- ناجح المتولى
- عدد المساهمات : 0
نقاط : 3760
تاريخ التسجيل : 13/01/2014
قواعد ذهبية
الإثنين 19 سبتمبر 2011, 19:22
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قواعد ذهبية من قواعد الدعوة الربانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فعنْ أبيِ مُوسَى الأشْعَريَّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- بعثَهُ وَمُعَاذاً إلى اليَمَنِ فقَالَ لَهُمَا: ((يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا)).
بعث النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعريَّ، ومعاذَ بنَ جبلٍ - رضي الله عنهما - إلى اليمن داعييْن إلى الإسلام، ومُعَلّميْن للمسلمين ولمن دخل في الإسلام، فقال لهما قبلَ سفرِهما موصياً وناصحًا، ومعلمًا ومرشدًا لهما كيف تكون الدعوة، وما هي الأساليب التي يجب عليهما اتِّباعُها لتحقيق الغاية من سفرهما؟ وهي دخول الناس في دين الله أفواجاً، قال لهما:
- الوصية الأولى ((يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا)):
أي بيّنا للناس سماحةَ الإسلام، ويُسْرَ الدين، فإنَّ هذا الدينَ يُسْرٌ لا عُسْرَ فيه، ولا مشقَّة ولا حرج، كما قال - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
وقال - تعالى -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:8].
وقال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78].
وقال - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28]. فالدِّينُ يُسْرٌ لا عُسْرَ فيه، لا عُسرَ في العقيدة، ولا عُسرَ في الأحكام، فالإيمانُ: ((أنْ تُؤْمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبهِ ورُسُلهِ واليَوْمِ الآخر، وتؤمنَ بالقَدرِ خَيْرِه وشَرّه))، وكلها عقائدُ سهْلةٌ وميْسورة، لا خفاءَ فيها ولا غُموض، ولا تعقيدَ ولا مشقَّة، وكلُّ إنسانٍ يرى في نفسه القدْرَةَ على اعتقاد هذه العقائد؛ لأنَّها عقائدُ تقْبلُها العقولُ السَّليمة، وتُقِرُّها الفِطْرُ المسْتقيمة، والإسلامُ: ((أن تَشْهد أنَّ لا إلهَ إلاَّ الله، وأنَّ محمدًا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمضانَ، وتَحُجَّ البيْتَ إنِ اسْتَطعْتَ إليه سبيلاً)).
والصَّلواتُ خَمْسٌ في اليوم والليلة، لا تستَغْرِقُ من الأرْبَعِ والعشرين ساعةً ساعةً، يُشترط فيها الوضوءُ فمن عجز عنه تيمَّم، ويُشْتَرطُ فيها استقبالُ القبلة فمن عجز عنْه لمرَضٍ أو غيره (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة:115]، ويُشترط فيها القيامُ فإنْ لم تستطعْ فقاعداً، فإنْ لم تستطع فعلى جنب.
والزَّكاة لا تجب إلا على مَنْ ملَك نصابًا معيّنًا من المال وحال عليه الحول، ولا تجب إلا كلَّ سنَة، والقدْرُ الواجب إخراجُه شيء يسير جدًا بالنسبة إلى ما في يد المالك، فهو رُبُعُ العُشْرِ، بمعدّل كلِّ ألْفِ جُنَيْهٍ خمْسَةٌ وعشرون جنيها.
والصِّيامُ أيَّامٌ معدودات، هي شهْرُ رمضان كلَّ عام، ومع ذلك (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة:185].
وأما الحجُّ فلا يجب إلا مرّةً واحدة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً، فمن لم يستطع فلا جناح عليه.
فمن فعل ذلك دخل الجنة، كما في الحديث، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه – قَالَ: "نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: ثُمَّ وَلَّى قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ))".
هذا هو الدِّين، هذا هو الإسلام، سَهْلٌ سَمْحٌ، جليٌّ واضح، لا خفاءَ فيه ولا غُموض، ولا حرجَ فيه ولا مشقَّة، فيجبُ على الدُّعاة أن يعوا هذِه الحقيقة، وأن يستجيبوا لهذه الوصيَّة، وأن يُيَسِّروا ولا يُعَسِّروا، وأن يُقَدّموا الدِّين للناسِ سَلِسًا سهلاً، وأن يُحْسِنُوا عَرْضَه حتى يُقْبِلَ النَّاُس عليه ويَدْخُلوا فيه، وللدُّعاةِ في ذلك الأسوةُ الحسَنة، والمثَلُ الأعْلى، في الدَّاعية الأوَّل محمَّدٍ رسُولِ الله –صلى الله عليه وسلم-، فلقد كان ييسّر على الناس، ويبسّط لهم الإسلام، حتى دخل الناسُ في دين الله أفواجا، و((إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- لَيَدَعُ العَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِم))، كما فَعل في قيامِ رمضان، صلّى في المسْجد، فصلّى بصلاته أناسٌ، ثم صلَّى من القابلة فكثُر الناس ثم اجتمعوا من الليلةِ الثالثة فلم يخْرُجْ إليهم، فلما أصبح قال: ((قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)).
وأخّر العِشَاء ليلةً حتى نام مَن في المسجد ثم خرج فصلاّها، ثم قال: ((إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي))، وقال: ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ)).
وكان يحْلُم على الجاهلين، ويُعلِّمهم برفقٍ ولين، وينْهي عن نَهْرِهم وأذيّتهم.
عن أَبَي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: "قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: ((دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي. قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))".
وكان ينكر على كل من شدّد على نفسه، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه – قال: "جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا! قَالُوا: فَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الآخَرُ: وأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))".
وَعَنِ عَبْد َاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بن العاص - رضي الله عنهما – قَالَ: "أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فقال رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: ((أَنْتَ الَّذِي تَقُولَ ذَلِكَ))؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله –صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ، ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ)). قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: ((فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ)). قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: ((فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عليه السلام -، وَهُوَ أعدل الصِّيَامِ)). قُلْتُ: فإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))".
فيا معْشَرَ الدُّعاةِ: يسّروا ولا تعسِّروا..
- الوصية الثانية ((وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا)):
أي بشّروا النَّاسَ أنَّ الله يقْبَلُ التَّوبَةَ عن عباده، ويعْفُو عن السيِّئات، بلّغوا الكافرين قول الله - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38].
بلِّغوهم قَوْلَ الله - تعالى -: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
بلّغوهم قولَه - تعالى -: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:68-70].
ذكّروهم أنَّ الإسلاَم يَجُبّ ما قبله، كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه – قَالَ: "لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي. فقَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو))؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. فقَالَ: ((تَشْتَرِطُ مَاذَا))؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ))".
ذكَروهم بهذا، وبشّروهم أنَّ كلَّ ما عملوا من خَيْرٍ في الكُفْرِ فلهم أجرُه في الإسلام، وكلَّ ما عملوا من شرٍّ مُحي عنهم إثْمُه بالإسلام، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه – قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أمورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلاَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي بهَا أَجْرٍ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ))". وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَمَحا عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ زلَفَهَا، وكَانَ عمله بَعْدُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ - تعالى -عَنْه)).
فبشّروا ولا تنفّروا...
بشّرِوا عُصاةَ المسلمين بأنَّ اللهَ واسعُ المغفرة، ورحمتُه وسَعَتْ كلَّ شيء، بشّروهم بأنَّ الله يبسط يدَه باللَّيْلِ ليتوبَ مسيءُ النَّهار، ويبسطُ يدَهُ بالنَّهارِ ليتوبَ مُسيءُ اللَّيْل..
بشّروهم بأنَّ من استغفرَ اللهَ غفرَ له، ومن تابَ إليْه تابَ عليه، بشّروهم بأنَّ الله لا يطردُ أحدًا عن بابه،
بشّروهم بأنه ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ، فَقَتَلَهُ فأتمّ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله!! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ - تعالى -، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أدركه الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ - تعالى -، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ -أي حكماً- فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فنَأَى بِصَدْرِهِ جهة أهل الطاعة فكان أقرب إليها فقبضته ملائكة الرحمة)).
فبشّروا عصاةَ المسلمين، وقُولُوا لهم إذا كانَتْ هذه رحمةَ الله بمَن قتلَ مائةً مِنْ غيْرِنا، فنحْنُ أوْلى وأحقُّ برحْمَةِ الله مِنْ هذا القاتل؛ لأن أُمَّتنَا خيْرُ الأمم وأكْرَمُها على الله - عز وجل -.
بشّروهم بقولِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-: ((أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ- تبارك وتعالى -: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ- تبارك وتعالى -: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ- تبارك وتعالى -: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)).
فبشّروا ولا تنفّروا، ووسِّعُوا على عبادِ الله ولا تتحجَّروا واسعًا.
ولقد كان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- يُنكر على المنفّرين، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدريّ - رضي الله عنه – قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ والصغير وَذَا الْحَاجَةِ))".
وأعْظَمُ من ذلكَ إخبارُه أنَّ الله يُعذّب الذين يقنّطون النّاسَ من رحمته، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلاَنِ مُتَوَاخِيَانِ، أَحَدُهُمَا مُذْنِبُ وَالآخَرُ فِي الْعِبَادَةِ مُجْتَهِدٌ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لا يَزَالُ يَرَى الآخَرَ عَلَى ذَنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ له: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قال: لاَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ. فَقَبَضَ اللهُ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الربّ - تعالى –للْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-: "تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ".
فبشَروا ولا تنفّروا..
بشّروا المستضعفين في الأرْض من المسلمين بالنَّصر والتَّمكين، ولا تَزْرَعُوا في نفوسهم اليأس، فقد كان يبشّر العُصْبَةَ المؤمنةَ بالنَّصر والتمكين، وقيامِ الدَّولة واتّساعِ الرُّقعة، وهم تَحْتَ وطأة التعذيب.
عَنْ خَبَّابٍ بن الأرتّ - رضي الله عنه – قَالَ: "شَكَوْنَا إلى رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فيها، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فيُوضع عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نصفين، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لحمه وعَظْمِهِ مَا يَصْدُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ من صَنْعَاءَ إلى َحَضْرَمُوتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَستعْجَلُونَ))".
وكان يقول: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ حتى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)).
فبشّروهم.. بشّروهم بأنَّ المستقبلَ لهذا الدين، وأنَّ هذا الإسلامَ ستُفتح له البيوتُ كلُّها، كما قال: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)).
بشّروا المتطلِّعين إلى عَوْدةِ الخلافة الراشدة أنَّها عائدة، كما قال: ((تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ..)).
- الوصية الثالثة ((وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا)):
فإنَّ الخيْرَ كلّه في الاتِّفاق، والشرّ كلَّه في الاختلاف، والاتفاقُ رحمةٌ والاختلافُ عذاب، قال - تعالى -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود:118-119].، فالمرحومون متفقون لا يختلفون، وإذا اختلفوا اختلافًا هم فيه معذورون لا يتباغضون، ولا يتدابرون.
ولقد وصّى اللهُ - تعالى - المؤمنين بالاتِّفاق، ونهاهم عن الاختلاف، ووصّاهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرُّق، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:102-103]، وقال - تعالى -: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ..) [آل عمران:105-106]، قال ابنُ عبَّاس –رضي الله عنهما-: "يومَ تبيضّ وجوهُ أهْلِ السنَّةِ والجماعة، وتسودّ وجوهُ أهلِ الفُرْقَة والضلالة".
وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..) [الأنفال:45-46]، فعصوا اللهَ ورسولَه، وتنازعوا يوْمَ أُحدٍ، ففشَلوا فذهب ريحُهم، وتمكَّن منهم عدوُّهم.
قال - تعالى -: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:152].
وكان من خبرهم أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- عيّن يومَ أُحُدٍ فريقًا من الرُّماةِ للحراسة، وجعل عليهم أميرًا، وأمرهم أن يصْعَدُوا الجبلَ ليحْمُوا ظهورَ المجاهدين، لا يأتيهم العدوُّ مِنْ خلفهم، وأمرهم أن لا ينْزِلوا مهما كانت النتيجة.
فلما التقى الجمْعان مكَّن اللهُ للمجاهدين من الكافرين، فأعملوا فيهم السُّيوفَ وأثْخَنُوا في الأرض، ففرّ العدوُّ هارباً، وتبعهم المسلمون يأسرون من يُدركون ويجمعون الغنائم، فلما رأى الحرَّاس ذلك قالوا: مالنا والبقاء بعد ما انتهى القتال وفرّ العدوّ، وحاول الأميرُ أن يصبّرهم ليثْبُتوا كما أُمِرُوا، ولكن دون جدوى، فنزلوا فلما رأى العدوُّ أنَّ الجبَل قد خلا استدار فريقٌ منهم فعلَوُا الجبلَ، وأخذوا يرمون المسلمين، فكان ما كان.. وأُصيب المسلمون بالقتل والجراحات، وكان ذلك كلَّه بسبب الاختلاف والتنازع وعدم التطاوع.
ولذلك وصّى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- معاذًا وأبا موسى –رضي الله عنهم- حين بعثهما إلى اليمن قائلاً: ((وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا))، فإنَّ الاختلاف عمومًا مذموم، واختلافُ الدُّعاة أشدّ ذمًا، ذلك أنهم باختلافهم يصدّون النَّاسَ عن الهدى، ويصرفونهم عن الحق؛ لأنَّ الناس سيقولون انظروا إلى هؤلاءِ الذين يزْعُمون أنهم يدْعُون النَّاسَ إلى الحقِّ وهم مختلفون، فلو كانوا على الحقِّ ما اختلفوا عليه.
فعلى الدُّعاة أن يوحّدوا صفَّهم، ويجتمعوا على كلمتهم، وإذا اختلفوا في شيءٍ حاولوا القضاء على هذا الاختلاف بردّ الأمر إلى الكتاب والسنَّة، كما أمر - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء:59]، حتى تجمل صورتُهم، وتتضح دعوتُهم، فما أجمل الاتّفاق والتَّطاوع وما أقبح الاختلاف والفرقة.
نسأل الله - تعالى - أن يجمع شمل المسلمين، ويوحّد كلمتهم، ويهيئ لهم من أمرهم رشد.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رُشد، يُعزّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قواعد ذهبية من قواعد الدعوة الربانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فعنْ أبيِ مُوسَى الأشْعَريَّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- بعثَهُ وَمُعَاذاً إلى اليَمَنِ فقَالَ لَهُمَا: ((يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا)).
بعث النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعريَّ، ومعاذَ بنَ جبلٍ - رضي الله عنهما - إلى اليمن داعييْن إلى الإسلام، ومُعَلّميْن للمسلمين ولمن دخل في الإسلام، فقال لهما قبلَ سفرِهما موصياً وناصحًا، ومعلمًا ومرشدًا لهما كيف تكون الدعوة، وما هي الأساليب التي يجب عليهما اتِّباعُها لتحقيق الغاية من سفرهما؟ وهي دخول الناس في دين الله أفواجاً، قال لهما:
- الوصية الأولى ((يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا)):
أي بيّنا للناس سماحةَ الإسلام، ويُسْرَ الدين، فإنَّ هذا الدينَ يُسْرٌ لا عُسْرَ فيه، ولا مشقَّة ولا حرج، كما قال - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
وقال - تعالى -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:8].
وقال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78].
وقال - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28]. فالدِّينُ يُسْرٌ لا عُسْرَ فيه، لا عُسرَ في العقيدة، ولا عُسرَ في الأحكام، فالإيمانُ: ((أنْ تُؤْمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبهِ ورُسُلهِ واليَوْمِ الآخر، وتؤمنَ بالقَدرِ خَيْرِه وشَرّه))، وكلها عقائدُ سهْلةٌ وميْسورة، لا خفاءَ فيها ولا غُموض، ولا تعقيدَ ولا مشقَّة، وكلُّ إنسانٍ يرى في نفسه القدْرَةَ على اعتقاد هذه العقائد؛ لأنَّها عقائدُ تقْبلُها العقولُ السَّليمة، وتُقِرُّها الفِطْرُ المسْتقيمة، والإسلامُ: ((أن تَشْهد أنَّ لا إلهَ إلاَّ الله، وأنَّ محمدًا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمضانَ، وتَحُجَّ البيْتَ إنِ اسْتَطعْتَ إليه سبيلاً)).
والصَّلواتُ خَمْسٌ في اليوم والليلة، لا تستَغْرِقُ من الأرْبَعِ والعشرين ساعةً ساعةً، يُشترط فيها الوضوءُ فمن عجز عنه تيمَّم، ويُشْتَرطُ فيها استقبالُ القبلة فمن عجز عنْه لمرَضٍ أو غيره (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة:115]، ويُشترط فيها القيامُ فإنْ لم تستطعْ فقاعداً، فإنْ لم تستطع فعلى جنب.
والزَّكاة لا تجب إلا على مَنْ ملَك نصابًا معيّنًا من المال وحال عليه الحول، ولا تجب إلا كلَّ سنَة، والقدْرُ الواجب إخراجُه شيء يسير جدًا بالنسبة إلى ما في يد المالك، فهو رُبُعُ العُشْرِ، بمعدّل كلِّ ألْفِ جُنَيْهٍ خمْسَةٌ وعشرون جنيها.
والصِّيامُ أيَّامٌ معدودات، هي شهْرُ رمضان كلَّ عام، ومع ذلك (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة:185].
وأما الحجُّ فلا يجب إلا مرّةً واحدة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً، فمن لم يستطع فلا جناح عليه.
فمن فعل ذلك دخل الجنة، كما في الحديث، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه – قَالَ: "نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: ((اللَّهُ)). قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً؟ قَالَ: ((صَدَقَ)). قَالَ: ثُمَّ وَلَّى قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ))".
هذا هو الدِّين، هذا هو الإسلام، سَهْلٌ سَمْحٌ، جليٌّ واضح، لا خفاءَ فيه ولا غُموض، ولا حرجَ فيه ولا مشقَّة، فيجبُ على الدُّعاة أن يعوا هذِه الحقيقة، وأن يستجيبوا لهذه الوصيَّة، وأن يُيَسِّروا ولا يُعَسِّروا، وأن يُقَدّموا الدِّين للناسِ سَلِسًا سهلاً، وأن يُحْسِنُوا عَرْضَه حتى يُقْبِلَ النَّاُس عليه ويَدْخُلوا فيه، وللدُّعاةِ في ذلك الأسوةُ الحسَنة، والمثَلُ الأعْلى، في الدَّاعية الأوَّل محمَّدٍ رسُولِ الله –صلى الله عليه وسلم-، فلقد كان ييسّر على الناس، ويبسّط لهم الإسلام، حتى دخل الناسُ في دين الله أفواجا، و((إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- لَيَدَعُ العَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِم))، كما فَعل في قيامِ رمضان، صلّى في المسْجد، فصلّى بصلاته أناسٌ، ثم صلَّى من القابلة فكثُر الناس ثم اجتمعوا من الليلةِ الثالثة فلم يخْرُجْ إليهم، فلما أصبح قال: ((قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)).
وأخّر العِشَاء ليلةً حتى نام مَن في المسجد ثم خرج فصلاّها، ثم قال: ((إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي))، وقال: ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ)).
وكان يحْلُم على الجاهلين، ويُعلِّمهم برفقٍ ولين، وينْهي عن نَهْرِهم وأذيّتهم.
عن أَبَي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: "قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: ((دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي. قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))".
وكان ينكر على كل من شدّد على نفسه، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه – قال: "جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا! قَالُوا: فَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الآخَرُ: وأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))".
وَعَنِ عَبْد َاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بن العاص - رضي الله عنهما – قَالَ: "أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فقال رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: ((أَنْتَ الَّذِي تَقُولَ ذَلِكَ))؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله –صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ، ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ)). قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: ((فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ)). قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: ((فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عليه السلام -، وَهُوَ أعدل الصِّيَامِ)). قُلْتُ: فإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))".
فيا معْشَرَ الدُّعاةِ: يسّروا ولا تعسِّروا..
- الوصية الثانية ((وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا)):
أي بشّروا النَّاسَ أنَّ الله يقْبَلُ التَّوبَةَ عن عباده، ويعْفُو عن السيِّئات، بلّغوا الكافرين قول الله - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38].
بلِّغوهم قَوْلَ الله - تعالى -: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
بلّغوهم قولَه - تعالى -: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:68-70].
ذكّروهم أنَّ الإسلاَم يَجُبّ ما قبله، كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه – قَالَ: "لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي. فقَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو))؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. فقَالَ: ((تَشْتَرِطُ مَاذَا))؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ))".
ذكَروهم بهذا، وبشّروهم أنَّ كلَّ ما عملوا من خَيْرٍ في الكُفْرِ فلهم أجرُه في الإسلام، وكلَّ ما عملوا من شرٍّ مُحي عنهم إثْمُه بالإسلام، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه – قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أمورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلاَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي بهَا أَجْرٍ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ))". وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَمَحا عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ زلَفَهَا، وكَانَ عمله بَعْدُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ - تعالى -عَنْه)).
فبشّروا ولا تنفّروا...
بشّرِوا عُصاةَ المسلمين بأنَّ اللهَ واسعُ المغفرة، ورحمتُه وسَعَتْ كلَّ شيء، بشّروهم بأنَّ الله يبسط يدَه باللَّيْلِ ليتوبَ مسيءُ النَّهار، ويبسطُ يدَهُ بالنَّهارِ ليتوبَ مُسيءُ اللَّيْل..
بشّروهم بأنَّ من استغفرَ اللهَ غفرَ له، ومن تابَ إليْه تابَ عليه، بشّروهم بأنَّ الله لا يطردُ أحدًا عن بابه،
بشّروهم بأنه ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ، فَقَتَلَهُ فأتمّ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله!! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ - تعالى -، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أدركه الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ - تعالى -، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ -أي حكماً- فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فنَأَى بِصَدْرِهِ جهة أهل الطاعة فكان أقرب إليها فقبضته ملائكة الرحمة)).
فبشّروا عصاةَ المسلمين، وقُولُوا لهم إذا كانَتْ هذه رحمةَ الله بمَن قتلَ مائةً مِنْ غيْرِنا، فنحْنُ أوْلى وأحقُّ برحْمَةِ الله مِنْ هذا القاتل؛ لأن أُمَّتنَا خيْرُ الأمم وأكْرَمُها على الله - عز وجل -.
بشّروهم بقولِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-: ((أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ- تبارك وتعالى -: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ- تبارك وتعالى -: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ- تبارك وتعالى -: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)).
فبشّروا ولا تنفّروا، ووسِّعُوا على عبادِ الله ولا تتحجَّروا واسعًا.
ولقد كان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- يُنكر على المنفّرين، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدريّ - رضي الله عنه – قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ والصغير وَذَا الْحَاجَةِ))".
وأعْظَمُ من ذلكَ إخبارُه أنَّ الله يُعذّب الذين يقنّطون النّاسَ من رحمته، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلاَنِ مُتَوَاخِيَانِ، أَحَدُهُمَا مُذْنِبُ وَالآخَرُ فِي الْعِبَادَةِ مُجْتَهِدٌ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لا يَزَالُ يَرَى الآخَرَ عَلَى ذَنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ له: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قال: لاَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ. فَقَبَضَ اللهُ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الربّ - تعالى –للْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-: "تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ".
فبشَروا ولا تنفّروا..
بشّروا المستضعفين في الأرْض من المسلمين بالنَّصر والتَّمكين، ولا تَزْرَعُوا في نفوسهم اليأس، فقد كان يبشّر العُصْبَةَ المؤمنةَ بالنَّصر والتمكين، وقيامِ الدَّولة واتّساعِ الرُّقعة، وهم تَحْتَ وطأة التعذيب.
عَنْ خَبَّابٍ بن الأرتّ - رضي الله عنه – قَالَ: "شَكَوْنَا إلى رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فيها، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فيُوضع عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نصفين، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لحمه وعَظْمِهِ مَا يَصْدُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ من صَنْعَاءَ إلى َحَضْرَمُوتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَستعْجَلُونَ))".
وكان يقول: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ حتى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)).
فبشّروهم.. بشّروهم بأنَّ المستقبلَ لهذا الدين، وأنَّ هذا الإسلامَ ستُفتح له البيوتُ كلُّها، كما قال: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)).
بشّروا المتطلِّعين إلى عَوْدةِ الخلافة الراشدة أنَّها عائدة، كما قال: ((تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ..)).
- الوصية الثالثة ((وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا)):
فإنَّ الخيْرَ كلّه في الاتِّفاق، والشرّ كلَّه في الاختلاف، والاتفاقُ رحمةٌ والاختلافُ عذاب، قال - تعالى -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود:118-119].، فالمرحومون متفقون لا يختلفون، وإذا اختلفوا اختلافًا هم فيه معذورون لا يتباغضون، ولا يتدابرون.
ولقد وصّى اللهُ - تعالى - المؤمنين بالاتِّفاق، ونهاهم عن الاختلاف، ووصّاهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرُّق، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:102-103]، وقال - تعالى -: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ..) [آل عمران:105-106]، قال ابنُ عبَّاس –رضي الله عنهما-: "يومَ تبيضّ وجوهُ أهْلِ السنَّةِ والجماعة، وتسودّ وجوهُ أهلِ الفُرْقَة والضلالة".
وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..) [الأنفال:45-46]، فعصوا اللهَ ورسولَه، وتنازعوا يوْمَ أُحدٍ، ففشَلوا فذهب ريحُهم، وتمكَّن منهم عدوُّهم.
قال - تعالى -: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:152].
وكان من خبرهم أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- عيّن يومَ أُحُدٍ فريقًا من الرُّماةِ للحراسة، وجعل عليهم أميرًا، وأمرهم أن يصْعَدُوا الجبلَ ليحْمُوا ظهورَ المجاهدين، لا يأتيهم العدوُّ مِنْ خلفهم، وأمرهم أن لا ينْزِلوا مهما كانت النتيجة.
فلما التقى الجمْعان مكَّن اللهُ للمجاهدين من الكافرين، فأعملوا فيهم السُّيوفَ وأثْخَنُوا في الأرض، ففرّ العدوُّ هارباً، وتبعهم المسلمون يأسرون من يُدركون ويجمعون الغنائم، فلما رأى الحرَّاس ذلك قالوا: مالنا والبقاء بعد ما انتهى القتال وفرّ العدوّ، وحاول الأميرُ أن يصبّرهم ليثْبُتوا كما أُمِرُوا، ولكن دون جدوى، فنزلوا فلما رأى العدوُّ أنَّ الجبَل قد خلا استدار فريقٌ منهم فعلَوُا الجبلَ، وأخذوا يرمون المسلمين، فكان ما كان.. وأُصيب المسلمون بالقتل والجراحات، وكان ذلك كلَّه بسبب الاختلاف والتنازع وعدم التطاوع.
ولذلك وصّى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- معاذًا وأبا موسى –رضي الله عنهم- حين بعثهما إلى اليمن قائلاً: ((وَتَطَاوَعَا ولاَ تخْتَلِفا))، فإنَّ الاختلاف عمومًا مذموم، واختلافُ الدُّعاة أشدّ ذمًا، ذلك أنهم باختلافهم يصدّون النَّاسَ عن الهدى، ويصرفونهم عن الحق؛ لأنَّ الناس سيقولون انظروا إلى هؤلاءِ الذين يزْعُمون أنهم يدْعُون النَّاسَ إلى الحقِّ وهم مختلفون، فلو كانوا على الحقِّ ما اختلفوا عليه.
فعلى الدُّعاة أن يوحّدوا صفَّهم، ويجتمعوا على كلمتهم، وإذا اختلفوا في شيءٍ حاولوا القضاء على هذا الاختلاف بردّ الأمر إلى الكتاب والسنَّة، كما أمر - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء:59]، حتى تجمل صورتُهم، وتتضح دعوتُهم، فما أجمل الاتّفاق والتَّطاوع وما أقبح الاختلاف والفرقة.
نسأل الله - تعالى - أن يجمع شمل المسلمين، ويوحّد كلمتهم، ويهيئ لهم من أمرهم رشد.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رُشد، يُعزّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى