانه فيهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وعلى آخرين منهم فأقروا بالخالق لكنهم جحدوا الرسل والبعث وعلى آخرين منهم فزعموا أن الملائكة بنات الله وأمال آخرين منهم إلى مذهب اليهود وآخرين إلى مذهب المجوس وكان في بني تميم منهم زرارة بن جديس التميمي وابنه حاجب.
وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب عبد المطلب ابن هاشم وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وعامر بن الظرب وكان عبد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قال تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء ومنهم زهير بن أبي سلمى وهو القائل:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ثم أسلم ومنهم زيد الفوارس بن حصن ومنهم القلمس بن أمية الكناني كان يخطب بفناء الكعبة وكانت العرب لا تصدر عن مواسمها حتى يعظها ويوصيها فقال يوما يا معشر العرب أطيعوني ترشدوا قالوا وما ذاك قال إنكم تفردتم بآلهة شتى أني لأعلم ما الله بكل هذا راض وأن الله رب هذه الآلهة وأنه ليحب أن يعبد وحده فتفرقت عنه العرب لذلك ولم يسمعوا مواعظه وكان فيهم قوم يقولون من مات فربطت على قبره دابته وتركت حتى تموت حشر عليها ومن لم يفعل ذلك حشر ماشيا وممن قاله عمرو بن زيد الكلبي.
قال المصنف وأكثر هؤلاء لم يزل عن الشرك وإنما تمسك منهم بالتوحيد ورفض الأصنام القليل كقس بن ساعدة وزيد وما زالت الجاهلية تبتدع البدع الكثيرة فمنها النسىء وهو تحريم الشهر الحرام وتحليل الشهر الحرام وذلك أن العرب كانت قد تمسكت من ملة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بتحريم الأشهر الأربعة فإذا احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب أخروا تحريمه إلى صفر ثم يحتاجون إلى صفر ثم كذلك حتى تتدافع السنة وإذا حجوا قالوا لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومنها توريث الذكر دون
(1/59)




الأنثى ومنها أن أحدهم كان إذا مات ورث نكاح زوجته أقرب الناس إليه ومنها البحيرة وهي الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها وحرمت على النساء والسائبة من الأنعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا والوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فإن كان السابع ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرجال دون النساء فإذا ماتت أشترك فيها الرجال والنساء والحام الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يحمل عليه ثم يقولون أن الله عز وجل أمرنا بهذا فذلك معنى قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ثم الله عز وجل رد عليهم فيما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وفيما أحلوه بقولهم: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال الله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} المعنى إن كان الله تعالى حرم الذكرين فكل الذكور حرام وإن كان حرم الانثيين فكل الإناث حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فإنها تشتمل على الذكور والإناث فيكون كل جنين حراما وزين لهم إبليس قتل أولادهم فالإنسان منهم يقتل ابنته ويغذو كلبه ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ومشيئة الله تعم الكائنات وأمره لا يعم مراداته فليس لأحد أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر ومذاهبهم السخيفة التي ابتعدوها كثيرا لا يصلح تضييع الزمان بذكرها ولا هي مما يحتاج إلى تكلف ردها.
(1/60)




ذكر تلبيس إبليس على جاحدي النبوات
قال المصنف: قد لبس إبليس على البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق ما يصل من الاله وقد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم على مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد حكى أبو محمد النوبختي في كتاب الآراء والديانات أن قوما من الهند من البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار وزعموا أن رسولهم ملك أتاهم في صورة البشر من غير كتاب له أربعة أيد وأثنتا عشر رأسا من ذلك رأس إنسان ورأس أسد ورأس فرس ورأس فيل ورأس خنزير وغير ذلك من رؤوس الحيوانات وأنه أمرهم بتعظيم النار ونهاهم عن القتل والذبائح إلا ما كان للنار ونهاهم عن الكذب وشرب الخمر وأباح لهم الزنا وأمرهم أن يعبدو البقر ومن ارتد منهم ثم رجع حلقوا رأسه ولحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ثم يذهب فيسجد للبقر في هذيانات يضيع الزمان بذكرها.
(1/60)




قال المصنف وقد ألقى إبليس إلى البراهمة ست شبهات.
الشبهة الأولى: استبعاد اطلاع بعضهم على ما خفي عن بعض فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} والمعنى وكيف أطلع على ما خفي عنكم وجواب هذه الشبهة أنهم لو ناطقوا العقول لأجازت اختيار شخص بشخص لخصائص يعلو بها جنسه فيصلح بتلك الخصائص لتلقف الوحي إذ ليس كل أحد يصلح لذلك وقد علم الكل أن الله سبحانه وتعالى ركب الأمزجة متفاوتة وأخرج إلى الوجود أدوية تقاوم ما يعرض من الفساد البدني فإذا أمد النبات والأحجار بخواص لإصلاح أبدان خلقت للفناء ههنا وللبقاء في دار الآخرة لم يبعد أن يخص شخصا من خلقه بالحكمة البالغة والدعاية إليه إصلاحا لمن يفسد في العالم بسوء الأخلاق والأفعال ومعلوم أن المخالفين لا يستنكرون أن يختص أقوام بالحكمة ليسكنوا فورات الطباع الشريرة بالموعظة فكيف ينكرون أمداد الباري سبحانه بعض الناس برسائل ومصالح ووصايا يصلح بها العالم ويطيب أخلاقهم ويقيم بها سياستهم وقد أشار عز وجل إلى ذلك في قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .
الشبهة الثانية: قالوا هلا أرسل ملكا فإن الملائكة إليه أقرب ومن الشك فيهم أبعد والآدميون يحبون الرياسة على جنسهم فيوقع هذا شكا وجواب هذا من ثلاثة أوجه أحدهما أن في قوى الملائكة قلب الجبال والصخور فلا يمكن إظهار معجزة تدل على صدقهم لأن المعجزة ما خرقت العادة وهذه العادة الملائكة وإنما المعجزات الظاهرة ما ظهرت على يد بشر ضعيف ليكون دليلا على صدقه والثاني أن الجنس إلى الجنس أميل فصح أن يرسل إليهم من جنسهم لئلا ينفروا وليعقلوا عنه ثم تخصيص ذلك الجنس بما عجز عنه دليل على صدقه والثالث أنه ليس في قوى البشر رؤية الملك وإنما الله تعالى يقوي الأنبياء بما يرزقهم من إدراك الملائكة ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لينظروا إليه ويأنسوا به ويفهموا عنه ثم قال: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي.
الشبهة الثالثة: قالوا نرى ما تدعيه الأنبياء من علم الغيب والمعجزات وما يلقى إليهم من الوحي يظهر جنسه على الكهنة والسحرة فلم يبق لنا دليل نفرق به بين الصحيح والفاسد والجواب أن نقول أن الله تبارك وتعالى بين الحجج ثم بث الشبهة وكلف العقول الفرق فلا
(1/61)




يقدر ساحر أن يحيي ميتا ولا أن يخرج من عصا حيا وأما الكاهن فقد يصيب ويخطىء بخلاف النبوة التي لا خطأ فيها بوجه.
الشبهة الرابعة: قالوا لا يخلوا ما أن تجيء الأنبياء بما يوافق العقل أو بما يخالفه فإن جاءوا بما يخالفه لم يقبل وإن جاءوا بما يوافقه فالعقل يغني عنه والجواب أن نقول قد ثبت أن كثيرا من الناس يعجزون عن سياسات الدنيا حتى يحتاجون إلى متمم كالحكماء والسلاطين فكيف بأمور الإلهية والأخروية.
الشبهة الخامسة: قالوا قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان والجواب أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عليه هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه ومتى اشتبه علينا أمر في فرع لم يجز أن نحكم على الأصل بالبطلان ثم قد ظهرت حكمة ذلك فانا نعلم أن الحيوان يفضل على الجماد ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم والفطنة والقوى النظرية والعملية وحاجة هذا الناطق إلى إبقاء فهمه ولا يقوم في إبقاء القوى مقام اللحم شيء ولا يستطرف تناول القوي الضعيف وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة وأما ألم الذبح فانه يستر وقد قيل أنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أو سكتة لم يحس الإنسان بألم فإذا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إلى محل الحس ولهذا قال عليه الصلاة والسلام إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته.
الشبهة السادسة: قالوا ربما يكون أهل الشرائع قد ظفروا بخواص من حجارة وخشب والجواب أن هذا كلام ينبغي أن يستحي من إيراده فإنه لم يبق شيء من العقاقير والأحجار إلا وقد وضحت خواصها وبأن سترها فلو ظفر واحد منهم بشيء وأظهر خاصيته لوقع الانكار من العلماء بتلك الخواص وقالوا ليس هذا منك إنما هذه خاصية في هذا ثم إن المعجزات ليست نوعا واحدا بل هي بين صخرة خرجت منها ناقة وعصا انقلبت حية وحجر تفجر عيونا وهذا القرآن
(1/62)




الذي له منذ نزل دون الستمائة سنة فالأسماع تدركه والأفكار تتدبره والتحدي به على الدوام ولم يقدر أحد على مداناة منه فأين هذا والخاصة والسحر والشعبذة.
قال أبو الوفاء علي بن عقيل رضي الله عنه صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والإمتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء ثم مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والاذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد ويضع السير والأخبار وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك حتى قالوا أن سطيحا قال في الخبيء الذي خبىء له حبة بر في إحليل مهر والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه وههنا اليوم معزمون يكلمون الجني الذي في باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هذا قال بقلة عقلة وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا وليس قول الكاهن حبة بر في إحليل مهر وقد أخفيت كل الاخفاء بأكثر من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وهل بقي لهذا وقع في القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب اليوم وهل ترك تلمح هذا إلا النبي1 والله ما قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مع الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه فيصدق بها الكل ويبطل أن يكون ما جاء به الأنبياء خرقا للعادات ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بانائه إلى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هذا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين وبطريق العادات في حق المنجمين وبطريق الخواص في حق الطبايعين وبطريق الكهانة في حق المعزمين والعرافين فأي حكم بقي لقول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وأي خرق بقي للعادات وهذا العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول فإذا نبههم العاقل المتدين على ما في هذا من الفساد قال الصوفي أتنكر كرامات الأولياء وقال أهل الخواص أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد والنعامة تبلع
ـــــــ
1 وفي نسخة إلا الفتى.
(1/63)




النار فتسكت عن جحد ما لم يكن لأجل ما كان فويل للمحق معهم هذا والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مع أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى أن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من الله عز وجل على حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال.
فصل: الكلام عن جاحدي النبوات ومن الهند البراهمة قوم قد حسن لهم إبليس أن يتقربوا بإحراق نفوسهم فيحفر للإنسان منهم أخدود وتجتمع الناس فيجيء مضمخا بالخلوق والطيب وتضرب المعازف والطبول والصنوج ويقولون طوبي لهذه النفس التي تعلق إلى الجنة ويقول هو ليكن هذا القربان مقبولا ويكون ثواب الجنة ثم يلقي نفسه في الأخدود فيحترق فإن هرب نابذوه ونفوه وتبرأوا منه حتى يعود ومنهم من يحمي له الصخر فلا يزال يلزم صخرة صخرة حتى يثقب جوفه ويخرج معاه فيموت ومنهم من يقف قريبا من النار إلى أن يسيل ودكه فيسقط ومنهم من يقطع من ساقه وفخذه قطعا ويلقيها إلى النار والناس يزكونه ويمدحونه ويسألون مثل مرتبته حتى يموت ومنهم من يقف في اخثاء البقر إلى ساقه ويشعل النار فيحترق ومنهم من يعبد الماء ويقول هو حياة كل شيء فيسجد له ومنهم من يجهز له أخدود قريب من الماء فيقع في الأخدود حتى إذا ألتهب قام فانغمس في الماء ثم رجع إلى الأخدود حتى يموت فإن مات وهو بينهما حزن أهله وقالوا حرم الجنة وإن مات في أحدهما شهدوا له بالجنة ومنهم من يزهق نفسه بالجوع والعطش فيسقط أولا عن المشي ثم عن الجلوس ثم ينقطع كلامه ثم تبطل حواسه ثم تبطل حركته ثم يخمد ومنهم من يهيم في الأرض حتى يموت ومنهم من يغرق نفسه في النهر ومنهم من لا يأتي النساء ولا يواري إلى العورة ولهم جبل شاهق تحته شجرة وعندها رجل بيده كتاب يقرأ فيه يقول طوبى لمن ارتقى هذا الجبل وبعج بطنه وأخرج أمعاءه بيده ومنهم من يأخذ الصخور فيرض بها جسده حتى يموت والناس يقولون طوبى لك وعندهم نهران فيخرج أقوام من عبادهم يوم عيدهم وهناك رجال فيأخذون ما على العباد من الثياب ويبطحونهم
فيقطعونهم نصفين ثم يلقون أحد النصفين في نهر والنصف الآخر في نهر ويزعمون أنهما يجريان إلى الجنة ومنهم من يخرج إلى براح ومعه جماعة يدعون له ويهنئونه بنيته فإذا أضجر جلس وجمع له سباع الطير من كل جهة فيتجرد من ثيابه ثم يمتد والناس ينظرون إليه فتبتدره الطير فتأكله فإذا تفرقت الطير جاءت الجماعة فأخذوا عظامه وأحرقوها وتبركوا بها في أفعال طويلة قد ذكرها أبو محمد النوبختي يضيع الزمان في كتابتها والعجب أن الهند قوم تؤخذ الحكمة عنهم ويؤخذ عنهم دقائق الحكمة وتلهم دقائق الأعمال
(1/64)



تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty رد: تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:10
تابع



فسبحان من أعمى قلوبهم حتى قادهم إبليس هذا المقادم قال وفيهم من زعم أن الجنة ثنتان وثلاثون مرتبة وأن مكث أهل الجنة في أدنى مرتبة منها أربع مائة ألف سنة وثلاثة وثلاثون ألف سنة وستمائة وعشرون سنة وكل مرتبة أضعاف ما دونها وأن النار اثنتان وثلاثون مرتبة منها ست عشر مرتبة فيها الزمهرير وصنوف عذابه. وست عشرة مرتبة فيها الحريق وصنوف عذابه
(1/65)




ذكر تلبيسه على اليهود
قال المصنف: قد لبس عليهم في أشياء كثيرة نذكر منها نبذة ليستدل بها على تلك فمن ذلك تشبيههم الخالق بالخلق ولو كان تشبيههم حقا لجاز عليه ما يجوز عليهم وحكى أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن اليهود تزعم أن الإله المعبود رجل من نور على كرسي من نور على رأسه تاج من نور وله أعضاء كما للآدميين ومن ذلك قولهم عزير بن الله ولو فهموا أن حقيقة البنوة لا تكون إلا بالتبعيض والخالق ليس بذي أبعاض لأنه ليس بمؤلف لم يثبتوا بنوة ثم أن الولد في معنى الوالد وقد كان عزير لا يقوم إلا بالطعام والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها والذي دعاهم إلى هذا مع جهلهم بالحقائق أنهم رأوه قد عاد بعد الموت وقرأ التوراة من حفظه فتكلموا بذلك من ظنونهم الفاسدة ويدل على أن القوم كانوا في بعد من الذهن انهم لما رأوا أثر القدرة في فرق البحر لهم ثم مروا على أصنام طلبوا مثلها فقالوا أجعل لنا آلهة كما لهم آلهة فلما زجرهم موسى عن ذلك بقي في نفوسهم فظهر المستور بعبادتهم العجل والذي حملهم على هذا شيئان أحدهما جهلهم بالخالق والثاني أنهم أرادوا ما يسكن إليه الحس لغلبة الحس عليهم وبعد العقل عنهم ولولا جهلهم بالمعبود ما اجترأوا عليه بالكلمات القبيحة كقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا لا يجوز نسخ الشرائع وقد علموا أن من دين آدم جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل في يوم السبت ثم نسخ ذلك بشريعة موسى قالوا إذا أمر الله عز وجل بشيء كان حكمه فلا يجوز تغييره قلت قد يكون التغيير في بعض الأوقات حكمة فإن تقلب الآدمي من صحة إلى مرض ومن مرض إلى موت كله حكمة وقد حظر عليكم العمل يوم السبت وأطلق لكم العمل يوم الأحد وهذا من جنس ما أنكرتم وقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بذبح إبنه ثم نهاه عن ذلك.
ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} وهي الأيام التي عبد فيها
(1/65)




العجل وفضائحهم كثيرة ثم حملهم إبليس على العناد المحض فجحدوا ما كان في كتابهم من صفة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيروا ذلك وقد أمروا أن يؤمنوا به ورضوا بعذاب الآخرة فعلماؤهم عاندوا وجهالهم قلدوا ثم العجب أنهم غيروا ما أمروا به وحرفواودانوا بما يريدون فأين العبودية ممن يترك الأمر ويعمل بالهوى ثم أنهم كانوا يخالفون موسى ويعيبونه حتى قالوا أنه آدر1 واتهموه بقتل هارون واتهموا داود بزوجة أوريا.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار نا الحسن بن علي الجوهري نا أبو عمر ابن حياة نا ابن معروف نا الحارث بن أبي أسامة ثنا محمد بن سعد نا علي بن محمد عن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن سالم مولى عبد الله بن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المدارس2 فقال: "أخرجوا إلي أعلمكم" فخرج إليه عبد الله بن صوريا فخلا به فناشده الله بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى وظللهم به من الغمام أتعلمون أني رسول الله قال اللهم نعم وأن القوم ليعرفون ما أعرف وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكنهم حسدوك قال: "فما يمنعك أنت" قال أكره خلاف قومي وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
أخبرنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد قال أخبرنا الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال ثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال ثنا يعقوب قال ثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون بعثا كائنا بعد الموت فقال له ويحك يا فلان أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يحزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به يود أحدهم أن له لحظة من تلك النار بأعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه وأن ينجو من تلك النار غدا قال له ويحك وما آية ذلك قال نبي مبعوث من نحو
ـــــــ
1 الآدر: منتفخ الخصية وهو عيب بالفحولية.
2 المدارس: كنيسة اليهود وجمعه مداريس.
(1/66)




هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن قالوا ومتى نراه قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا فقلنا له ويلك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به.
(1/67)




ذكر تلبيسه على النصارى
قال المصنف تلبيسه عليهم كثير فمن ذلك أن إبليس أوهمهم أن الخالق سبحانه جوهر فقال اليعقوبية أصحاب يعقوب والملكية أهل دين الملك والنسطورية أصحاب نسطورس أن الله جوهر واحد أقانيم ثلاثة فهو واحد في الجوهرية ثلاثة في الأقنومية فأحد الأقانيم عندهم الأب والآخر الإبن والآخر روح القدس فبعضهم يقول الأقاليم خواص وبعضهم يقول صفات وبعضهم يقول أشخاص وهؤلاء قد نسوا أنه لو كان الإله جوهرا لجاز عليه ما يجوز على الجوهر من التحيز بمكان والتحرك والسكون والأوان ثم سول لبعضهم أن المسيح هو الله قال أبو محمد النوبختي زعمت الملكية واليعقوبية أن الذي ولدته مريم هو الإله وسول الشيطان لبعضهم أن المسيح هو ابن الله وقال بعضهم المسيح جوهر ان أحدهما قديم والآخر محدث ومع قولهم هذا في المسيح يقرون بحاجته إلى الطعام ولا يختلفون في هذا وفي أنه صلب ولم يقدر على الدفع عن نفسه ويقولون إنما فعل هذا بالناسوت فهلا دفع عن الناسوت ما فيه من اللاهوت ثم لبس عليهم أمر نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جحدوه بعد ذكره في الانجيل ومن الكتابيين من يقول عن نبينا أنه نبي إلا أنه مبعوث إلى العرب خاصة وهذا تلبيس من إبليس استغفلهم فيه لأنه متى ثبت أنه نبي فالنبي لا يكذب وقد قال بعثت إلى الناس كافة وقد كتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك الأعاجم.
(1/67)




ومن تلبيس إبليس على اليهود والنصارى.
أنهم قالوا لا يعذبنا الله لأجل أسلافنا فمنا الأولياء والأنبياء فأخبرنا الله عز وجل عنهم بذلك نحن أبناء الله وأحباؤه أي منا ابنه عزيز وعيسى وكشف هذا التلبيس ان كان شخص مطالب بحق الله عليه فلا يدفعه عنه ذو قرابته ولو تعدت المحبة شخصا إلى غيره لموضع القرابة لتعدي البعض وقد قال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإبنته فاطمة لا أغني عنك من الله شيئا وإنما فضل المحبوب
(1/67)




بالتقوى فمن عدمها عدم المحبة ثم أن محبة الله عز وجل للعبد ليست بشغف كمحبة الآدميين بعضهم بعضا إذ لو كانت كذلك لكان الأمر يحتمل.
(1/68)




ذكر تلبيسه على الصابئين
قال المصنف أصل هذه الكلمة أعني الصابئين من قولهم صبأت إذا خرجت من شيء إلى شيء وصبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ به إذا خرج والصابئون الخارجون من دين إلى دين وللعلماء في مذاهبهم عشرة أقوال أحدها أنهم قوم بين النصارى والمجوس رواه سالم عن سعيد بن جبير وليث عن مجاهد والثاني أنهم بين اليهود والمجوس رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد والثالث أنهم بين اليهود والنصارى رواه القاسم بن أبي بزة عن مجاهد والرابع أنهم صنف من النصارى ألين قولا منهم رواه أبو صالح عن ابن عباس والخامس أنهم قوم من المشركين لا كتاب لهم رواه القاسم أيضا عن مجاهد والسادس انهم كالمجوس قاله الحسن والسابع أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور قاله أبو العالية
والثامن أنهم قوم يصلون إلى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور قاله قتادة ومقاتل والتاسع أنهم طائفة من أهل الكتاب قاله السدى والعاشر أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله قاله ابن زيد قال المصنف هذه أقوال المفسرين مثل ابن عباس والقاسم والحسن وغيرهم فأما المتكلمون فقالوا مذهب الصابئين مختلف فيه فمنهم من يقول أن هناك هيولي كان لم يزل ولم يزل يصنع العالم من ذلك الهيولي وقال أكثرهم العالم ليس بمحدث وسموا الكواكب ملائكة وسماها قوم منهم آلهة وعبدوها وبنوا لها بيوت عبادات وهم يدعون أن بيت الله الحرام واحد منها وهو بيت زحل وزعم بعضهم أنه لا يوصف الله عز وجل إلا بالنفي دون الإثبات ويقال ليس بمحدث ولا موات ولا جاهل ولا عاجز قالوا لئلا يقع تشبيه ولهم تعبدات في شرائع منها أنهم زعموا أن عليهم ثلاث صلوات في كل يوم أولها ثمان ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة وانقضاء وقتها عند طلوع الشمس والثاني خمس ركعات والثالثة كذلك وعليهم صيام شهر أوله الثمان ليال يمضين من آذار وسبعة أيام أولها النسع يبقين من كانون الأول وسبعة أيام أولها الثمان ليال يمضين من شباط ويختمون صيامهم بالصدقة والذبائح وحرموا لحم الجزور في خرافات يضيع الزمان بذكرها وزعموا أن الأرواح الخيرة تصعد إلى الكواكب الثابتة وإلى الضياء وأن الشريرة تنزل إلى أسفل الأرضيين وإلى الظلمة وبعضهم يقول هذا
(1/68)




العالم لا يفنى وأن الثواب والعقاب في الناسخ ومثل هذه المذاهب لا يحتاج إلى تكلف في ردها إذ هي دعاو بلا دليل وقد حسن إبليس لأقوام من الصابئين أنهم رأوا الكمال في تحصيل مناسبة بينهم وبين الروحانيات العلوية باستعمال الطهارات وقوانين ودعوات واشتغلوا بالتنجيم والتسخير وقالوا لا بد من متوسط بين الله وبين خلقه في تعريف المعارف والإرشاد للمصالح إلا أن ذلك المتوسط ينبغي أن يكون روحانيا لا جسمانيا قالوا فنحن نحصل لأنفسنا مناسبة قدسية بيننا وبينه فيكون ذلك وسيلة لنا إليه وهؤلاء لا ينكرون بعث الأجساد.
(1/69)




ذكر تلبيس إبليس على المجوس
قال يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي كان أول ملوك المجوس كومرث فجاءهم بدينهم ثم تتابع مدعو النبوة فيهم حتى اشتهر بها زرادشت وكانوا يقولون أن الله تعالى عن ذلك شخص روحاني ظهر فظهرت معه الأشياء روحانية تامة فقال لا يتهيأ لغيري أن يبتدع مثل هذه التي ابتدعتها فتولد من فكرته هذه ظلمة إذ كان فيها جحود لقدرة غيره فقامت الظلمة تغالبه وكان مماسنه زرادشت عبادة النار والصلاة إلى الشمس يتأولون فيها أنها ملكة العالم وهي التي تأتي بالنهار وتذهب بالليل وتحيي النبات والحيوانات وترد الحرارات إلى أجسادها وكانوا لا يدفنون موتاهم في الأرض تعظيما له وقالوا لأن به حياة كل شيء إلا أن يستعملوا قبله بول البقر ونحوه ولا يبزقون فيه ولا يرون قتل الحيوانات ولا ذبحها وكانوا يغسلون وجوههم ببول البقر تبركا به وإذا كان عتيقا كان أكثر بركة ويستحلون فروج الأمهات قالوا الإبن أحرى بتسكين شهوة أمه وإذا مات الزوج فإبنه أولى بالمرأة فإن لم يكن له إبن اكترى رجلا من مال الميت ويجيزون للرجل أن يتزوج بمائة وألف وإذا أرادت الحائض أن تغتسل دفعت دينارا إلى الموبذ ويحملها إلى بيت النار ويقيمها على أربع وينظفها بسبابته وأظهر هذا الأمر مزدك في أيام قباذ وأباح النساء لكل من شاء ونكح نساء قباذ لتقتدي به العامة فيفعلون في النساء مثله فلما بلغ إلى أم أنو شروان قال لقباذ أخرجها إلي فإنك إن منعتني شهوتي لم يتم إيمانك فهم بإخراجها فجعل أنو شروان يبكي بين يدي مزدك ويقبل رجله بين يدي أبيه قباذ ويسأله أن يهب له أمه فقال قباذ لمزدك ألست تزعم أن المؤمن لا ينبغي أن يرد عن شهوته قال بلى قال فلم ترد أنو شروان عن شهوته قال قد وهبتها له ثم أطلق الناس في اكل الميتة فلما ولى أنو شروان أفنى المزدكية هو ومن أقوال المجوس أن الأرض لا نهاية لها من
(1/69)




أسفلها وأن السماء جلد من جلود الشياطين والرعد إنما هو حركة خرخرة العفاريت المحبوسة في الأفلاك المأسورة في حرب والجبال من عظامهم والبحر من أبوالهم ودمائهم ونبغ للمجوس رجل في زمان انتقال دولة بني أمية إلى بني العباس واستغوى خلقا وجرت له قصص يطول الأمر بذكرها فهو آخر من ظهر للمجوس وذكر بعض العلماء أنه كان للمجوس كتب يدرسونها وأنهم أحدثوا دينا فرفعت كتبهم.
ومن أظرف تلبيس إبليس عليهم أنهم رأوا في الأفعال خيرا وشرا فسول لهم أن فاعل الخير لا يفعل الشر فأثبتوا إلهين وقالوا أحدهما نور حكيم لا يفعل إلا الخير والآخر شيطان هو ظلمة لا يفعل إلا الشر على نحو ما ذكرنا عن الثنوية.
قال المصنف وقد سبق ذكر شبههم وجوابها وقال بعضهم الباري قديم فلا يكون منه إلا الخير والشيطان محدث فلا يكون منه إلا الشر فيقال لهم إذا أقررتم أن النور خلق الشيطان فقد خلق رأس الشر وزعم بعضهم أن الخالق هو النور ففكر فكرة رديئة فقال أخاف أن يحدث في ملكي من يضادني وكانت فكرته رديئة فحدث منها إبليس فرضي إبليس أن ينسب إلى الرداءة بعد إثبات أنه شريك وحكى النوبختي أن بعضهم قال أن الخالق شك في شيء فكان الشيطان من ذلك الشك قال وزعم بعضهم أن الإله والشيطان جسمان قديمان كان بينهما فضاء وكانت الدنيا سليمة من آفة والشيطان بمعزل عنها فاحتال إبليس حتى خرق السماء بجنوده فهرب الرب عز وجل من فعلتهم وتقدس عن قولهم فاتبعه إبليس حتى حاصره وحاربه ثلاث آلاف سنة لا هو يصل إليه ولا الرب عز وجل يدفعه ثم يصالحه على أن يكون إبليس وجنوده في الدنيا سبعة آلاف سنة ورأى الرب أن الصلاح في احتمال مكروه إبليس إلى أن ينقضي الشرط فالناس في بلايا إلى انقضائه ثم يعودون إلى النعيم وشرط إبليس عليه أن يمكنه من أشياء رديئة فوضعها في هذا العالم وأنهما لما فرغا من شرطهما أشهدا عدلين ودفعا سيفيهما إلى العدلين وقالا من نكث فاقتلاه في هذيانات كثيرة يضيع الوقت لذكرها فتنكبناها لذلك ونذكر ما انتهى تلبيس إبليس إليه ما آثرنا ذكر شيء من هذا التخليط والعجب أنهم يجعلون الخالق خيرا ثم يجعلون أنه حدثت منه فكرة رديئة فعلى قولهم يجوز أن تحدث من فكرة إبليس ملك ثم يقال لهم أيجوز أن يفي الشيطان بما ضمن فإن قالوا لا قيل لهم فلا يليق بالحكمة استبقاؤه وإن قالوا نعم فقد أقروا بوجود الوفاء المحمود من الشرير وكيف أطاع الشيطان العدلين وقد عصى ربه وكيف يجوز الافتيات على الإله وهذه الخرافات لولا التفرج فيما صنعه إبليس بالعقول ما كان لذكرها فائدة ولا معنى.
(1/70)




ذكر تلبيس إبليس على المنجمين وأصحاب الفلك
قال أبو محمد النوبختي ذهب قوم إلى أن الفلك قديم لا صانع له وحكى جالينوس عن قوم أنهم قالوا زحل وحده قديم وزعم قوم أن الفلك طبيعة خالصة ليست فيها حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة وليس بخفيف ولا ثقيل وكان بعضهم يرى أن الفلك جوهر ناري وأنه أختطف من الأرض بقوة دورانه وقال بعضهم الكواكب من جسم تشابه الحجارة وقال بعضهم هي من غيم تطفأ كل يوم وتستنير بالليل مثل الفحم يشتعل وينطفيء وقال بعضهم جسم القمر مركب من نار وهوى وقال آخرون الفلك من الماء والريح والنار وأنه بمنزلة الكرة وأنه يتحرك بحركتين من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق قالوا وزحل يدور الفلك في نحو من ثلاثين سنة والمشتري في نحو من اثنتي عشرة سنة والمريخ في نحو سنتين والشمس والزهرة وعطارد في سنة والقمر في ثلاثين يوما وقال بعضهم أفلاك الكواكب سبعة فالذي يلينا فلك القمر ثم فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس ثم فلك المريخ ثم فلك المشتري ثم فلك زحل ثم فلك الكواكب الثابتة واختلفوا في مقادير أجرام الكواكب فقال أكثر الفلاسفة أعظمها جرما الشمس وهو نحو من مائة وست وستين مرة مثل الأرض والكواكب الثابتة مقدار كل واحد منها نحو من أربعة وتسعين مرة مثل الأرض والمشتري نحو من اثنتين وثمانين مرة مثل الأرض والمريخ نحو من مرة ونصف مثل الأرض قالوا ومن كل موضع من أعلى الفلك إلى أن يعود إليه مائة ألف فرسخ وألف فرسخ وأربعة وستون فرسخا وقال بعضهم الفلك حي والسماء حيوان وفي كل كوكب نفس قال قدماء الفلاسفة النجوم تفعل الخير والشر وتعطي وتمنع على حسب طبائعها من السعود والنحوس وتؤثر في النفوس وأنها حية فعالة.
(1/71)




ذكر تلبيس إبليس على جاحدي البعث
قال المصنف قد لبس على خلق كثير فجحدوا البعث واستهولوا الإعادة بعد البلاء وأقام لهم شبهتين إحداهما أنه أراهم ضعف المادة والثانية اختلاط الأجزاء المتفرقة في أعماق الأرض قالوا وقد يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته وقد حكى القرآن شبهتهم فقال تعالى في الأولى: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} .
(1/71)




وقال في الثانية: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية قال قائلهم:
يخبرنا الرسول بأن سنحيى ... وكيف حياة أصداء وهام
وقال آخر: هو أبو العلاء المعري:
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو
والجواب عن شبهتهم الأولى أن ضعف المادة في الثاني وهو التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة ثم أصل الآدميين وهو آدم من تراب على أن الله سبحانه تعالى لم يخلق شيئا مستحسنا إلا من مادة سخيفة فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة فالنظر ينبغي أن يكون إلى قوة الفاعل وقدرته لا إلى ضعف المواد وبالنظر إلى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية ثم قد أرانا كالأنموذج في جمع التمزق فان سحالة1 الذهب المتفرقة في التراب الكثير إذا ألقى عليها قليل من زئبق أجتمع الذهب مع تبدده فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء على أنا لو قدرنا أن نحيل هذا التراب ما استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه فانه ينحل ويسمن ويهزل ويتغير من صغر إلى كبر وهو هو ومن أعجب الأدلة على البعث أن الله عز وجل قد أظهر على يدي أنبيائه ما هو أعظم من البعث وهو قلب العصا حية حيوانا وأخرج ناقة من صخرة وأظهر حقيقة البعث على يدي عيسى صلوات الله وسلامه عليه قال المصنف وقد زدنا هذا شرحا في الرد على الفلاسفة.
فصل: وقد لبس إبليس على أقوام شاهدوا قدرة الخالق سبحانه وتعالى ثم اعترضت لهم الشبهتان اللتان ذكرناهما فترددوا في البعث فقال قائلهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} وقال العاص بن وائل: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وإنما قالوا هذا لموضع شكهم وقد لبس إبليس عليهم في ذلك فقالوا إن كان بعث فنحن على خير لأن من أنعم علينا في الدنيا بالمال لا يمنعناه في الآخرة.
ـــــــ
1 السحالة بالضم كالبرادة ما سقط من الذهب والفضة.
(1/72)




قال المصنف وهذا غلط منهم لأنه لم لا يجوز أن يكون الإعطاء استدراجا أو عقوبة والإنسان قد يحمي ولده ويطلق في الشهوات عبده.
(1/73)




ذكر تلبيسه على القائلين بالتناسخ
قال المصنف: وقد لبس إبليس على أقوام فقالوا بالتناسخ وأن أرواح أهل الخير إذا خرجت دخلت في أبدان خيرة فاستراحت وأرواح أهل الشر إذا خرجت تدخل في أبدان شريرة فيتحمل عليها المشاق وهذا المذهب ظهر في زمان فرعون موسى وذكر أبو القاسم البلخي أن أرباب التناسخ لما رأوا ألم الأطفال والسباع والبهائم استحال عندهم أن يكون ألمها يمتحن به غيرها أو ليتعوض أولا لمعنى أكثر من أنها مملوكة فصح عندهم أن ذلك لذنوب سلفت منها قبل تلك الحال وذكر يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي أن الهند يقولون الطبائع أربع هيولي مركبة ونفس وعقل وهيولي مرسلة فالمركبة هي الرب الأصغر والنفس هي الهيولي الأصغر والعقل الرب الأكبر والهيولي هو أيضا أكبر وأن الأنفس إذا فارقت الدنيا صارت إلى الرب الأصغر وهو الهيولي المركبة فإن كانت محسنة صافية قبلها في طبعه فصفاها حتى يخرجها إلى الهيولي الأصغر وهو النفس حتى تصير إلى الرب الأكبر فيتخلصه إلى الهيولي المركب الأكبر فإن كان محسنا تام الإحسان أقام عنده في العالم البسيط وإن كان محسنا غير تام أعاه إلى الرب الأكبر ثم يعيده الرب الأكبر إلى الهيولي الأصغر ثم يعيده الهيولي الأصغر إلى الرب الأصغر فيخرجه مازحا لشعاع الشمس حتى ينتهي إلى بقلة خسيسة يأكلها الإنسان فيتحول إنسانا ويولد ثانية في العالم وهكذا تكون حاله في كل موتة يموتها وأما المسيئون فإنهم إذا بلغت نفوسهم إلى الهيولي الأصغر انعكست فصارت حشائش تأكلها البهائم فتصير الروح في بهيمة ثم تنسخ من بهيمة في أخرى عند موت تلك البهيمة فلا يزال منسوخا مترددا في العلل ويعود كل ألف سنة إلى صورة الأنس فإن أحسن في صورة الأنس لحق بالمحسنين.
قال المصنف: قلت فأنظر إلى هذه التلبيسات التي رتبها لهم إبليس على ما عن له لا يستند إلى شي أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزار قال أنبأنا علي بن المحسن عن أبيه قال حدثني أبو الحسن علي بن نظيف المتكلم قال كان يحضر معنا ببغداد شيخ الامامية يعرف بأبي بكر بن الفلاس فحدثنا أنه دخل على بعض من كان يعرفه بالتشيع ثم صار يقول بمذهب التناسخ قال فوجدته بين يديه سنور أسود وهو يمسحها ويحك بين عينيها ورأيتها وعينها تدمع كما جرت عادة السنانير
(1/73)




بذلك وهو يبكي بكاءا شديدا فقلت له لم تبك فقال ويحك أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها هذه أمي لا شك وإنما تبكي من رؤيتها إلي حسرة قال وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم منه وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا فقلت له فهي تفهم عنك ما تخاطبها به فقال نعم فقلت أتفهم أنت صياحها قال لا قلت فأنت المنسوخ وهي الإنسان.
(1/74)
تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty رد: تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:12
تابع



ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات
قال المصنف: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين أحدهما التقليد للآباء والأسلاف والثاني الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط فأما الطريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا وكذلك أهل الجاهلية واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} المعنى أتتبعونهم وقد قال عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
قال المصنف: أعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضىء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحرث بن حوط وقد قال له أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل فقال له يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهله وكان أحمد بن حنبل يقول من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلا ولهذا أخذ أحمد بن حنبل يقول زيد في الجد وترك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن قال قائل فالعوام لا يعرفون الدليل فكيف لا يقلدون فالجواب إن دليل الاعتقاد ظاهر على ما أشرنا إليه في ذكر الدهرية ومثل ذلك لا يخفى على عاقل وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها واعتاص على العامي عرفانها وقرب لها أمر الخطأ فيها كان
(1/74)




أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر ونظر إلا أن اجتهاد العامي في اختيار من يقلده.
قال المصنف: وأما الطريق الثاني فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز فساقهم إلى مذهب الفلاسفة ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه فيقال لهؤلاء بالحواس علمتم صحة قولكم فإن قالوا نعم كابروا لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف وإن قالوا بغير الحواس ناقضوا قولهم ومنهم من نفره إبليس عن التقليد وحسن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمه الله لان يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام قال وإذا سمعت الرجل يقول الإسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له قال وحكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب كلام أبدا علماء الكلام زنادقة.
قال المصنف: قلت وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها وقال جهم بن صفوان علم الله وقدرته وحياته محدثة وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال إن الله عز وجل ليس بشيء وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود وحكى القاضي أبو يعلى في كتاب المقتبس قال قال لي العلاف المعتزلي لنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أمر لا يوصف الله بالقدرة على دفعه ولا تصح الرغبة حينئذ إليه ولا الرهبة منه لأنه لا يقدر إذ ذاك على خير ولا شر ولا نفع ولا ضر.
(1/75)




قال ويبقى أهل الجنة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة ولا يتحركون ولا يقدرون هم ولا ربهم على فعل شيء من ذلك لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر تنتهي إليه لا يكون بعده شيء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال المصنف: قلت وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي في كتاب المقالات إن أبا الهذيل إسمه محمد بن الهذيل العلاف وهو من أهل البصرة من عبد القيس مولى لهم وانفرد بأن قال أهل الجنة تنقضي حركاتهم فيصيرون إلى سكون دائم وإن لما يقدر الله عليه نهاية لو خرج إلى الفعل ولن يخرج استحال أن يوصف الله عز وجل بالقدرة على غيره وكان يقول إن علم الله هو الله وإن قدرة الله هي الله وقال أبو هاشم من تاب عن كل شيء إلا أنه شرب جرعة من خمر فإنه يعذب عذاب أهل الكفر أبدا وقال النظام إن الله عز وجل لا يقدر على شيء من الشر وإن إبليس يقدر على الخير والشر وقال هشام القوطي أن الله لا يوصف بأنه عالم لم يزل وقال بعض المعتزلة يجوز على الله سبحانه وتعالى الكذب إلا أنه لم يقع منه وقالت المجيرة لا قدر للآدمي بل هو كالجماد مسلوب الإختيار والفعل وقالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار قال ابن عقيل ما أشبه أن يكون واضع الأرجاء زنديقا فإن صلاح العالم باثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فالمرجئة لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور
الناس ومخالفة العقل أسقطوا فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدموا سياسة الشرع فهم شر طائفة على الإسلام.
قال المصنف: قلت وتبع أبو عبد الله بن كرام فاختار من المذاهب أردأها ومن الأحاديث أضعفها ومال إلى التشبيه وأجاز حلول الحوادث في ذات الباري سبحانه وتعالى وقال إن الله لا يقدر على إعادة الأجسام والجواهر إنما يقدر على ابتدائها قالت السالمية إن الله عز وجل يتجلى يوم القيامة لكل شيء في معنا فيراه الآدمي آدميا والجني جنيا وقالوا الله سر لو أظهره لبطل التدبير.
قال المصنف: قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة من رتبوه وهؤلاء على خطأ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين ودرجة الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على
(1/76)




ذلك وقد ورد ذم الكلام على ما قد أشرنا إليه وقد نقل إلينا أقلاع منطقي المتكلمين عما كانوا عليه لما رأوا من قبح غوائله.
فأخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا أبو منصور محمد بن عيسى بن العزيز البزار ثنا صالح الوفاة بن أحمد بن محمد الحافظ ثنا أحمد بن عبيد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعت قال سمعت أحمد بن سنان قال كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي فلما حضرته الوفاة قال لبنيه تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني قالوا لا قال فتتهمونني قالوا لا قال فإني أوصيكم أتقبلون قالوا نعم قال عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم وكان أبو المعالي الجويني يقول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني وكان يقول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به وقال أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه أنا أقطع ان الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت قال وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي أنفرد بها ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور قال وقد بالغت في الأول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب وإنما قالوا إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من التعليلات والتأويلات فوقفوا مع مراسم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم وبيان هذا أن نقول أحب أن يعرف أراد أن يذكر فيقول قائل هل شغف باتصال النفع هل دعاه داع إلى إفاضة الإحسان ومعلوم أن للداعي عوارض على الذات وتطلبات من النفس وما تعقل ذلك إلا الذات يدخل عليها داخل من شوق إلى تحصيل ما لم يكن لها وهي إليه محتاجة فإذا وجد ذلك العرض سكن الشغف وفتر الداعي وذلك الحاصل يسمى غني والقديم لم يزل موصوفا بالغني منعوتا بالاستقلال بذاته الغنية عن استزادة أو عارض ثم إذا نظرنا في إنعامه رأيناه مشحونا بالنقص
(1/77)




والآلام وأذى الحيوانات فإذا رام العقل أن يعلل بالإنعام جاء تحقيق النظر فرأى أن الفاعل قادر على الصفاء ولا صفاء ورآه منزها بأدلة العقل عن البخل الموجب لمنع ما يقدر على تحصيله وعن العجز عن دفع ما يعرض لهذه الموجودات من الفساد فإذا عجز عن التعليل كان التسليم أولى وإنما دخل الفساد من أن الخلق اقتضاؤه الفوائد ودفع المضار على مقتضى قدرته ولو مزجوا في ذلك العلم بأنه الحكيم لاقتضت نفوسهم له التسليم بحسب حكمته فعاشوا في بحبوحة التفويض بلا اعتراض.
فصل: وقد وقف أقوام مع الظواهر فحملوها على مقتضى الحس فقال بعضهم إن الله جسم تعالى الله عن ذلك وهذا مذهب هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن الخليل ويونس بن عبد الرحمن ثم اختلفوا فقال بعضهم جسم كالأجسام ومنهم من قال لا كالأجسام ثم اختلفوا فمنهم من قال هو نور ومنهم من قال هو على هيئة السبيكة البيضاء هكذا كان يقول هشام بن الحكم وكان يقول إن إله سبعة أشبار بشبر نفسه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأنه يرى ما تحت الثرى بشعاع متصل منه بالمرئي قلت ما أعجب إلا من حدة سبعة أشبار حتى علمت أنه جعله كالأدميين والآدمي طوله سبعة أشبار بشبر نفسه وذكر أبو محمد النوبختي عن الجاحظ عن النظام أن هشام بن عبد الحكم قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبودة أشبر نفسه سبعة أشبار فان قوما قالوا أنه على هيئة السبيكة وأن قوما قالوا هو على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وقال هشام هو متناهي الذات حتى قال إن الجبل أكبر منه قال وله ماهية يعلمها هو.
قال المصنف: وهذا يلزمه أن يكون له كيفية أيضا وذلك ينقض القول بالتوحيد وقد استقرأه الماهية لا تكون إلا لمن كان ذا جنس وله نظائر فيحتاج أن يفرد منها ويبان عنها والحق سبحانه ليس بذي جنس ولا مثل له ولا يجوز أن يوصف بأن ذاته أرادته ومتناهية لا على معنى أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية إنما المراد أنه ليس بجسم ولا جوهر فتلزمه النهاية قال النوبختي وقد حكى كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد وداود الحواري يقولون إن لله صورة وأعضاء.
قال المصنف: أترى هؤلاء كيف يثبتون له القدم دون الآدميين ولم لا يجوز عليه عندهم ما يجوز على الآدميين من مرض أو تلف ثم يقال لكل من ادعى التجسيم بأي دليل أثبت حدث الأجسام فيدلك بذلك على أن الاله هو الذي اعتقدته جسما محدثا غير قديم ومن قول المجسمة
(1/78)




ان الله عز وجل يجوز أن يمس ويلمس فيقال له فيجوز على قولكم أن يمس ويلمس ويعانق وقال بعضهم أنه جسم هو فضاء والأجسام كلها فيه وكان بيان بن سمعان يزعم أن معبوده نور كله وأنه على صورة رجل وأنه يهلك جميع أعضائه إلا وجهه فقتله خالد بن عبد الله وكان المغيرة بن سعد العجلي يزعم أن معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور وله أعضاء وقلب تنبع منه الحكمة وأعضاؤه على صورة حروف الهجاء.
وكان هذا يقول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وكان زرارة ابن أعين يقول لم يكن الباري قادرا حيا عالما في الأزل حتى خلق لنفسه هذه الصفات تعالى الله عن ذلك وقال داود الحوارى هو جسم لحم ودم وله جوارح وأعضاء وهو أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك ومن الواقفين مع الحس أقوام قالوا هو على العرش بذاته على وجه المماسة فإذا نزل انتقل وتحرك وجعلوا لذاته نهاية وهؤلاء قد أوجبوا عليه المساحة والمقدار واستدلوا على أنه على العرش بذاته بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ينزل الله إلى سماء الدنيا" قالوا ولا ينزل إلا من هو فوق وهؤلاء حملوا نزوله على الأمر الحسي الذي يوصف به الأجسام وهؤلاء المشبهة الذين حملوا الصفات على مقتضى الحس وقد ذكرنا جمهور كلامهم في كتابنا المسمى بمنهاج الوصول إلى علم الأصول وربما تخيل بعض المشبهة في رؤية الحق يوم القيامة لما يراه في الأشخاص فيمثله شخصا يزيد حسنه على كل حسن فتراه يتنفس من الشقوق إليه ويمثل الزيادة فيزداد توقع ويتصور رفع الحجاب فيقلق ويتذكر الرؤية فيغشى عليه ويسمع في الحديث أنه يدني عبده المؤمن إليه فيخايل القرب الذاتي كما يجالس الجنس وهذا كله جهل بالموصوف ومن الناس من يقول لله وجه هو صفة زائدة على صفة ذاته لقوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وله يد وله أصبع لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يضع السموات على أصبع" وله قدم إلى غير ذلك مما تضمنته الأخبار وهذا كله إنما استخرجوه من مفهوم الحس وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها وما يؤمن هؤلاء أن يكون المراد بالوجه الذات لا أنه صفة زائدة وعلى هذا فسر الآية المحققون فقالوا ويبقى ربك وقالوا في قوله يريدون وجهه يريدونه وما يؤمنهم أن يكون أراد بقوله قلوب العباد بين إصبعين ان الأصبع لما كانت هي المقبلة للشيء وأن ما بين الإصبعين يتصرف فيه صاحبها كيف شاء ذكر ذلك لا أن ثم صفة زائدة.
قال المصنف: والذي أراه السكوت على هذا التفسير أيضا إلا أنه يجوز أن يكون مرادا ولا يجوز أن يكون ثم ذات تقبل التجزىء والإنقسام ومن أعجب أحوال الظاهرية قول السالمية أن
(1/79)




الميت يأكل في القبر ويشرب وينكح لأنهم سمعوا بنعيم ولم يعرفوا من النعيم إلا هذا ولو قنعوا بما ورد في الآثار من أن أرواح المؤمنين وتجعل في حواصل طير تأكل من شجر الجنة لسلموا لكنهم أضافوا ذلك إلى الجسد قال ابن عقيل ولهذا المذهب مرض يضاهي الإستشعار الواقع للجاهلية وما كانوا يقولونه في الهام والصدا والمكالمة لهؤلاء ينبغي أن تكون على سبيل المداراة لاستشعارهم لا على وجه المناظرة فإن المقاومة تفسدهم وإنما لبس إبليس على هؤلاء لتركهم البحث عن التأويل المطابق لأدلة الشرع والعقل فإنه لما ورد النعيم والعذاب للميت علم أن الإضافة حصلت إلى الأجساد والقبور تعريفا كأنه يقول صاحب هذا القبر الروح التي كانت في هذا الجسد منعمة بنعيم الجنة معذبة بعذاب النار.
فصل: قال المصنف : فان قال قائل قد عبت طريق المقلدين في الأصول وطريق المتكلمين فما الطريق السليم من تلبيس إبليس فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه وأن القرآن كلام الله غير مخلوق قال علي كرم الله وجهه والله ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن وأنه المسموع قوله عز وجل: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وأنه في المصاحف لقوله عز وجل: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} ولا نتعدى مضمون الآيات ولا نتكلم في ذلك برأينا وقد كان أحمد بن حنبل ينهي أن يقول الرجل لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق لئلا يخرج عن الاتباع للسلف إلى حدث.
والعجب ممن يدعي اتباع هذا الإمام ثم يتكلم في المسائل المحدثة أخبرنا سعد الله بن علي البزار نا أبو بكر الطريثيثي نا هبة الله بن الحسن الطبري نا أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه نا عمر بن أحمد الواعظ ثنا محمد بن هرون الحضرمي ثنا القاسم بن العباس الشيباني ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر وقال مالك بن أنس من قال القرآن مخلوق فيستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
أخبرنا أبو البركات بن علي البزار نا أحمد بن علي الطريثي نا هبة الله الطبري ثنا محمد بن أحمد القاسم ثنا أحمد بن عثمان ثنا محمد بن ماهان ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل وسأله عن الأهواء فقال عليك بدين الصبي
(1/80)




في الكتاب والإعرابي وإله عما سواهما قال ابن مهدي وثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي قال قال عمر بن عبد العزيز إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا خلاد بن يحيى عن سفيان الثوري قال بلغني عن عمر أنه كتب إلى بعض عماله أوصيك بتقوى الله عز وجل واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعده بما قد كفوا مؤنته واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق فإن السابقين الماضين عن علم توقفوا وتبصر ناقد قد كفوا وفي رواية أخرى عن عمر وأنهم كانوا على كشف الأمور أقوى وما أحدث إي من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم لقد قصر دونهم أقوام فخفوه وطمح عنهم آخرون فعلوه.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن احمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا سليمان بن أحمد ثنا بشر بن موسى ثنا عبد الصمد بن حسان قال سمعت سفيان الثوري يقول عليكم بما عليه الحمالون والنساء في البيوت والصبيان في الكتاب من الإقراء والعمل.
قال المصنف: فإن قال قائل هذا مقام حجر لا مقام الرجال فقد أسلفنا جواب هذا وقلنا إن الوقوف على العمل ضرورة لأن بلوغ ما يشفي العقل من التعليل لم يدركه من عاص من المتكلمين في البحار فلذلك أمروا بالوقوف على الساحل كما ذكرنا عنهم.
(1/81)




ذكر تلبيس إبليس على الخوارج
قال المصنف: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا محمد بن فضيل ثنا عمارة بن القعقاع عن ابن أبي يعمر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال بعث علي رضي الله عنه من اليمن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبه في أديم مقروظ1 لم تخلص من ترابها فقسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أربعة بين زيد الخيل والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تأمنوني وأنا أمين
ـــــــ
1 المقروظ المدموغ بالقرظ وفي نسخة لم تحصل أي تميز.
(1/81)




من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء" ثم أتاه رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتىء الجبهة كث اللحية مشمر الأزار محلوق الرأس فقال اتق الله يا رسول الله فرفع رأسه إليه فقال: "ويحك أليس أحق الناس أن يتقي الله أنا" ثم أدبر فقال خالد يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلعله يصلي" فقال أنه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لم أؤمر أن أنقبل عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" ثم نظر إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقف فقال: "أنه سيخرج من ضئضيء1 هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" .
قال المصنف: هذا الرجل يقال له ذو الخويصرة التميمي وفي لفظ أنه قال له إعدل فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها وقال تبعثون منكم رجلا ونبعث منا رجلا ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله عز وجل فقال الناس قد رضينا فبعثوا عمرو بن العاص فقال أصحاب علي أبعث أبا موسى فقال علي لا أرى أن أولي أبا موسى هذا ابن عباس قالوا لا يزيد رجلا منك فبعث أبا موسى وأخر القضاء إلى رمضان فقال عروة بن أذينة تحكمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا الله ورجع علي من صفين فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج فأتوا حروراء2 فنزل بها منهم إثنا عشر ألفا وقالوا لا حكم إلا لله وكان ذلك أول ظهورهم ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهذا مرض صعب.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا محمد بن هبة الله الطبري نا محمد بن الحسين بن الفضل نا عبد الله بن جعفر بن درستويه نا يعقوب بن سفيان ثني موسى بن مسعود ثنا عكرمة بن عمار عن سماك بن رميل قال قال عبد الله بن عباس إنه لما إعتزلت الخوارج دخلوا دارا وهم ستة آلاف.
ـــــــ
1 الضئضئوهو بضادين معجمتين مكسورتين وآخره مهموز وهو أصل الشيء وروي بالمهملتين.
2 حروراء: قرية بالعراق قريبة من الكوفة.
(1/82)




وأجمعوا على أن يخرجوا على علي بن أبي طالب فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك فيقول دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون فلما كان ذات يوم أتيته صلاة الظهر فقلت له يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم فقال إني أخاف عليك فقلت كلا وكنت رجلا حسن الخلق لا أؤذي أحدا فأذن لي فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن وترجلت فدخلت عليهم نصف النهار فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم إجتهادا جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن1 الإبل وعليهم قمص مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا مرحبا بابن عباس ما جاء بك فقلت أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم فقالت طائفة منهم لا تخاصموا قريشا فإن الله عز وجل يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فقال إثنان أو ثلاثة لنكلمنه فقلت هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرين والأنصار وعليهم نزل القرآن وليس فيكم منهم أحد وهو أعلم بتأويله قالوا ثلاثا قلت هاتوا قالوا أما أحداهن فانه حكم الرجال في أمر الله وقد قال الله عز وجل: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل فقلت هذه واحدة وماذا قالوا وأما الثانية فانه قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم وقتلهم ولم يحل لنا سبيهم قلت وما الثالثة قالوا فإنه محا عن نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فانه لأمير الكافرين قلت هل عندكم غير هذا قالوا كفانا هذا قلت لهم أما قولكم حكم لرجال في أمر الله أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض هذا فاذا نقض قولكم أترجعون قالوا نعم قلت فإن الله قد صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب وتلى هذه الآية: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى آخر الآية وفي المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} إلى آخر الآية فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وفي حقن دمائهم أفضل أم حكمهم في أرنب وبضع امرأة فأيهما ترون أفضل قالوا بل هذه قلت خرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم فتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام.
ـــــــ
1 الثفن: جمع ثفنة ركبة البعير وغيرها مما يحصل فيه غلظ من أثر البروك.
(1/83)




فأنتم بين ضلالتين لأن الله عز وجل قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أخرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم محا عن نفسه أمير المؤمنين فأنا آيتكم بمن ترضون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية صالح المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو فقال لعلي رضي الله عنه: "أكتب لهم كتابا" فكتب لهم علي هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله فقال المشركون والله ما نعلم انك رسول الله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "اللهم إنك تعلم أني رسول الله" امح يا علي اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه قال فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا اخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا ولاد بن علي الكوفي نا محمد بن علي بن دحم الشيباني ثنا أحمد بن حازم ثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني ابن أبي ليلى ثنا سعيد بن جثيم عن القعقاع بن عمارة عن ابي الخليل عن أبي الشائعة عن جندب الأزدي قال لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن.
قال المصنف: وفي رواية أخرى أن عليا رضي الله عنه لما حكم أتاه من الخوارج زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فدخلا عليه فقالا له لا حكم إلا الله فقال علي لا حكم إلا لله فقال له حرقوص تب من خطيئتك وارجع عن قضيتنا وأخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ولئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل لأقاتلنك أطلب بذلك وجه الله واجتمعت الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينسبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي إيثارها عناء آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق فأخرجوا بنا فكتب إليهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضيا حكمين فقد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما ونحن على الأمر الأول فكتبوا إليك إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك على سواء والسلام ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب فقالوا هل سمعت من أبيك حديثا تحدثه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثناه قال نعم سمعت أبي يحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر "فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول" قالوا أنت سمعت هذا من أبيك تحدثه عن رسول الله قال نعم فقدموه
(1/84)




إلى شفير النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها وكانت حبلى ونزلوا تحت نخل مواقير بنهروان فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه فقال أحدهم أخذتها بغير حدها وبغير ثمنها فلفظها من فيه واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه فقالوا هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه قال فبعث إليهم علي رضي الله عنه أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتلة فناداهم ثلاثا كل ذلك يقولون هذا القول فقال علي رضي الله عنه لأصحابه دونكم القوم فما لبثوا أن قتلوهم وكان وقت القتال يقول بعضهم لبعض تهيأ للقاء الرب الرواح الرواح إلى الجنة وخرج على علي رضي الله عنه بعدهم جماعة منهم فبعث إليهم من قاتلهم ثم اجتمع عبد الرحمن بن ملجم بأصحابه وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا والله ما قنعنا بالبقاء في الدنيا شيء بعد إخواننا الذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم فلوا أنا شرينا أنفسنا لله والتمسنا غير هؤلاء الأئمة الضلال فثأرنا بهم إخواننا وأرحنا منهم العباد.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزار نا أبو محمد الجوهري نا ابن حياة نا أبو الحسن بن معروف نا الحسين بن الفهم نا محمد بن سعد عن أشياخ له فقالوا انتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو ابن بكر التميمي فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا لنقتلن هؤلاء الثلاثة عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ونريح العباد منهم فقال ابن ملجم أنا لكم بعلي وقال البرك أنا لكم بمعاوية وقال عمر وأنا لكم بعمرو فتواثقوا إلا ينقض رجل منهم رجلا عن صاحبه فقدم ابن ملجم الكوفة فلما كانت الليلة التي عزم على قتل علي رضي الله عنه فيها خرج علي رضي الله عنه لصلاة الصبح فضربه فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه فقال علي رضي الله عنه لا يفوتنكم الرجل فأخذ فقالت أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين بأس قال فلم تبكين إذن ثم قال والله لقد سمعته يعني فإن أخلفني فأبعده الله وأسحقه فلما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم ليقتل فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم في عينيه بمسمار محمى فلم يجزع فجعل يقرأ إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق حتى ختمها وإن عينيه لتسيلان فعولج على قطع لسانه فجزع فقيل له لم تجزع فقال أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله وكان رجلا أسمر في جبهته أثر السجود لعنة الله عليه.
قال المصنف قلت ولما أراد الحسن رضي الله عنه أن يصالح معاوية خرج عليه من
(1/85)




الخوارج الجراح بن سنان وقال أشركت كما أشرك أبوك ثم طعنه في أصل فخذه وما زالت الخوارج تخرج على الأمراء ولهم مذاهب مختلفة وكان أصحاب نافع بن الأزرق يقولون نحن مشركون ما دمنا في دار الشرك فإذا خرجنا فنحن مسلمون قالوا ومخالفونا في المذهب مشركون ومرتكبوا الكبائر مشركون والقاعدون عن موافقتنا في القتال كفرة وأباح هؤلاء قتل النساء والصبيان من المسلمين وحكموا عليهم بالشرك وكان تجدة بن عامر الثقفي من القوم فخالف نافع بن الأزرق وقال بتحريم دماء المسلمين وأموالهم وزعم أن أصحاب الذنوب من موافقيه يعذبون في غير نار جهنم وأن جهنم لا يعذب بها إلا مخالفوه في مذهبه وقال إبراهيم الخوارج قوم كفار وتحل لنا مناكحتهم وموارثتهم كما كان الناس في بدء الإسلام وكان بعضهم يقول لو أن رجلا أكل من مال يتيم فليس وجبت له النار لأن الله عز وجل أوعد على ذلك النار.
قال المصنف: ولهم قصص تطول ومذاهب عجيبة لهم لم أر التطويل بذكرها وإنما المقصود النظر في حيل إبليس وتلبيسه على هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم واعتقدوا أن عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه على الخطأ ومن معه من المهاجرين والأنصار على الخطأ وأنهم على الصواب واستحلوا دماء الأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها وتعبوا في العبادات وسهروا وجزع ابن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر واستحل قتل علي كرم الله وجهه ثم شهروا السيوف على المسلمين ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه فقد قال ذو الخويصرة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعدل فما عدلت وما كان إبليس ليهتدي إلى هذه المخازي نعوذ بالله من الخذلان.
أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو بكر بن ملك ثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ثني أبي قال قرأت على عبد الرحمن بن ملك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "يخرج قوم فيكم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" 1 أخرجاه في الصحيحين.
أخبرنا سعد الله بن علي نا أبو بكر الطريثيثى ثنا هبة الله بن الحسن الطبري نا أحمد بن
ـــــــ
1 الرمية: الصيد الذي ترميه فينفذ فيه السهم.
(1/86)




عبيد ثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا أحمد بن سنان ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن الأعمش عن عبد الله بن أبي أوفى وقال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الخوارج كلاب أهل النار" فصل قال المصنف ومن رأي الخوارج أنه لا تختص الامامة بشخص إلا أن يجتمع فيه العلم والزهد فإذا اجتمعا كان إماما نبطيا1 ومن رأى هؤلاء أحدث المعتزلة في التحسين والتقبيح إلى العقل وأن العدل ما يقتضيه ثم حدث القدرية في زمن الصحابة وصار معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم إلى القول بالقدر ونسج على منوال معبد الجهني واصل بن عطاء وانضم إليه عمرو بن عبيد وفي ذلك الزمان حدثت سنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ثم طالعت المعتزلة مثل أبي الهذيل العلاف والنظام ومعمر والجاحظ كتب الفلاسفة في زمان المأمون واستخرجوا منها ما خلطوه بأوضاع الشرع مثل لفظ الجوهر والعرض والزمان والمكان والكون وأول مسألة اظهروها القول بخلق القرآن وحينئذ سمي هذا الفصل فصل علم الكلام وتلت هذه المسألة مسائل الصفات مثل العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر فقال قوم هي معاني زائدة على الذات ونفتها المعتزلة وقالوا عالم لذاته قادر لذاته وكان أبو الحسن الأشعري على مذهب الجبائي ثم انفرد عنه إلى مثبتي الصفات ثم أخذ بعض مثبتي الصفات في اعتقاد التشبيه وإثبات الانتقال في النزول والله الهادي لما يشاء.
ـــــــ
1 النبطي: نسبة إلى النبط بفتحتين أخلاط الناس وأوباشهم.
(1/87)



تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28471
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 1393418480781

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 140

تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات Empty رد: تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات

الإثنين 26 سبتمبر 2011, 21:14
تابع



ذكر تلبيسه على الرافضة
قال المصنف: وكما لبس إبليس على هؤلاء الخوارج حتى قاتلوا علي بن أبي طالب حمل آخرين على الغلو في حبه فزادوه على الحد فمنهم من كان يقول هو الآله ومنهم من يقول هو خير من الأنبياء ومنهم من حمله على سب أبي بكر وعمر حتى إن بعضهم كفر أبا بكر وعمر إلى غير ذلك من المذاهب السخيفة التي يرغب عن تضييع الزمان بذكرها وإنما نشير إلى بعضها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال حدث أبو يعقوب إسحاق بن محمد النخعي عن عبيد الله بن محمد بن عائشة وأبي عثمان المازني وغيرهما وسمعت عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي يقول إسحاق بن محمد النخعي الأحمر كان يقول إن عليا هو الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وبالمدائن جماعة من الغلاة يعرفون بالاسحاقية.
(1/87)




ينسبون إليه قال الخطيب ووقع إلي كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من تصنيفه في الرد على الغلاة وكان النوبختي هذا من متكلمي الشيعة الأمامية فذكر أصناف مقالات الغلاة إلى أن قال وقد كان ممن جرد الجنون في الغلو في عصرنا إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر كان يزعم أن عليا هو الله عز وجل وأنه يظهر في كل وقت فهو الحسن في وقت وكذلك هو الحسين وهو الذي بعث محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المصنف: قلت وقد اعتقد جماعة من الرافضة أن أبا بكر وعمر كانا كافرين وقال بعضهم ارتدا بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهم من يقول بالتبرىء من غير علي وقد روينا أن الشيعة طالبت زيد بن علي بالتبرىء ممن خالف عليا في إمامته فامتنع من ذلك فرفضوه فسموا الرافضة ومنهم طائفة يقال لها الجناحية وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين يقولون إن روح الإله دارت في أصلاب الأنبياء والأولياء إلى أن انتهى إلى عبد الله وأنه لم يمت وهو المنتظر ومنهم طائفة يقال لها الغرابية يثبتون شركة علي في النبوة وطائفة يقال لها المفوضة يقولون إن الله عز وجل خلق محمدا ثم فوض خلق العالم إليه وطائفة يقال لها الذمامية يذمون جبريل ويقولون كان مأمورا بالنزول على علي فنزل على محمد ومنهم من يقول أن أبا بكر ظلم فاطمة ميراثها وقد روينا عن السفاح أنه خطب يوما فقام رجل من آل علي رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أعدني على من ظلمني قال ومن ظلمك قال أنا من أولاد علي رضي الله عنه والذي ظلمني أبو بكر رضي الله عنه حين أخذ فدك من فاطمة قال ودام على ظلمكم قال نعم قال ومن قام بعده قال عمر رضي الله عنه قال ودام على ظلمكم قال نعم ومن قام بعده قال عثمان رضي الله عنه قال ودام على ظلمكم قال نعم قال ومن قام بعده فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانا يهرب إليه.
قال ابن عقيل الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة وذلك أن الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر غائب عنا وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر
(1/88)




الناظرين إلى ذلك منهم فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله فإذا قال قائل أنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفى فان الإعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم فإذا قالت الرافضة أن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذو العقول ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الإعتقادات وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل وهو المعجزات فهذا من أعظم المحن على الشريعة.
قال المصنف: وغلو الرافضة في حب علي رضي الله عنه حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه وقد ذكرت منها جملة في كتاب الموضوعات منها أن الشمس غابت ففاتت عليا صلاة العصر فردت له الشمس وهذا من حيث النقل موضوع لم يروه ثقة ومن حيث المعنى فان الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد فلا يرد الوقت وكذلك وضعوا أن فاطمة اغتسلت ثم ماتت وأوصت أن تكتفي بذلك الغسل وهذا من حيث النقل كذب ومن حيث المعنى قله فهم لأن الغسل عن حدث الموت فكيف يصح قبله ثم لهم خرافات لا يسندونها إلى مستند ولهم مذاهب في الفقه ابتدعوها وخرافات تخالف الإجماع فنقلت منها مسائل من خط ابن عقيل قال نقلتها من كتاب المرتضى فيما انفردت به الأمامية منها أنه لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نبات الأرض فأما الصوف والجلود والوبر فلا وأن الإستجمار لا يجزيء في البول بل في الغائط خاصة ولا يجزىء مسح الرأس إلا بباقي البلل الذي في اليد فإن استأنف للرأس بللا مستأنفا لم يجزه حتى لو نشفت يده من البلل احتاج إلى استئناف الطهارة وانفردوا بتحريم من زنى بها وهي تحت زوج أبدا فلو طلقها زوجها لم تحل للزاني بها بنكاح أبدا وحرموا الكتابيات وأن الطلاق المعلق على شرط لا يقع وإن وجد شرطه وأن الطلاق لا يقع إلا بحضور شاهدين عدلين وأن من نام عن صلاة العشاء إلى أن مضى نصف الليل وجب عليه إذا أستيقظ القضاء وأن يصبح صائما كفارة لذلك التفريط وأن المرأة إذا جزت شعرها فعليها الكفارة مثل قتل الخطأ وأن من شق ثوبه في موت ابن له أو زوجة فعليه كفارة يمين وأن من تزوج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم لزمه الصدقة بخمسة دراهم وأن
(1/89)




شارب الخمر إذا حد ثانية قتل في الثالثة ويحد شارب الفقاع كشارب الخمر وأن قطع السارق من أصول الأصابع ويبقى له الكف فإن سرق مرة أخرى قطعت الرجل اليسرى فان سرق الثالثة خلد في الحبس إلى أن يموت وحرموا السمك الجري كذا وذبائح أهل الكتاب واشترطوا في الذبح استقبال القبلة في مسائل كثيرة يطول ذكرها خرقوا فيها الإجماع وسول لهم إبليس وضعها على وجه لا يستندون فيه إلى أثر ولا قياس بل إلى الواقعات ومقابح الرافضة أكثر من أن تحصى وقد حرموا الصلاة لكونهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء والجماعة لطلبهم إماما معصوما وابتلوا بسب الصحابة
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك ويحيى بن علي قالا أخبرنا محمد بن أحمد ابن المسلمة نا أبو ظاهر المخلص ثنا البغوي ثنا محمد بن عباد المكي ثنا محمد بن طلحة المديني عن عبد الرحمن بن سالم بن عبد الله بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جدة قال قال رسول الله صلى الله عليه أله وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" .
قال المصنف: والمراد بالعدل الفريضة والصرف النافلة أخبرنا أبو البركات بن علي البزار نا أبو بكر الطريثيثي نا هبة الله بن الحسن الطبري نا عبيد الله بن محمد بن أحمد نا علي بن محمد بن أحمد بن يزيد الرياحي ثنا أبي ثنا الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سويد بن غفلة قال مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما فدخلت على علي بن أبي طالب فقلت يا أمير المؤمنين مررت بنفر من أصحابك يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما له أهل ولو لا أنهم يرون أنك تضمر لهما على مثل ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك قال علي أعوذ بالله أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الذي ائتمنني النبي عليه لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل أخوا رسول الله وصاحباه ووزيراه رحمة الله عليهما ثم نهض دامع العينين يبكي قابضا على يدي حتى دخل المسجد فصعد المنبر وجلس عليه متمكنا قابضا على لحيته وهو ينظر فيها وهي بيضاء حتى اجتمع لنا الناس ثم قام فنشهد بخطبة موجزة بليغة ثم قال ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمون بما أنا عنه متنزه ومما قالوه
برىء وعلى ما قالوا معاقب أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي ولا يبغضهما إلا فاجر شقي صحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
(1/90)




الصدق والوفاء يأمران وينهيان ويغضبان ويعاقبان فما يتجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرى غير رأيهما ولا يحب كحبهما أحد مضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راض عنهما ومضيا والمؤمنون عنهما راضون أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صلاة المؤمنين فصلى بهم تسعة أيام في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما قبض الله نبيه واختار له ما عنده ولاه المؤمنون ذلك وفوضوا إليه الزكاة ثم أعطوه البيعة طائعين غير مكرهين وأنا أول من سن له ذلك من بني عبد المطلب وهو لذلك كاره يود لو أن منا أحدا كفاه ذلك وكان والله خير من أبقى أرحمه رحمة وأرأفه رأفة واسنه ورعا واقدمه سنا واسلاما شبهه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بميكائيل رأفه ورحمة وبإبراهيم عفوا ووقارا فسار بسيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مضى على ذلك رحمة الله عليه ثم ولى الأمر بعده عمر رضي الله عنه وكنت فيمن رضي فأقام الأمر على منهاج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه يتبع أثرهما كما يتبع الفصيل اثر أمه وكان والله رفيقا رحيما بالضعفاء ناصرا للمظلومين على الظالمين لا يأخذه في الله لومة لائم وضرب الله الحق على لسانه وجعل الصدق من شأنه حتى ان كنا لنظن أن ملكا ينطق على لسانه أعز الله بإسلامه الإسلام وجعل هجرته للدين قواما وألقى له في قلوب المنافقين الرهبة وفي قلوب المؤمنين المحبة شبهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجبريل فظا غليظا على الأعداء فمن لكم بمثلهما رحمة الله عليهما ورزقنا المضي في سبيلهما فمن احبني فليحبهما ومن لم يحبهما فقد ابغضني وأنا منه بريء ولو كنت تقدمت إليكم في امرهما لعاقبت في هذا اشد العقوبة إلا فمن
اوتيت به يقول بعد هذا اليوم فإن عليه ما على المفتري إلا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ثم الله اعلم بالخير أين هو أقول قولي واستغفر الله لي ولكم.
أخبرنا سعد الله بن علي نا الطريثيثي نا هبة الله الطبري نا محمد بن عبد الرحمن نا البغوي ثنا سويد بن سعيد ثنا محمد بن حازم عن أبي خباب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي كرم الله وجهه قال يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة ينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أينما أدركتموهم فاقتلوهم أشد القتل فإنهم مشركون.
(1/91)




ذكر تلبيس إبليس على الباطنية
قال المصنف: الباطنية قوم تستروا بالإسلام ومالوا إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين
(1/91)




الإسلام بالمرة فمحصول قولهم تعطيل الصانع وابطال النبوة والعبادات وانكار البعث ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم بل يزعمون أن الله حق وأن محمدا رسول الله والدين صحيح لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر وقد تلاعب بهم إبليس فبالغ وحسن لهم مذاهب مختلفة ولهم ثمانية أسماء. الإسم الأول الباطنية: سموا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر وانها بصورتها توهم الجهال صورا حلية وهي عند العقلاء رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأن من تقاعد عقله من الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والاغوار وقنع بظواهرها كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من اعبائه قالوا وهم المرادون بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ومرادهم أن ينزعوا من العقائد موجب الظواهر ليقدروا بالتحكم بدعوى الباطل على أبطال الشرائع.
الإسم الثاني الإسماعيلية: نسبوا إلى زعيم لهم يقال له محمد بن إسماعيل بن جعفر ويزعمون أن دور الامامة انتهى إليه لأنه سابع واحتجوا بأن السموات سبع والأرضين سبع وأيام الأسبوع سبعة فدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة وعلى هذا فيما يتعلق بالمنصور فيقولون العباس ثم ابنه عبد الله ثم ابنه علي ثم ابنه محمد بن علي ثم إبراهيم ثم السفاح ثم المنصور وذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه قال قال علي بن محمد عن أبيه إن رجلا من الراوندية كان يقال له الآبلق وكان أبرص فبكى بالعلو ودعا الرواندية إليه وزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم في الأئمة واحدا بعد واحد إلى أن صارت إلى إبراهيم بن محمد واستحلوا الحرمات فكان الرجل منهم يدعو الجماعة إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته فبلغ ذلك أسد بن عبد الله فقتلهم وصلبهم فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم وعبدوا أبا جعفر وصعدوا الخضراء وألقوا نفوسهم كأنهم يطيرون فلا يبلغون الأرض إلا وقد هلكوا وخرج جماعتهم على الناس في السلاح وأقبلوا يصيحون يا أبا جعفر أنت أنت.
الإسم الثالث السبعية: لقبوا بذلك لأمرين أحدهما اعتقادهم أن دور الامامة سبعة سبعة على ما بينا وأن الإنتهاء إلى السابع هو آخر الأدوار وهو المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه
(1/92)




الأدوار لا آخر له والثاني لقولهم أن تدبير العالم السفلي منوط بالكواكب السبعة زحل ثم المشتري ثم المريخ ثم الزهرة ثم الشمس ثم عطارد ثم القمر.
الإسم الرابع البابكية : قال المصنف وهو إسم لطائفة منهم تبعوا رجلا يقال له بابك الخرمي وكان من الباطنية وأصله أنه ولد زنى فظهر في بعض الجبال بناحية أذربيجان سنة احدى ومائتين وتبعه خلق كثير واستفحل أمرهم واستباح المحظورات وكان إذا علم أن عند أحد بنتا جميلة أو أختا جميلة طلبها فإن بعثها إليه وإلا قتله وأخذها ومكث على هذا عشرين سنة فقتل ثمانين ألفا وقيل خمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان1 وحاربه السلطان وهزم خلقا من الجيوش حتى بعث المعتصم أفسين فحاربه فجاء ببابك وأخيه في سنة ثلاث وعشرين ومائتين فلما دخلا قال لبابك أخوه يا بابك قد عملت ما لم يعمله أحد فأصبر الآن صبرا لم يصبره أحد فقال سترى صبري فأمر المعتصم بقطع يديه ورجليه فلما قطعوا مسح بالدم وجهه فقال المعتصم أنت في الشجاعة كذا وكذا ما بالك قد مسحت وجهك بالدم أجزعا من الموت فقال لا ولكني لما قطعت أطرافي نزف الدم فخفت أن يقال عني إنه اصفر وجهه جزعا من الموت قال فيظن ذلك بي فسترت وجهي بالدم كيلا يرى ذلك مني ثم بعد ذلك ضربت عنقه وأضرمت عليه النار وفعل مثل ذلك بأخيه فما فيهما من صاح ولا تأوه ولا أظهر جزعا لعنهما الله وقد بقي من البابكية جماعة يقال أن لهم ليلة في السنة تجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهضون للنساء فيثب كل رجل منهم إلى امرأة ويزعمون أن من احتوى على امرأة يستحلها بالاصطياد لأن الصيد مباح.
الإسم الخامس المحمرة: قال المصنف سموا بذلك لانهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيام بابك ولبسوها.
الاسم السادس القرامطة: قال المصنف وللمؤرخين في سبب تسميتهم بهذا قولان أحدهما أن رجلا من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فأظهر الزهد ودعا إلى أمام من أهل بيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل على رجل يقال له كرميتة لقب بهذا الحمرة عينية وهو بالنبطية حاد العين فأخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام فرقت له جارية فأخذت المفتاح.
ـــــــ
1 وفي نسخة فقتل مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان.
(1/93)




ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إلى مكانه فلما طلب فلم يوجد زاد افتتان الناس به فخرج إلى الشام فسمى كرميتة باسم الذي كان نازلا عليه ثم خفف فقيل قرمط ثم توارث مكانه أهله وأولاده والثاني أن القوم قد لقبوا بهذا نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط كان أحد دعاتهم في الابتداء فاستجاب له جماعة فسموا قرامطة وقرمطية وكان هذا الرجل من أهل الكوفة وكان يميل إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية في فريق وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها فقال حمدان لذلك الراعي وهو لا يعرفه أين مقصدك فذكر قرية حمدان فقال له أركب بقرة من هذه لئلا تتعب فقال إني لم أؤمر بذلك فقال وكأنك لا تعمل إلا بأمر قال نعم قال وبأمر من تعمل قال بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة فقال ذلك إذن هو الله رب العالمين فقال صدقت قال له فما غرضك في هذه القرية التي تقصدها قال أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما يستغنون به عن الكد فقال له حمدان أنقذني أنقذك الله وأفض علي من العلم ما تحييني به فما أشد احتياجي إلى مثل هذا فقال ما أمرت أن أخرج السر المخزون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال أذكر عهدك فاني ملتزم به فقال له أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا نفس سري أيضا فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استغواه فاستجاب له ثم انتدب للدعاء وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمي أتباعه القرامطة والقرمطية ثم لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه وكان أشدهم بأسا رجل يقال له أبو سعيد ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين وقوى أمره وقتل ما لا يحصى من المسلمين وخرب المساجد وأحرق المصاحف وفتك بالحاج وسن لأهله وأصحابه سننا وأخبرهم بمحالات وكان إذا قاتل يقول وعدت النصر في هذه الساعة فلما مات بنوا على قبره قبة وجعلوا على رأسها طائرا من جص وقالوا إذا طار هذا الطائر خرج أبو سعيد من قبره وجعلوا عند القبر فرسا وخلعة ثياب وسلاحا وقد سول إبليس لهذه الجماعة أنه من مات وعلى قبره فرس حشر راكبا وإن لم يكن له فرس حشر ماشيا وكان أصحاب أبي سعيد يصلون عليه إذا ذكروه ولا يصلون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا سمعوا من يصلي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون أتأكل رزق أبي سعيد وتصلي على أبي القاسم وخلف بعده إبنه أبا طاهر ففعل مثل فعله وهجم على الكعبة فأخذ ما فيها من الذخائر وقلع الحجر الأسود فحمله إلى بلده واوهم الناس أنه الله عز وجل.
(1/94)




الاسم السابع الخرمية: وخرم1 لفظ أعجمي ينبي عن الشيء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان له ومقصود هذه الأسم تسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات كيف كانت وطي بساط التكليف وحط أعباء الشرع عن العباد وقد كان هذا الأسم لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين تبعوا في أيام قباذ وأباحوا النساء المحرمات وأحلوا كل محظور فسموا هؤلاء بهذا الاسم لمشابهتهم اياهم في نهاية هذا المذهب وان خالفوهم في مقدماته.
الاسم الثامن التعليمية: لقبوا بذلك لأن مبدأ مذهبهم أبطال الرأي وافساد تصرف العقول ودعاء الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لا يدرك العلوم إلا بالتعليم.
فصل: في ذكر السبب الباعث لهم على الدخول في هذه البدعة قال المصنف اعلم أن القوم أرادوا الانسلال من الدين فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في إستنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى اخرسوهنم عن النطق بما يعتقدونه من انكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون2 ورأوا أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استطار في الأقطار وأنهم قد عجزوا عن مقاومته فقالوا سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة فإذا هان اولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق ثم قالوا وطريقنا أن نختار رجلا مما يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله عز وجل ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة فإن قرب الدار يهتك الأستار وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن
ـــــــ
1 خرم بضم الخاء وتشديد الراء مفتوحة بوزن سكر صفة مشبهة بالفارسي بمعنى جذلان ومسرور.
2 منخرقون: أي مكذبون مموهون ومنسمون أي ملبسون على الناس الحق بالباطل.
(1/95)




حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره وقصدهم بهذا كله الملك والإستيلاء على أموال الناس والانتقال منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم.
فصل: قال المصنف : وللقوم حيل في استذلال الناس فهم يميزون من يجوز أن يطمع في استدراجه ممن لا يطمع فيه فإذا طمعوا في شخص نظروا في طبعه فإن كان مائلا إلى الزهد دعوه إلى الأمانه والصدق وترك الشهوات وإن كان مائلا إلى الخلاعة قرروا في نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة وإنما الفطنة في اتباع اللذات من هذه الدنيا الفانية ويثبتون عند كل ذي مذهب ما يليق بمذهبه ثم يشككونه فيما يعتقدوه فيستجيب لهم أما رجل أبله أو رجل من أبناء الأكاسرة وأولاد المجوس ممن قد انقطعت دولة أسلافه بدولة الإسلام أو رجل يميل إلى الاستيلاء ولا يساعده الزمان فيعدونه بنيل آماله أو شخص يجب الترفع عن مقامات العوام ويروم بزعمه الاطلاع على الحقائق أو رافضي يتدين بسبب الصحابة رضي الله عنهم أو ملحد من الفلاسفة والثنوية والمتحيرين في الدين أو من قد غلبت عليه حب اللذات وثقل عليه التكليف.
فصل: في ذكر نبذة من مذاهبهم قال أبو حامد الطوسي الباطنية قوم يدعون الإسلام ويميلون إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام فمن مذهبهم القول بآلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني قالوا والسابق لا يوصف بوجود ولا عدم ولا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وحدث عن السابق الثاني وهو أول مبدع ثم حديث النفس الكلية وعندهم أن النبي عليه السلام عبارة عن شخص1 فاضت عليه من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية وزعموا أن جبريل عليه السلام عبارة عن العقل الفائض عليه لا أنه شخص واتفقوا على أنه لا بد لكل عصر مع إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر مساو للنبي عليه السلام في العصمة وأنكروا المعاد وقالوا معنى المعاد عود الشيء إلى أصله وتعود النفس إلى أصلها وأما التكليف فالمنقول عنهم الإباحة المطلقة واستباحة المحظورات وقد ينكرون هذا إذا حكى عنهم وإنما يقرون بأنه لا بد للإنسان من التكليف فاذا اطلع على بواطن الظواهر.
ـــــــ
1 ومن هذا القول الفاسد انتحل البهائيون مذهبهم فضلوا وأضلوا.
(1/96)




ارتفعت التكاليف ولما عجزوا عن صرف الناس عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها إذ لو صرحوا بالنفي المحض لقتلوا فقالوا معنى الجنابة مبادرة المستجيب بافشاء المستجيب بافشاء السر ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الزنى إلقاء نطفة العلم الباطن في نفس من لم يسبق معه عقد العهد والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة هي النبي والباب علي والطوفان طوفان العلم أعرق به المتمسكون بالشبهة والسفينة الحرز الذي يحصن به من استجاب لدعوته ونار إبراهيم عبارة عن غضب نمرود لا عن نار حقيقة وذبح إسحاق معناه أخذ العهد عليه وعصى موسى حجته ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر وذكر غيره أنهم يقولون إن الله عز وجل لما أوجد الأرواح ظهر لهم فيما بينهم كهم فلم يشكوا أنه واحد منهم فعرفوه فأول من عرفه سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر وأول المنكرين الذي يسمى إبليس عمر بن الخطاب في خرافات ينبغي أن يصان الوقت العزيز عن التضييع بذكرها ومثل هؤلاء لم يتمسكوا بشبهة فتكون معهم مناظرة وإنما اخترعوا بواقعاتهم ما أرادوا فان اتفقت مناظرة لأحدهم فليقل له أعرفتم هذه الأشياء التي تذكرونها عن ضرورة أو عن نظر أو عن نقل عن الإمام المعصوم فإن قلتم ضرورة فكيف خالفكم ذوو العقول السليمة ولو ساغ للانسان أن يهدي بدعوى الضرورة في كل ما يهواه جاز لخصمه دعوى الضرورة في نقض ما ادعاه وان قلتم بالنظر فالنظر عندكم باطل لأنه تصرف بالعقل وقضايا العقول عندكم لا يوثق بها وان قلتم عن إمام معصوم قلنا فما الذي دعاكم إلى قبول قوله بلا معجزة وترك قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع المعجزات ثم ما يؤمنكم أن يكون ما سمع من الإمام المعصوم له باطن غير ظاهر ثم يقال لهم هذه البواطن والتأويلات يجب إخفاؤها أم إظهارها فان قالوا يجب إظهارها قلنا فلما كتمها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وان قالوا يجب إخفاؤها قلنا ما وجب على الرسول إخفاؤه كيف حل لكم إفشاؤه قال ابن عقيل هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما أدعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها حتى لم يبق في الشرع شيء إلا وقد وضعوا وراءه معنى حتى اسقطوا إيجاب الوجب والنهي عن المنهي وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل ما ظهر مما لا بد من تأويله فحملوا الأسماء والصفات على ما عقلوه والحق بين المنزلتين وهو أن تأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع.
قال المصنف: ولو لقيت مقدم هذه الطائفة المعروفة بالباطنية لم أكن سالكا معه طريق
(1/97)




العلم بل التوبيخ والإزدراء على عقله وعقول أتباعه بأن أقول أن للآمال طرقا تسلك ووجوها توصل ووضع الأمل في وجه اليأس حمق ومعلوم أن هذه الملل التي قد طبقت الأرض أقر بها شريعة الإسلام التي تتظاهرون بها وتطعمون في إفسادها قد تمكنت تمكنا يكون الطمع في تمحيقها فضلا عن إزالتها حمقا فلها مجمع كل سنة بعرفة ومجمع كل أسبوع في الجوامع ومجمع كل يوم في المساجد فمتى تحدثكم نفوسكم بتكدير هذا البحر الزاخر وتمحيق هذا الأمر الظاهر في الآفاق يؤذن كل يوم على ما بين ألوف منابر بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وغاية ما أنتم عليه حديث
في خلوة أو متقدم في قلعة ان نبس بكلمة يرمي رأسه وقتل الكلاب فمتى يحدث العاقل منكم نفسه بظهور ما أنتم عليه على هذا الأمر الكلي الذي طبق البلاد فما أعرف أحمق منكم إلى أن يجيء إلى باب المناظرة بالبراهين العقلية.
فصل: قال المصنف والتهبت جمرة الباطنية المتأخرين في سنة أربع وتسعين واربعمائة فقتل السلطان جلال الدولة برقيارق خلقا منهم لما تحقق مذهبهم فبلغت عدة القتلى ثلثمائة ونيفا وتتبعت أموالهم فوجد لأحدهم سبعون بيتا من اللآلىء المحفور وكتب بذلك كتاب إلى الخليفة فتقدم بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك المذهب ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا وصار كل من في نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب فيقصيه وينتهب ماله وأول ما عرف من أحوال الباطنية في أيام الملك شاه جلال الدولة أنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم أطلقهم ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل فخافوه أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه فبلغ الخبر إلى نظام الملك فتقدم يأخذ من يتهم فيقتله فقتل المتهم وكان نجارا وكانت أول فتكة لهم فتكهم بنظام الملك وكانوا يقولون قتلتم منا نجارا فقتلنا به نظام الملك واستفحل أمرهم بأصبهان فلما مات الملك شاه وآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان ويقتلونه ويلقونه في البئر وكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله أيسوا منه وفتش الناس المواضع فوجدوا امرأة في دار لا تبرح فوق حصير فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلا فقتلوا المرأة وأحرقوا الدار والمحلة وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه هذه الدار فإذا مر إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق فإذا حصل هناك جذبه من في الدار واستولوا عليه فجد المسلمون في طلبهم باصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأول قلعة تملكها الباطنية قلعة في ناحية يقال لها الروزباد من نواحي الديلم وكانت هذه القلعة لقماح صاحب
(1/98)




ملكشاه وكان يستحفظها متهما بمذهب القوم فأخذ ألفا ومائتي دينار وسلم إليهم القلعة في سنة ثلاث وثمانين في أيام ملكشاه وكان مقدمها الحسن بن الصباح وأصله من مرو وكان كاتبا للرئيس عبد الرازق بن بهرام إذ كان صبيا ثم إلى مصر وتلقى من دعاتهم المذاهب وعاد داعية القوم ورأسا فيهم وحصلت له هذه القلعة وكانت سيرته في دعاته ألا يدعوا إلا غبيا لا يفرق بين يمينه وشماله مثلا ومن لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه ثم يذكر له حينئذ ما تم على أهل بيت المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعليهم من الظلم والعدوان حتى يستقر ذلك في نفسه ثم يقول إذا كانت الأزارقة والخوارج سمحوا بنفوسهم في قتال بني أمية فما سبب بخلك بنفسك في نصرة إمامك فيتركه بهذه المقالة طعمة للسيف وكان ملكشاه قد أرسل إلى ابن الصباح يدعوه إلى الطاعة ويتهدده أن خالفه ويأمره بالكف عن بث أصحابه لقتل العلماء والأمراء فقال في جواب الرسالة والرسول حاضر الجواب ما تراه ثم قال لجماعة وقوف بين يديه أريد أن أنقذكم إلى مولاكم في حاجة فمن ينهض لها باشرأب كل منهم لذلك فظن رسول السلطان أنها رسالة يحملها إياهم فأومأ إلى شاب منهم فقال له أقتل نفسك فجذب سكينة وضرب بها غلصمته1 فخر ميتا وقال لآخر إرم نفسك من القلعة فألقى نفسه فتمزق ثم التفت إلى رسول السلطان فقال أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا حد طاعتهم لي وهذا هو الجواب فعاد الرسول إلى السلطان ملكشاه فأخبره بما رأى فعجب من ذلك وترك كلامهم وصارت بأيديهم قلاع كثيرة ثم قتلوا جماعة من الأمراء والوزراء قال المصنف وقد ذكرنا من صفة القوم في التاريخ إحوالا عجيبة فلم نر التطويل بها هنا.
فصل: وكم من زنديق في قلبه حقد على الإسلام خرج فبالغ واجتهد فزخرف دعاوي يلقي بها من يصحبه وكان غور مقصده في الإعتقاد الإنسلال من ربقة الدين وفي العمل نيل الملذات واستباحة المحظورات فمنهم بابك الخرمي حصل له مقصوده من اللذات ولكن بعد أن قتل الناس وبالغ في الأذى ثم القرامطة وصاحب الزنج الذي خرج فاستغوى المماليك السودان ووعدهم الملك فنهب وفتك وقتل وبالغ وكانت عواقبهم في الدنيا أقبح العواقب فما وفي ما نالوا بما نيل منهم ومنهم من لم يبرح على تعثيره ففاتته الدنيا والآخرة مثل ابن الراوندي والمعري أنبأنا محمد بن أبي طاهر عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال كان ابن
ـــــــ
1 الغلصمة: رأس الحلقوم وهو الموضع الناتئ في الحلق والجمع غلاصم.
(1/99)




الراوندي ملازم الرافضة وأهل الإلحاد فإذا عوتب قال إنما أريد أن أعرف مذاهبهم ثم كاشف وناظر. قال المصنف من تأمل حال1 ابن الراوندي وجده من كبار الملحدة وصنف كتابا سماه الدامغ زعم أنه يدمغ به هذه الشريعة فسبحان من دمغه فأخذه وهو في شرخ الشباب وكان يعترض على القرآن ويدعي عليه التناقض وعدم الفصاحة وهو يعلم أن فصحاء العرب تحيرت عند سماعه فكيف بالألكن وأما أبو العلاء المعري فأشعاره ظاهرة الإلحاد وكان يبالغ في عداوة الأنبياء ولم يزل متخبطا في تعثيره خائفا من القتل إلى أن مات بخسرانه وما خلا زمان من خلف للفريقين إلا أن جمرة المنبسطين قد خبت بحمد الله فليس إلا باطني مستتر ومتفلسف متكاتم هو أعثر الناس وأخسأهم قدرا وأردأهم عيشا وقد شرحنا أحوال جماعة من الفريقين في التاريخ فلم نر التطويل بذلك والله الموفق.
ـــــــ
1 ومن تتبع شعر أبي العلاء المعري وسيرة ابن الرواندي علم أنهما على جانب عظيم من الإلحاد والزندقة إلا أن المعري يتستر كثيرا بخلاف ابن الرواندي وقد ظهر في زماننا بعض من يتمذهب بمذهبهما وانفرد الأعمى المتفلسف يؤلف في سيرة أبي العلاء المعري ويرغب الناس في مذهبه وشعره ويروج مؤلفاته وينشرها بين الناس للإضلال وقد سرى هذا المذهب إليهم من رحلتهم إلى مدارس أوروبا وتلقيهم العلوم الفلسفية عن أعداء الدين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا كلا والله إنهم لفي سكرتهم يعمهون وفي شقاوتهم يسبحون ولخذلان أنفسهم يعملون ولا يعلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1/100)
تابع

________________________________________________
تلبيس إبليس - الباب الخامس : ذكر تلبيسه في العقائد واليانات 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى